في المرة الأولى التي تختبر فيها برداً قاسياً، يرتجف الجسم ويشعر المرء أن قلبه كاد يتوقف، ولكن في المرة التالية لا يختبر ردة الفعل نفسها، ولعلك تتساءل كيف يستطيع سكان المناطق الباردة جداً (مثل روسيا وكندا) السباحة في المياه الباردة. الإجابة تكمن في تقنيات فعالة جداً يستخدمها الجسم فوراً للتعامل مع الحرارة شديدة الانخفاض، وسرعان ما يصبح الأمر مقبولاً وعادياً. فما هي هذه الأدوات؟
إذ تبيَّن أنَّ جسم الإنسان تطور ليوظّف بعض الأدوات المفيدة جداً من أجل التعود على البرد والتأقلم مع أنواع مختلفة من الإجهاد البارد. بل يساعد هذا التعود على البرد في الوقاية من أمراض مثل السكري من النوع الثاني.
التعود على البرد
توجد 3 طرق تتعامل بها أجسامنا مع البرودة:
- التعوّد على البرد: تقليل استجابة الجسم للبرد ورفع درجة حرارة الجلد.
- التكيّف الأيضي: توليد الحرارة من خلال استجابات مثل الارتعاش.
- التكيّف بالخلايا المعزولة: الحفاظ على درجة حرارة الجسم بالاعتماد على طبقات الدهون.
يعتبر التعوّد الاستجابة الأكثر شيوعاً للبشر تجاه البرودة. عندما يلاحظ الجسم عدم زوال المحفز- في هذه الحالة درجة الحرارة المنخفضة- يبدأ تدريجياً التكيّف معه. هذا ما يختبره معظم الناس لدى الخروج في الطقس البارد بصورة متكررة، حيث تختلف الاستجابة الأولى عن المرات التي تليها.
يشبه التعوّد آلية الحفظ والاستذكار، فبدلاً من إهدار الطاقة الجسدية القيّمة في إرسال خلايا عصبية تنذر بالخطر إلى الجهاز العصبي المركزي في كل مرة يشعر بالبرد، فإنَّه يتذكره ويظهر استجابة أقل حدة. لن ترتجف في المرات التالية التي تتعرض فيها للبرد بنفس قدر المرة الأولى، إذ يعتاد الجسم على درجة الحرارة المنخفضة وتحافظ الأطراف، مثل اليدين والقدمين، على الدفء لفترة أطول.
إذ يؤدي انقباض الأوعية الدموية، وهي إحدى آليات التعود على البرد الأخرى، إلى الإصابة بتصلّب الأصابع عندما تنسحب إمدادات الدم بعيداً عن أطراف الجسم للحفاظ على درجة حرارة الجسم الداخلية دافئة لحماية الأعضاء الحيوية.
وهو تماماً ما يحصل مع السباحين في الدول الباردة، إذ يعجزون عن التكيّف على السباحة لمسافات طويلة في المياه شديدة البرودة من أول مرة. يتطلب الأمر أيضاً عملية تأقلم حيوي لعدة مرات.
التأقلم مقابل التكيف
غالباً ما تُستخدم كلمتا التأقلم والتكيف، لكنهما لا يحملان نفس المعنى.
التأقلم هو تغيير فسيولوجي بطيء مؤقت يحدث للجسم، بحيث يسمح له بالتعامل مع بيئة مختلفة– التي تكون في هذه الحالة البرودة الشديدة، حسب ما نشر موقع Webster اللغوي.
يحدث التأقلم في غضون فترة زمنية قصيرة، على مدى بضعة أيام أو أسابيع أو حتى أشهر، ولا يؤثر في العملية التطورية للأنواع.
في المقابل، التكيّف هو عملية جينية تدريجية لا رجعة فيها تتغير من خلالها مجموعة سكانية بأكملها لاستيعاب العوامل البيئية الجديدة على مدى فترة طويلة من الزمن. قد يستغرق حدوث التكيّف أجيالاً متعاقبة.
يحدث التأقلم عندما تنخفض درجة حرارة الجسم الأساسية لفترة مطوّلة على نحوٍ متكرر. يطوّر الجسم حينها مزيداً من آليات التأقلم طويلة المدى التي تساعد أجسامنا في الحفاظ على درجة حرارتها، مثل تدفق أفضل للدم أو طبقات من الدهون.
اكتشف العلماء خلال العقود الأخيرة أنَّ هناك نوعاً خاصاً جداً من الدهون، الدهون البنية، مسؤولاً عن الحفاظ على أجسامنا دافئة، لا سيما في حالة التعرّض للإجهاد البارد المتكرر.
الدهون البنية.. مدفأة داخلية
يحتاج جسمك إلى الأنسجة الدهنية البنية- المعروفة أيضاً باسم الدهون البنية– لأنَّها تساعد في الحفاظ على درجة حرارة الجسم.
تحوّل الدهون البنية الطاقة، التي نحصل عليها من الطعام، إلى حرارة، ولهذا تؤدي دوراً مهماً في الحفاظ على دفء أجسامنا. وعلى عكس الدهون البيضاء العادية، التي تخزن السعرات الحرارية، تحرق الخلايا الدهنية البنية الطاقة وتنتج الحرارة.
تساعد الدهون البنية في الأطفال، على البقاء دافئين، وفي البالغين المعرضين لدرجات الحرارة الباردة، قد تكون الدهون البنية بمثابة رداء داخلي للتدفئة للحفاظ على دفء الدم حيث يتدفق إلى القلب والدماغ من أطرافنا الباردة.
يجادل بعض العلماء بأنَّ الدهن البني قد تطوّر في وقت مبكر في الثدييات وساعد في منحنا نوعاً من الأفضلية على الأنواع الأخرى. يولد الأطفال لديهم الكثير من الدهون البنية لحمايتهم من البرد عند الولادة، لكن الإجهاد البارد هو ما يؤدي إلى تراكم الدهون البنية لدى البالغين.
هل التكيّف على البرد وراثي؟
وفقاً لدراسات أجريت بشأن التكيّف البشري مع الإجهاد البارد على موقع Research Gate للأبحاث العملية، أظهر السكان الأصليون، الذين تأقلموا مع بيئات باردة، تكيّفات تحافظ على دفء أجسامهم لفترة أطول.
في دراسة أجريت على شعوب الإنويت في المنطقة القطبية الشمالية واللابيون في النرويج، كانت أنواع الاستجابات التي ولدتها أجسامهم جراء التعرّض للإجهاد البارد لكامل الجسم مماثلة للأشخاص الموجودين في بيئات مناخية أكثر دفئاً.
في المتوسط، ظلت بشرتهم دافئة لفترة أطول وكان معدل تدفق الدم إلى الأطراف أكبر. ومع ذلك، لم يكن أطفال تلك المجموعات متأقلمين مع الإجهاد البارد بنفس درجة البالغين.
أشارت الدراسة أيضاً إلى أنَّ التأقلم مع البرد ليس وراثياً، بل يحدث نتيجة التعرض المنتظم له بمرور الوقت.
في الوقت نفسه، بيَّنت دراسات أخرى وجود عوامل جينية تتعلق بالقدرة على التكيّف مع البرودة، وتحديداً لدى مجموعات السكان الأصليين في المناخات الباردة، والذين يتمتعون بعلامات جينية مرتبطة بالدهون البنية النشطة.
لذا، فإن الأمر ليس محسوماً من وجهة نظر العلم بعد.