تسببت الحرب العالمية الثانية التي أشعل فتيلها أدولف هتلر بمقتل قرابة 85 مليون حول العالم، كان منهم 11 مليون مقاتل في الجيش الألماني، مع ذلك أيد جمهور عريض شخصية هتلر وأفكاره النازية، وفي فترة من الفترات كان "معبوداً" في ألمانيا والدول الحليفة لها. يعرف علم النفس هذه الظاهرة بكونها اضطراباً يعرف باسم Cult of Personality أو "عبادة الشخصية".. سنتعرف عليه أكثر في هذا التقرير:
ما هي "عبادة الشخصية"؟
تُعرَّف عبادة الشخصية في علم النفس، بأنها "التفاني المبالغ فيه لقائد ذي كاريزما سواء كان قائداً سياسياً أو دينياً أو أي زعيم آخر".
وغالباً ما ترتبط "عبادة الشخصية" بالشخصيات الاستبدادية، مثل بينيتو موسوليني الذي حكم إيطاليا ما بين 1922 و1943، أو الزعيم النازي أدولف هتلر أو حاكم كوريا الشمالية الحالي كيم جونغ أون.
كذلك يرتبط وجود هذه الظاهرة بوجود أنظمة حكم شمولية، مثل النظام الذي ساد الاتحاد السوفييتي خلال حكم جوزيف ستالين على سبيل المثال.
ولكي يضمن الحكام والزعماء والقادة إحداث أكبر أثر ممكن في الجموع ونشر "عبادة الشخصية" في المجتمع، غالباً ما يلجأون إلى وسائل الإعلام بالدرجة الأولى، حيث يصورون أنفسهم من خلالها على أنهم شخصيات خارقة وعظيمة فيتلاعبون بأذهان أتباعهم الذين يبدأون بتبجيل القائد والتفاني في خدمته والإخلاص له.
تاريخ "عبادة الشخصية"
انتشر مصطلح "عبادة الشخصية" على نطاق واسع، بعد أن استخدمه نيكيتا خروتشوف في خطاب ألقاه عام 1956 أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، حيث انتقد العبادة المستمرة لشخصية جوزيف ستالين، الذي توفي قبل ذلك التاريخ بثلاث سنوات، وفقاً لما ورد في موقع Very Well Mind.
ومع ذلك، تم استخدام المصطلح للمرة الأولى في أوروبا قبل ذلك بكثير، وتحديداً في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
أيضاً، لم يكُن خروتشوف أول شخص يستخدم هذا المصطلح في الاتحاد السوفييتي، فقد استخدمه جورجي مالينكوف، خليفة ستالين، لأول مرة في عام 1953 لوصف ستالين وأتباعه.
وفي حين أن المصطلح قد يكون عمره حوالي 200 عام فقط، إلا أن هناك أمثلة على عبادة الشخصية من العصور القديمة، فلدينا الإمبراطور الروماني أوغسطس على سبيل المثال والذي كان مؤلهاً بشكل حرفي في روما، وكذلك كان وضع الكثير من الأباطرة من بعده.
ومن الجدير بالذكر أن خلق "عبادة الشخصية" ونشرها بين الجموع بات أمراً أكثر سهولة في العصر الحديث مع تطور وسائل الإعلام وزيادة الأدوات التي يستطيع المستبدون استخدامها لكسب تأييد أتباعهم.
ويرجع العلماء أول حالة "عبادة شخصية" حديثة إلى عام 1851 عندما استولى نابليون الثالث على السلطة في فرنسا وأعلن في النهاية نفسه إمبراطوراً وحظي بتأييد هائل في سائر أنحاء البلاد.
لكن يعتقد الكثيرون من علماء النفس أن الحالة الأولى في العصر الحديث فعلياً تعود إلى عام 1924 عندما قرر ستالين تحنيط جثة فلاديمير لينين وعرضها على الملأ، وهي الخطوة التي بدأت فيها عبادة شخصية حتى بعد وفاتها.
السلطة الكاريزمية.. سلاح استخدمه الديكتاتوريون عبر التاريخ
قدم عالم الاجتماع ماكس ويبر مفهوم السلطة الكاريزمية، والتي يتفق الباحثون على أنه مفهوم مهم لفهم "عبادة الشخصية".
ووفقاً لويبر، فإن السلطة الكاريزمية يتمتع بها ذلك الشخص الذي " يُعتبر غير عادي ويتم التعامل معه على أنه يتمتع بصفات خارقة للطبيعة أو فوق طاقة البشر أو على الأقل استثنائية بشكل خاص".
وفي الوقت نفسه، تعتمد السلطة الكاريزمية على إخلاص الأفراد التابعين للقائد وثقتهم به.
في هذا السياق، يعتبر تصور المتابعين عن القائد أمراً حاسماً للحفاظ على شرعيته، لذلك يتم استخدام وسائل الإعلام لخلق وتعزيز صورة خارقة للقائد، حتى لو لم يكن يتمتع بمزايد استثنائية في واقع الأمر.
وأبرز ميزات السلطة الكاريزمية أنها تنتقد المؤسسات القائمة في كثير من الأحيان وتسعى إلى إحداث شكل من أشكال التغيير، والذي قد ينتج عنه إصلاحات توصف بـ"الثورية" في معظم الأحيان. على سبيل المثال، بنى الرئيس السوري السابق حافظ الأسد شكلاً من أشكال "عبادة الشخصية" مستخدماً "السلطة الكاريزمية" بعد أن روج لنفسه على أنه "قائد الحركة التصحيحية" التي صححت مسار حزب البعث العربي الاشتراكي وفقاً للرواية الرسمية للسلطة السورية، وعلى أنه قائد "حرب تشرين التحريرية".
كذلك يروج الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي على أنه يجري إصلاحات ثورية بشنه "حرباً على الإرهاب"، ويروج الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله لنفسه على أنه الثائر الذي يواجه إسرائيل.
وكلما تمكن القادة المستبدون من إقناع أتباعهم بوجود أزمة حقيقية لا يوجد من يتصدى لها سواهم، زادت احتمالية وقوع الجموع بفخ "عبادة الشخصية"، إذ يضعون كل آمالهم بشخصية القائد الذي يستخدم وسائل الإعلام بشكل ممنهج لتكريس "السلطة الكاريزيمة" الخاصة به.
كلمة السر: الانتماء ووسائل الإعلام
إذاً: كيف يقوم القادة ببناء "عبادة الشخصية" في مجتمعاتهم؟ كلمة السر في الواقع هي: الانتماء ووسائل الإعلام.
يعمل القائد على ترسيخ سلطته وإضفاء الشرعية عليها من خلال التلاعب الإعلامي والدعاية التي تجعل الأتباع يعتقدون أن هذا القائد هو الوحيد الذي يمكنه تحقيق أهدافهم وتخليصهم من الأزمات التي تمر بها مجتمعاتهم وتأمين مستقبل أفضل لهم.
ومع ذلك، فإن إيمان الأتباع المستمر وتفانيهم لعبادة الشخصية ليس مدعوماً فقط بالطريقة التي يقدم بها القائد نفسه من خلال وسائل الإعلام، إنما يلعب "الانتماء إلى المجموعة" دوراً كذلك في استمرارية عبادة الشخصية حتى لو برهنت المعطيات على فشل القائد في تحقيق وعوده.
الانتماء للجماعة
لكي يضمن الحصول على الاستجابة المرجوة، يلجأ القائد إلى التحدث بلغة أتباعه ودغدغة عواطفهم واللهب على وتر انتمائهم للمجموعة.
ومع الوقت سيعبر تأييدك للقائد بشكل أوتوماتيكي عن تأييدك لانتمائك لدولتك أو عرقك أو ديانتك، وسيعني مخالفتك له الخروج عن سرب الجماعة والكفر بالدولة والدين والعرق.
وفي واقع الأمر، يلبي ضحايا "عبادة الشخصية" حاجتهم إلى الانتماء للمجموعة، من خلال تأييد القائد الذي يقدم نفسه على أنه ممثل لها، هتلر على سبيل المثال كان يسعى- وفقاً لروايته- إلى تحقيق الأمجاد لألمانيا والانتصار للعرق الآري الذي يعتقد أنه الأنقى في العالم، وبالتالي إذا كنت ألمانياً معادياً لهتلر، فهذا يعني أنك معاد لألمانيا وللعرق الآري.
إذاً لضمان انتشار "عبادة الشخصية" في المجتمع، ما على القائد إلا أن يثير التحيز ضد الجماعات الخارجية، وأن يؤكد تفوق مجموعته وكل من ينتمي ويخلص لها.
النتيجة النهائية: تطرف بسبب اندماج الهوية
في النهاية، عندما يتطور الإخلاص للقائد والتفاني بالتبعية له، قد يعاني أولئك المصابون بـ"عبادة الشخصية" من اندماج الهوية، بمعنى أنه يصبح لدى أولئك الأشخاص دمج ما بين هويتهم الذاتية أو الفردية والهوية الجماعية، وتصبح علاقتهم بالمجموعة التي يترأسها القائد علاقة شبيهة بالعائلة، الأمر الذي قد يدفعهم إلى أن يسلكوا سلوكاً متطرفاً للدفاع عن المجموعة، بما في ذلك القتال والموت.
وبالتالي، يمكن أن يصبح الولاء للقائد ومجموعته أكثر أهمية من القيم الأخلاقية في المجتمعات التي تنتشر فيها "عبادة الشخصية".