تحت "جسر الفيات" في العاصمة بيروت، يستقبلك العمّ الثمانيني محمد المغربي المعروف بـ"المغربي" بابتسامته الجميلة وعينيه الخضراوين ونظراتهما الثاقبة، ولحيته البيضاء التي تغطي ذقنه وخديه.
يستقبلك الكُتبي محمد المغربي بمنزله الذي يغلقه بلوح من الخشب، والمكوّن من سرير حديد قديم ومكتبة مليئة بالكتب وراديو قديمة وموقدة حطب، ويحدثك بلطف ومودة عن أهمية العلم والقراءة بروح من المحبة والعفوية، حتى تشعر بأنك تعرفه منذ عشر سنين.
المغربي.. قصة بائع الكتب
هو المهندس محمد إسماعيل المغربي، وُلد في منطقة "كورنيش المزرعة" في العاصمة اللبنانية بيروت سنة 1943، وهو من مرتفعات بلدة كفرشوبا جنوب لبنان على الحدود السورية.
تخرج المغربي في كلية الهندسة المدنية بجامعة القاهرة، ودرس لمدة ست سنوات "قانون العمارة الحديثة"، وعمل محاضراً في الجامعة القانونية في هذا المجال، وزار العديد من البلدان العربية والأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.
يقول المغربي الذي يخلط بين اللهجة المصرية واللبنانية، في حديثه مع "عربي بوست" إنه "عاد إلى لبنان أثناء الاجتياح الإسرائيلي، وسكن مع عائلته في منطقة قصقص، والتحق بـ"منظمة التحرير الفلسطينية" برئاسة ياسر عرفات.
وأضاف أنه أنشأ جمعيتين الأولى "الوطنية للتواصل الاجتماعي والخدمات الإنسانية" والثانية هي "الخدمات المشتركة"، وبدأ مع المنظمة عمله في منطقة "الطيونة" (في قلب العاصمة بيروت)، بهدف التخلّص من الاحتلال الإسرائيلي وقتها.
بعد ذلك، يقول المغربي إنه عمل على مشروع باصات بحرية مع اليابان، يتسع لمئة راكب، ويبدأ من طرابلس (شمال لبنان) إلى بيروت (العاصمة) بتكلفة دولار واحد فقط، وأيضاً من بيروت (العاصمة) إلى منطقة بوابة فاطمة (جنوب لبنان) على حدود فلسطين المحتلة، لكنّه أوضح أنّ الحكومة آنذاك رفضت هذا المشروع واشترطت عليه أن يكون معه شريك مضارب، وبالتالي وضع هذا المشروع الذي درسه لعدة سنوات في الأدراج.
ويسرد لنا أنّه عمل بعد ذلك في التجارة الحرة، في بعض أحياء العاصمة (تجارة المفروشات والأعشاب والأدوات الإلكترونية)، ومن ثم تعرّف على رجل أعمال كبير يُدعى جعجع خوري وعمل معه لمدة أربع سنوات، وقدّم له أرضاً في منطقة ميرنا الشالوحي وبنى عليها منزلاً كبيراً سكن فيه حتى يبقى قريباً من مكان العمل، وبعد أربع سنوات توفي خوري.
حكاية السجن
وبعد 7 سنوات يقول المتحدث إن البلدية وضعت يدها على الأرض، وبدأ من سمّاهم "لصوص الأرض" بمضايقته لتطفيشه من المنزل، وبعد أشهر داهمته قوة يقول إنها ليست أمنية فتّشت المنزل وسرقت المقتنيات التي بداخله، واتهمته باقتناء عملة أجنبية مزوّرة، وهنا يقول المغربي إنه كان لدية فقط 100 دولار مزوّرة حصل عليها من أحد التجار بعد أن باعه إحدى القطع الإلكترونية، ولكنّه لم يستعملها أبداً.
يتابع المغربي أنّه بعد 12 يوماً من الأخذ والرد والتحقيق ووضعه في زنزانة أحد سجون بيروت، تم نقله إلى سجن رومية (هو أكبر السجون اللبنانية يقع في رومية، قضاء المتن، شرق بيروت)، من دون توجيه أي تهمة إليه، وبقي هناك سنة وثلاثة أشهر، ويضيف أنّه أنشأ مكتبة في السجن قرب سريره، ولم يخالط أحداً طوال فترة مكوثه في السجن.
وبعد أن استلمت الوزيرة ريّا الحسن وزارة الداخلية (في 31 يناير 2019 في حكومة الرئيس سعد الحريري) اطّلعت على ملفات سجن رومية بعد الضجة التي حصلت حول السجن آنذاك، ويقول إنّه تم إخلاء سبيله وسجين هندي في ذلك الوقت.
المغربي يقول والدمعة في عينه إنه حين خرج من السجن لم يجد باباً ليطرقه، وعندما زار مكان سكنه لم يجد سوى الدمار على الأرض، ولم يجد شيئاً من أغراضه، ويتابع أنّه مشى على قدميه حتى وصل إلى "جسر الفيات" على كورنيش النهر في بيروت، وبات ليلته هناك على الأرض.
وفي الصباح عندما استيقظ من نومه و"ليلته الجميلة"، كما وصفها، اقترب منه رجل بسيارته الفخمة وأعطاه علب كرتونية مليئة بالكتب، وقال له: "خذ هذه الكتب واسترزق بها".
وبدأ المغربي بترتيب الكتب وبنى مكتبة من الكراتين ومنزلاً له من سرير من الحديد قدّمه له أحد الأشخاص وكرسي بلاستيكي وبعض الأخشاب التي ركبّها فوق بعضها البعض ووضع بها بعض حاجياته، وجعل من هذا المكان منزلاً له ينام ويقضي كل وقته به بين الكتب ولا يفارق المكان سوى للقيام بمشوار مهمّ أو لقضاء حاجاته أو للاستحمام في محطة الوقود المجاورة.
يقول المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست" إنّه يعتمد في طعامه على ما تُقدّمه له بعض الجمعيات والميسورين ومن سماهم "أبناء الحلال".
ولدى سؤاله عن عائلته يقول المغربي إنّ زوجته توفيت ولديه ثلاثة أولاد، شابان يعيشان في إفريقيا وشابة متزوّجة، ولا يريد إدخالهم بمشاكله الخاصة.
قصة مكتبة المغربي
يمتلك المغربي تحت هذا الجسر مكتبة مليئة بالكتب العلمية والثقافية والدينية العربية منها والأجنبية، ويقول إنه يشتري بعض الكتب من سوق الأحد، وبعضها الآخر يقدمها له الميسورون من المثقفين ومحبي الكتب والقراءة، ويضيف أنّه لا "يسعّر" الكتب التي يعرضها، ويصمّم على مقولته "خود الكتاب اللي بيعجبك، وادفع كما تريد وعلى قدر استفادتك من هذه الكتب، وإذا ما معك ما تدفع".
المغربي يقول إنّ وزير الثقافة القاضي محمد مرتضى وعده عندما زاره قبل أيام بأن يحوّل هذه المكتبة إلى مكتبة "راقية".
ويوضح أنّه يعمل على إصدار كتاب خاص له بتوقيعه في الأشهر المقبلة حول لبنان وأوضاعه وتاريخه.
وبعد يومين من مقابلتنا مع العم "المغربي" أقدم مجهولون على إشعال النار في مكتبته ومئات الكتب، وأتت النيران على بعض محتوياته.
وقدم المغربي شكوى في الحادثة إلى مخفر الأشرفية، واتّهم خلال إفادته جيرانه بافتعال الحريق للانتقام منه، على حدّ تعبيره.
في حين أنّ التحقيقات التي يجريها المخفر تحت إشراف النائب العام في بيروت زياد أبي حيدر، تُرجّح أنّ الحريق نجم عن نار يُوقدها المغربي للتدفئة كلّ مساء، والتحقيقات ما زالت جارية لكشف تفاصيل الحادثة.
لا شكّ أنّ المغربي يتمنى أن ينسى الظلم والأسى الذي تعرّض له في حياته، وأن يجد منزلاً يؤويه من البرد والحار والضجيج الذي يعيشه تحت الجسر، وأن يحصل على ضمان لشيخوخته والأيام المتبقية من حياته.