مكثت فرنسا في الجزائر 130 سنة، وكانت تظن أنها لن تغادرها أبدا؛ إذ أصدرت مرسوماً بداية احتلالها للجزائر أعلنت فيه للعالم أن الجزائر قطعة لا تتجزأ من فرنسا.
ووفق هذا المبدأ شيّدت فرنسا مدنناً على أنقاض ما دمرته وأحرقته، وأرسلت في طلب المعمرين الأوروبيين لاستنساخ تجربة البريطانيين في شمال أمريكا والإسبانيين والبرتغاليين في جنوبها.
ولأن ارتباط الجزائريين بدينهم ولغتهم كان كبيراً، ظلت المقاومة مشتعلة طيلة السبعين سنة الأولى للاستعمار، كلما هدأت في جهة اندلعت في جهة أخرى.
أما الستون سنة الموالية، فكانت الدائرة لفرنسا حيث فرضت التعليم بلغتها، وأغلقت الكتاتيب، وهدّمت المساجد ومدارس التعليم، وعملت على مسح العربية من الوجود.
أيضاً غيرت فرنسا أسماء المدن في الجزائر، وأطلقت على المناطق والشوارع والأحياء أسماء جنرالاتها وأبطالها الذين قاتلوا الجزائريين ونكّلوا بهم على غرار الجنرالات روفيغو، وكلوزال، وشوفاليه، وغيرهم.
ويبدو أن ابن خلدون كان محقاً حينما قال إن "المغلوب مولوع بتقليد الغالب"، فبعد 60 سنة من الاستقلال، مازال الجزائريون يطلقون على الكثير من شوارعهم الرئيسية وأحيائهم العريقة وحتى مستشفياتهم الكبرى أسماء جلاديهم.
شوارع باسم الجلادين
قد تتفاجأ وأنت تجوب شوارع الجزائر العاصمة وأزقتها أن أسماءها المكتوبة على اللافتات ليست هي المعروفة لدى العامة.
لذلك ينصح دائماً بعدم الاعتماد على العناوين التي تكتب على ظهر الرسائل والبرقيات، كما لا يُحبذ سؤال أحد عن عنوان ما باللغة العربية، فغالباً يكون المسؤول يعرف مرادك ولا يعرفه في نفس الوقت، بمعنى أنه يعرفه بالاسم الفرنسي القديم ولم يسبق له في حياته أن سمعه بالاسم العربي الجديد.
أسماء الأحياء في الجزائر العاصمة بها تناقض عجيب؛ إذ تحمل اسمين في الغالب، أحدهما لجنرال أو قائد فرنسي وآخر لشهيدٍ جزائري.
فمثلاً الحي الكبير الذي بُني عليه أحد أكبر مساجد العالم جامع الجزائر الأعظم، يسمى بحي لافيجري نسبة للكاردينال لافيجري، أكبر مبشر فرنسي ومؤسس الآباء البيض، كما يطلق عليه رسمياً حي المحمدية نسبة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أطلق عليه هذا الاسم بعد الاستقلال للتأكيد على أن الجزائر بلد إسلامي وستبقى كذلك، رغم تبشير الكاردينال لافيجري الذي بدأ سنة 1867.
بالضاحية الجنوبية يطلق الجزائريون على إحدى المدن الصغيرة اسم روفيغو نسبة لأحد أبرز جنرالات فرنسا صافاري دي روفيغو، وهو شخص معروف بتنكيله الجزائريين فترة تعيينه حاكماً عاماً للجزائر بعد احتلالها، بينما يطلق رسمياً على تلك المدينة اسم بوقرة، وهو أحد أبرز قادة الثورة التحريرية (1954-1962)، لكن الناس لا يعرفونه بهذا الاسم.
بأعالي العاصمة لن تجد من يدلك على حي المجاهدين، لكنك ستجد ألفاً ممن يدلونك عن نفس الحي إذا أخبرتهم أنك تريد الوصول إلى حي شوفالي، وسمى الفرنسيون هذا الحي باسم جاك شوفالي ضابط المخابرات، ورئيس بلدية الجزائر في خمسينات القرن الماضي.
أما وسط العاصمة فيطلق الجزائريون اسم الجنرال الفرنسي كلوزال على أحد أهم الأسواق بدل اسمه الرسمي المجاهد فرحات بوسعيد، وكذلك يطلقون على شارع الشهيد دبيح شريف شارع الكاتب الفرنسي فكتور هيغو، وأسماء كثيرة مثل ديزلي بدل ديدوش مراد، وكلارفال بدل فوزية مويلح.
محاولة للتدارك
بعد إيقاف المسار الانتخابي سنة 1991 واستقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، استنجدت المؤسسة العسكرية الحاكمة الفعلية تلكم الفترة بأحد أعظم قادة الثورة التحريرية وعقلها المدبر محمد بوضياف لقيادة البلاد وخلق نوع من الطمأنينة لدى الشارع المتأجج.
وكان بوضياف قد غادر الجزائر بعد الاستقلال مباشرة ليستقر في المغرب، ولم يزر البلاد إلا بعد الاستنجاد به سنة 1992.
ولأن الحنين للأرض التي ولد فيها وقاتل من أجلها كان جياشاً، أمر فوراً بأخذه في جولة بشوارع العاصمة بعد وصوله مباشرة، فركب السيارة وتجوَّل في شوارع العاصمة و"ليته ما فعل"، يقول لأحد مقربيه.
لقد وجد شوارع كبرى تحمل أسماء من قتلوا ونكَّلوا بأجداده، بل بعضها يحمل أسماء من قاتلهم هو وأصدقاؤه من المجاهدين إبان الثورة التحريرية.
لم يتحمل بوضياف ذلك وكان قرار تغيير أسماء الشوارع من أول القرارات التي اتخذها بعد اعتلائه السلطة.
قدمت الجهات المعنية قائمة باسم 250 شارعاً وحياً في العاصمة، تحمل أسماء المعمرين والجنرالات الفرنسيين للرئاسة من أجل تغييرها.
وفعلا أمر الرئيس بوضياف بالانطلاق في تسمية كل الشوارع والأحياء بأسماء المجاهدين والشهداء بدل الأسماء الفرنسية القديمة.
توارث الأسماء الفرنسية
بعد قراره بأسابيع اغتيل الرئيس محمد بوضياف على المباشر وهو يلقي خطاباً جماهيرياً بولاية عنابة شرقي الوطن.
لكن قراره القاضي بتغيير أسماء الشوارع والأحياء ظل سارياً، وفعلاً بعدها بسنة تم تغيير كل الأسماء، لكن للأسف على الورق واللافتات فقط، فلا يزال الجزائريون يورثون الأسماء الفرنسية لأبنائهم فيتناقلونها ولا يعرفون غيرها.
ومع تصاعد العداء تجاه فرنسا أثناء وبعد الحراك الشعبي تحاول الجزائر إعادة الاعتبار لأسماء الشوارع والأحياء المسماة باسم مجاهدي وشهداء وأصدقاء الثورة الجزائرية في محاولة للقضاء على الأسماء الفرنسية التي تأبى الرحيل من عقول وألسنة أغلب الجزائريين.