على باب مسجد السنة بالعاصمة المغربية الرباط تُواجه الزائر لافتة مكتوبة بلغة فرنسية، جاء فيها "ممنوع على غير المسلمين"، نفس العبارة تستقبل الزائر لمسجد مولينة.
وعلى قطعة رخام أبيض باللغتين الفرنسية والإنجليزية نفس التحذير معلق على باب مسجد القصبة بالأوداية، وهو أقدم مسجد بالرباط، بُني في العصر الموحدي في القرن الثاني عشر.
بينما تُعتبر المساجد القديمة والتاريخية مزاراً للسياح المحليين والأجانب في العديد من الدول الإسلامية، وفق شروط وضوابط معينة، إلا أن دخولها في المغرب ممنوع على الأجانب، ولا تُفتح إلا للصلاة.
غير أن ما لا يعرفه الكثيرون أن هذا المنع يعود إلى فترة الاستعمار الفرنسي، حين أراد المقيم العام بالمغرب آنذاك، الجنرال ليوطي هوبير، التقرب إلى المغاربة، فوضع عدداً من القوانين التي تتماشى مع الشريعة الإسلامية.
ممنوعات تركها الاستعمار
ورغم التعديلات التي شملت بنود القانون الجنائي المغربي عبر عقود، ظلت البنود الموروثة عن حقبة ليوطي متضمنة فيه.
ومن هذه المواد تجريم الإفطار العلني في رمضان، إذ ينص الفصل 222 من القانون الجنائي المغربي على أن "كل من عُرف باعتناقه الدين الإسلامي، وجاهر بالإفطار في نهار رمضان، في مكان عمومي، دون عذر شرعي، يُعاقب بالحبس من شهر إلى 6 أشهر وغرامة لا تقل عن 200 درهم".
ويجرم القانون المغربي العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وحدَّد عقوبات ضد مرتكبيها، وحسب الفصل 490 من القانون الجنائي فإن "كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة فساد، ويعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة".
كما أن المملكة المغربية تمنع بيع الخمور للمسلمين، والسُّكر العلني، وتمنع القرض بالربا بين الأفراد، وتحظر التبشير.
وهي قوانين يظهر في بعضها التناقض مع واقع الحال، ففي الوقت الذي يمنع القانون بيع الخمور والكحول للمسلمين ويعاقب عليه، يشكل بيعها أحد المداخيل المهمة لخزينة الدولة.
وأظهرت بيانات موازنة 2022 توقعات بضخ حوالي 1.5 مليار درهم في خزينة الدولة من رسوم استهلاك الخمور والكحول والجعة.
إرث القوانين
ورث المغرب بعد استقلاله ترسانة من القوانين عن الاستعمار الفرنسي، بعضها منقول حرفياً من القانون المدني الفرنسي، وبعضها الآخر تم تعديله حسب ما تقتضيه الشريعة الإسلامية.
وكان للجنرال هوبير ليوطي دور بارز في وضعها، إذ إنه عمل بما سمي "مبدأ التوقير والاحترام" فيما يتعلق بمعتقدات السكان وعاداتهم ومؤسساتهم الاجتماعية، وذلك بهدف إحكام سيطرته على البلاد بدون حرب أو مواجهات عسكرية.
وينقل الكاتب "دانييل ريفي" في كتابه "ليوطي ومؤسسات الحماية" مقولة للجنرال جاء فيها "لم أتمكن حتى اللحظة من إحكام قبضتي على المغرب، إلا بفضل سياستي الإسلامية، إني متأكد من جدواها، وأطلب بإلحاح ألا يفسد عليّ أحد لعبتي".
يقول الباحث في الفكر الإسلامي محمد عبد الوهاب رفيقي، إنه غداة تعيين ليوطي مقيماً عاماً في المغرب بعد فرض الحماية الفرنسية سنة 1912، اقترح على السلطات الحمائية منحه الصلاحية لوضع سياسة مختلفة عن تلك التي نهجتها فرنسا في الجزائر، وأدت إلى صدامات بينها وبين الأهالي بسبب الاعتقادات المحلية.
واتجهت أفكار ليوطي نحو وضع سياسات إسلامية، وسَن قوانين يُظهر فيها احترامه وحفاظه على المعتقدات الدينية المحلية.
وحسب رفيقي، الذي تحدث لـ"عربي بوست"، فإن هذه الحيلة انطلت على كثير من الناس، حتى أطلقوا عليه لقب "الحاج ليوطي"، وادعى بعضهم أنه كان يخفي إسلامه، وعند تعرضه لوعكة صحية خطيرة دعا له عدد من الفقهاء في المساجد وزاروه في بيته، وأهدوه جزءاً من ثوب الكعبة.
وبعد الاستقلال منتصف الخمسينيات، تم الحفاظ على هذه القوانين، وضمنتها السلطات المغربية في أول قانون جنائي مغربي سنة 1962، لأسباب يصفها رفيقي في تصريح لـ"عربي بوست" بالسياسية.
ويرى أن عاملين أساسيين كانا وراء الحفاظ على هذه المواد ضمن القانون الجنائي بعد الاستقلال، أولهما تثبيت المشروعية الدينية لنظام الحكم، خاصة بعد اعتماد صفة أمير المؤمنين ضمن الدستور المغربي.
ومن جهة أخرى لتوظيفها في مواجهة بعض المعارضين للنظام، وخصوصاً التيارات اليسارية، التي كانت معروفة حينها بتمردها على الدين، وبلادينية قادتها الذين كان بعضهم يفطر جهاراً في نهار رمضان بالجامعات.
وإذا كان سياق وضع هذه القوانين في عصر ليوطي وفي فترة ما بعد الاستقلال مفهوماً وواضحاً، فإن رفيقي يستغرب إبقاء تلك البنود إلى اليوم.
يقول لـ"عربي بوست"، "الذي لا يُفهم هو بقاء هذه القوانين سارية إلى اليوم بعد أن اندثرت كل هذه السياقات وتغير الوضع بشكل كبير، وهو ما يدعو بجدية إلى إعادة النظر فيها، خاصة ونحن أمامنا أيام قليلة على الإعلان عن مسودة قانون جنائي جديد".
من هو الجنرال ليوطي هوبير؟
ليوطي هوبير هو ضابط من كبار ضباط الجيش الفرنسي، ذاع صيته وارتبط اسمه بالمغرب، كونه واضع أسس الحكم الاستعماري بهذا البلد.
وحسب المصادر التاريخية فقد طبع حكمه ببصمات اختلط فيها التاريخ بالأسطورة، والأسطورة بأصداء الأغراض الدعائية، إذ إن تأثير ليوطي في تاريخ المغرب المعاصر لم يبتدئ سنة 1912، تاريخ إعلان الحماية الفرنسية على المغرب، كما أنه لم ينته سنة 1925 عند عزله من الإقامة العامة، ولا حتى عند وفاته سنة 1934، ولكن امتد إلى نهاية الحماية سنة 1956.
ولد هوبير ليوطي يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1845، بمدينة نانسي، في إقليم اللورين شرقي فرنسا، كان أجداده من كبار الضباط، وكانت والدته من أسرة تعتز بانتمائها إلى طبقة النبلاء.
عند نقله للعمل في الهند الصينية تعرّف على أحد كبار رجالات الاستعمار الفرنسي، هو "دي لانسان"، الذي يُعتبر مؤسس الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية.
وقد استقى ليوطي منه مبدأ الحماية، القائم على ضرورة اعتماد الدولة الحامية على النخبة الحاكمة في الدولة المحمية، فتعمل على احترامها والالتزام بتقاليدها واستعمال كل ذلك لصالح الاستعمار الأوربي.
عين أول مقيم عام لفرنسا بالمغرب، في أبريل/نيسان 1912، وقام بهذه الوظيفة لمدة 13 عاماً.
وحسب كتاب "معلمة المغرب"، فقد حصل بين السلطان المغربي المولى يوسف والجنرال ليوطي نوع من الوئام، المترتب على رضا السلطان بما كان يبديه المقيم العام من الاحترام للتقاليد المغربية، وعلى رضا المقيم العام بما كان يبديه المخزن اليوسفي من الانبهار "بالإصلاحات"، طالما أنها كانت تنسب للجالس على العرش، وكان ليوطي لا يفتأ يردد أنه ليس سوى "خادم سيدنا الأول".
وحتى بعد مغادرته وظيفة المقيم العام ظلّ يتابع أخبار المغرب، ويُبدي رأيه فيما يحدث نقداً وتأييداً، إلى أن توفي في فرنسا سنة 1934.
وقررت السلطات الحمائية بعد وفاته نقل رفاته إلى الرباط ودفنه في ضريح قرب مقر الإقامة العامة، وصُنع تمثال له من البرونز، ووضع في ساحة في الدار البيضاء حملت اسمه، تقديراً ووفاء من سلطات الحماية لما أسداه من خدمات لتثبيت الوجود الفرنسي في المغرب.
غير أنه غداة استقلال المغرب طالب المغاربة بهدم ضريحه، وإعادة رفاته إلى فرنسا، وهو ما تم في مايو/أيار 1961، فوُري في مثواه الأخير في الانفاليد في باريس، إلى جوار أبطال فرنسا، كما نقل تمثاله إلى مقر القنصلية الفرنسية في الدار البيضاء، وسميت الساحة التي كان منتصباً فيها ساحة محمد الخامس.