بعد رحلة تصنيع مشبوهة شابتها التجارب غير الأخلاقية على النساء الفقيرات، أحدثت حبوب منع الحمل ثورة في عالم صحة المرأة على مدى العقود الخمسة الماضية. وقد غيَّرت من شكل تنظيم الأسرة بشكل أثر على العالم بأكمله منذ ذلك الحين.
فيما يلي نبذة تاريخية عن حبوب منع الحمل وكيف غيرت تلك العقاقير الثورية حياة المرأة وأثرت على شكل العالم الذي نعرفه في يومنا الحالي.
عملية طويلة شابتها الكثير من الكوارث الأخلاقية
بدأ تطوير حبوب منع الحمل في عام 1950، عندما اتصلت مارغريت سانجر، الناشطة الأمريكية النسوية ومؤسسة منظمة تنظيم الأسرة، بعالم يُدعى غريغوري بينكوس لبدء العمل على وسيلة منع حمل موثوقة وسهلة الاستخدام للسيدات.
كان بينكوس يعمل في معمل مستقل للعقاقير والمواد الكيميائية في ماساتشوستس الأمريكية، وهو يخضع لمؤسسة ورسيستر للبيولوجيا التجريبية، بحسب موقع History للمعلومات التاريخية.
ما سيحدث بعد ذلك كان مفاجأة غير محسوبة. إذ أصبحت حبوب منع الحمل في نهاية المطاف مورداً أساسياً ومهماً لملايين النساء حول العالم حتى اليوم، مما سمح لهن بالتحكم في خصوبتهن وتحديد النسل والتأثير على حياتهن بالكامل.
لكن الطريق إلى اختراع هذا الدواء الذي أصبح منتشراً في كل مكان الآن كان مشوباً بالكوارث الأخلاقية وأساليب بحث غير نزيهة لم تكن لتنجح أبداً في عصرنا الحالي.
صحيح أن صانعي حبوب تحديد النسل مسؤولون بشكل مباشر عن تطوير وسيلة ثورية لمنع الإنجاب- لكنهم ضللوا السيدات اللاتي خضعن للاختبار في المرحلة التجريبية، وكان كثير منهنّ غير مؤهلات من الأساس للمشاركة في العملية.
وفي زجاجة بنية اللون، تم تسويق حبوب منع الحمل لأول مرة في التاريخ في فترة الستينيات تحت اسم "إنوفيد"، كطريقة آمنة للنساء المتزوجات لعلاج اضطرابات الدورة الشهرية.
لكن محتويات تلك الزجاجة البنية الصغيرة كانت مثل القنبلة لتأثيراتها القوية.
إذ سرعان ما دخلت حبوب "إنوفيد" حقبة جديدة من تحديد قابلية النساء على الحمل، ليتم تسويقها لاحقاً كطريقة آمنة ومختبرة سريرياً للسيطرة على القدرة الإنجابية.
وبحسب موقع VOX، كان للحبة مستقبل مشرق منذ اكتشاف هذا التأثير الدقيق، لكن ماضيها الذي تزامن مع سنوات الاستعمار، كان محفوفاً بالمخاطر والمواقف غير النزيهة.
إذ لم يتم إجراء تجارب تلك الحبوب السريرية في مدن الولايات المتحدة، ولكن في بورتوريكو التي كانت تحت الاحتلال الأمريكي آنذاك ضمن تداعيات الحرب الإسبانية الأمريكية منذ عام 1898.
حيث تم إعطاء النساء الفقيرات من تلك الدولة تركيبة قوية من الدواء دون إخبارهن بأنهن يشاركن في تجربة، أو عن أي من المخاطر التي قد يواجهنها. توفيت ثلاث نساء أثناء مرحلة الاختبار السري للعقار- لكن لم يتم التحقيق في وفاتهن أبداً.
مارغريت سانجر والرغبة في تحديد نسل "غير البيض"
يبدأ تاريخ حبوب منع الحمل بواحدة من أكثر الشخصيات تأثيراً في حركة تحديد النسل العالمية، وهي الناشطة الأمريكية مارغريت سانجر.
كانت سانجر على استعداد لتحدي القانون نيابة عن حقوق المرأة الإنجابية. في عام 1916، افتتحت أول عيادة لتحديد النسل في البلاد وتم إلقاء القبض عليها لتوزيعها معلومات عن وسائل منع الحمل التقليدية، وتم تقديمها للمحاكمة لخرق قانون نيويورك.
وبالرغم من الدور الذي يبدو أخلاقياً منها بامتياز، لكن هدف سانجر من الحبوب كان لتقليل فرص إنجاب الأشخاص "غير البيض".
إذ تبنت حينها نظرية مفادها أنه يمكن تقليل أعداد السكان "غير المرغوب فيهم" أو القضاء على نموهم من خلال التحكم في تكاثرهم.
وفي حالة سانجر، كانت تلك المجموعة "غير المرغوب فيها" بمثابة شعوب "معيبة عقلياً وجسدياً". وباستخدام لغة تحسين النسل في ذلك الوقت، جادلت سانجر بأن تحديد النسل يمكن أن يساعد في القضاء على "أعظم تهديد للحضارة".
وبحسب VOX، كانت تقصد بذلك الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع والذين يعانون من أمراض عقلية وإعاقات جسدية وغيرهم.
وعندما قابلت الناشطة عالم الأحياء المثير للجدل غريغوري بينكوس، المتخصص في تكاثر الثدييات آنذاك، سألته عما إذا كان يمكن استخدام عمله لإنتاج حبوب منع الحمل المتاحة مادياً للنساء.
أخبرها أنه سيحاول، لذلك قدم بينكوس مشروعه لسيدة أمريكية ثرية تُدعى كاثرين ديكستر ماكورميك، لتصبح الممول الذي قام بتأمين مشروع ما سيصبح أحد أكثر التجارب العلمية طموحاً وخطورة في القرن العشرين.
تحدي قوانين المجتمع المحافظ بالعمل على حبوب منع الحمل سراً
في ذلك الوقت، كان الجهاز التناسلي للمرأة بمثابة لغز بالنسبة للعلماء، وتم تنظيم تحديد النسل حينها من خلال قوانين الولاية التي جعلت من غير القانوني فعلياً البحث أو التوزيع في أي مواد من هذا النوع.
كانت ولاية ماساتشوستس، حيث بدأ بينكوس عمله في الخمسينيات من القرن الماضي، واحدة من تلك الولايات.
بدأ بينكوس وجون روك، طبيب التوليد الأمريكي، العمل في الخفاء لمعرفة ما إذا كان من الممكن استخدام البروجسترون، وهو هرمون ينتجه الجسم أثناء الحمل، لمنع النساء غير الحوامل من أن يشكلن الجنين.
وبالفعل تمكنت تركيبة معينة في المختبر من منع الحمل في كل من الأرانب والجرذان، فكان السؤال هل ستنجح التركيبة على النساء أيضاً. وبطبيعة الحال كان جواب السؤال يعتمد على التجربة.
تجربة عقار بهذا الهدف كان يهدد بينكوس بالسجن إذا ما تم اكتشاف الطبيعة الحقيقية لأبحاثه. لذلك أجرى الباحث تجربة على عدد صغير من النساء، وأخفى بحثه تحت عنوان "تجارب الخصوبة".
ولكن من أجل الحصول على الموافقة على الدواء، سيحتاج إلى تجربة إكلينيكية أوسع النطاق ومثبتة النتائج. لذلك جاءت فكرة التجربة خارج الولايات الأمريكية، في بورتوريكو.
في نظر بينكوس وسانجر، كانت بورتوريكو المكان المثالي. في ذلك الوقت، كانت هناك طفرة سكانية بالدولة وكان الفقر منتشراً.
تقول المؤرخة الأمريكية نانسي أوردوفر، بحسب موقع Wired، إن مراكز تحديد النسل التابعة لأمريكا في بورتوريكو أصبحت من هذا المنطلق مناطق لتجربة بينكوس السريرية.
كما شاركت غامبل بعمق في سياسة بورتوريكو لتشجيع النساء على الخضوع للتعقيم كشكل من أشكال تحديد النسل. في نهاية المطاف، تم تعقيم ما يقرب من ثلث نساء بورتوريكو- العديد منهن بشكل لا إرادي- بموجب سياسات ضغطت على النساء لإجراء عمليات استئصال الرحم بعد ولادة طفلهن الثاني.
بطبيعة الحال، لم ترغب النساء المتعلمات في تجربة الدواء الجديد خوفاً من الآثار الجانبية، لكن النساء الأقل تعليماً كن يائسات لتجنُّب الحمل ومخاطر عمليات التعقيم.
لذلك ركز بينكوس على تلك المجموعة من النساء خلال التجارب السريرية التي تم تنظيمها في أفقر المناطق في سان خوان والمدن الأخرى بدءاً من عام 1955.
عرفت النساء اللواتي تناولن الدواء أنه يمنع الحمل، لكن لم يكن لديهن فكرة أنه كان تجريبياً وقد يكون بحاجة لبعض التعديلات، كما جهلن حتى إنهن كن يشاركن في تجربة إكلينيكية.
لم يتم إعطاؤهن معلومات السلامة حول المنتج أيضاً، وقد لاحظ الأطباء حينها أن النساء عانين من آثار جانبية خطيرة مثل جلطات الدم والغثيان المستمر والضعف.
وعلى الرغم من التأثير الإيجابي الكبير للحبوب، فإن تاريخها يتميز بعدم الحصول على موافقة المشاركات في تجاربه، ونقص الإفصاح الكامل عن المعلومات، والافتقار إلى الاختيار الصحيح للمشاركات، والافتقار إلى الأبحاث ذات الصلة سريرياً بشأن المخاطر، بحسب وثائق رسمية سجلتها عدة طبيبات أشرفن حينها عن التجارب.
تأثير سلبي خطير مهد الطريق لاحقاً لتطوير حبوب منع الحمل الحديثة
كان هذا الخطر حقيقياً بالنسبة لتلك الحبوب. إذ كانت تحتوي على جرعات من الهرمونات أعلى بكثير من حبوب منع الحمل الحديثة، وتسببت في آثار جانبية كبيرة للنساء.
لكن لم يشعر بينكوس أن الآثار الجانبية مثل الغثيان أو الاكتئاب تستدعي إعادة صياغة حبوب منع الحمل في ذلك الوقت، وكانت آماله وسانجر أكبر بكثير وهمهم الوحيد هو إثبات فاعليتها في "تحديد النسل".
وفي غضون ذلك، توفيت ثلاث نساء خلال التجارب السريرية، لكن لم يتم إجراء تشريح على أجسادهن لمعرفة التأثير الذي أدى للوفاة؛ ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت تلك الوفيات مرتبطة بحبوب منع الحمل فعلاً أم كعرض لأسباب أخرى.
ووفقاً للمعايير الحديثة، كانت المحاكمات السرية غير أخلاقية وغير آمنة، بحسب موقع Very Well Health للصحة والمعلومات الطبية.
النساء اللواتي وافقن على تناول الدواء فعلن ذلك بدافع اليأس والتخويف، ولكن دون الكشف الكامل عما قد يكون على المحك فيما يتعلق بصحتهن على المديين القصير والطويل.
ولكن بالنسبة إلى بينكوس، كانت التجربة ناجحة: الجرعات العالية من الهرمونات جميعها تضمن عدم حمل المشاركات في التجربة، وفي التجارب الميدانية، كانت حبوب منع الحمل فعالة بنسبة 100% تقريباً.
لم يتوقف الباحث عن الاختبار في بورتوريكو، إذ تم تمويل تجربة ثانية بواسطة لاختبار الحبوب أيضاً على النساء والرجال في المصحات العقلية دون موافقتهم وإخطارهم بما يشاركون فيه.
وبالفعل بدأ الباحث في توزيع سري لعقار "إنفويد" كما سماه أخيراً في عام 1957، وكان نجاحاً ساحقاً وفورياً، بحسب VOX.
إذ كانت النساء الأمريكيات على استعداد لفعل أي شيء تقريباً للحصول على هذا الدواء- بما في ذلك التعرض لآثار جانبية مثل تجلطات الدم في مقابل وسائل منع حمل غير مكلفة وفعالة.
في عام 1960، تمت الموافقة أخيراً على العقار كحبوب منع الحمل المعتمدة، إيذاناً ببدء عصر جديد في الصحة الجنسية وتحديد النسل في البلاد.
لكن العديد من الآثار الجانبية للحبوب كانت لا تزال غير مفهومة تماماً، ولم يبدأ العلماء إلا في التعامل مع الاكتئاب لدى النساء اللواتي يأخذن وسائل منع الحمل على محمل الجد.
وبحسب تصريحات الطبيب الأمريكي جوناثان إيج، مؤلف كتاب "ولادة حبوب منع الحمل" المنشور عام 2015، قال: "بطريقة ما تمت معاملة النساء كفئران تجارب في المختبر حتى يتم تطوير شكل من أشكال تحديد النسل".
كانت تلك البداية المشوبة بالانتهاكات والعنصرية والجرائم الأخلاقية، ثمناً باهظاً لتطوير ما نعرفه اليوم من حبوب الحمل الحديثة والآمنة على السيدات، والتي تمكنت من تغيير شكل العالم الذي نعرفه.