الآثار ذاكرة الشعوب وخزان هويتها، ولما كانت كذلك، اهتمت الأمم قديماً بتثمينها وصونها، ضد محاولات سرقتها وتهريبها، حتى إن بعض المؤرخين والأركيولوجيين أفرد مؤلفات وأجزاء ضمن كتبٍ لما سموه "حرب الآثار".
وبلغت "حرب الآثار" أوجها حين فترات الانتداب والاستعمار الأجنبي للدول العربية والإسلامية خاصة، ولعل المآثر التاريخية التي تزين متاحف أوروبا وساحاتها الشهيرة شاهدة على هذا الأمر.
المسلة المصرية في باريس واحدة من تلك الآثار التي اجتثت من بيئتها في مدينة الأقصر المصرية، ونقلت بحراً إلى العاصمة الفرنسية باريس، ولا زالت ليومنا هذا تقف منتصبة وسط أشهر ساحات المدينة.
وخلال تدشين طريق الكباش في مدينة الأقصر المصرية في الـ25 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عبّر كثير ممن حضروا الحفل عن استيائهم عند ملاحظة غياب المسلة المصرية البالغ طولها 24 متراً.
وتعد المسلة المصرية في باريس واحدة من زوج مسلةٍ أُقيمت عند مدخل معبد الأقصر، ويرجع تاريخها إلى عهد الملك رمسيس الثاني، أشهر ملوك الأسرة الـ19، حسب تقسيم تاريخ مصر القديم.
هدية أو سرقة.. قصة مسلة الأقصر
في يوم الثلاثاء، 25 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1836، تمت إقامة مسلة الأقصر وسط ساحة "الكونكورد" في باريس بمبادرة من الملك الفرنسي لويس فيليب، أمام أكثر من 200 ألف باريسي تجمعوا في الميدان، وعلى شرفات المباني المجاورة.
عُرضت الجوهرة المصرية على فرنسا عام 1830 من قبل والي مصر حينها محمد علي باشا، كعربونَ صداقة، ويبلغ ارتفاعها 23 متراً وتزن 230 طناً، وهي مصنوعة من الجرانيت الوردي من أسوان، ويبلغ عمرها 3300 عام، ووصلت بحراً إلى وجهتها سنة 1833 بعد رحلة استمرت عامين.
حل بمصر في أغسطس/آب 1828، عالِم المصريات الفرنسي، جان فرانسوا شامبليون، على رأس البعثة الفرنسية التوسكانية، وكان قد فُتن بمسلًتي الأقصر عند أول مرة يراهما فيها.
وكتب في الـ24 من نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1828: "رأيت قصر الأقصر العملاق، تنتصب أمامه مسلتان، ارتفاع كل منهما 80 قدماً (حوالي 24 مترا)، نُحتتا بإتقان من كتلة واحدة من الجرانيت الوردي، فضلاً عن أربعة تماثيل ضخمة لرمسيس الأكبر من الجرانيت الوردي أيضا".
تمكن شامبليون من إقناع محمد علي باشا بالتبرع لفرنسا بهذه الأحجار الكريمة، أي المسلتين اللتين أقيمتا في عهد رمسيس الثاني، في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
الوالي الذي خطط بدلاً من ذلك أن يعرض على فرنسا إحدى مسلّتي الإسكندرية، وإرسال الأخرى إلى إنجلترا، وافق أخيراً، لكن السؤال الذي طرح إذ ذاك هو كيف سيتم نقل عمودين من الأحجار المتراصة، يزن كل واحد منهما أكثر من 200 طن؟
كيف نقلت المسلّة؟
في بداية سنة 1829، كلف تشارلز العاشر، ملك فرنسا آنذاك، وزارة البحرية بابتكار طريقة لجلب المسلة إلى فرنسا.
شيدت فرنسا لهذا الغرض سفينة مستوية القاع سميت "الأقصر"، تستطيع السفر في مياه البحار والأنهار، تفادياً لتكرار نقل المسلة من سفينة إلى أخرى.
غادرت السفينة ميناء تولون الفرنسي في 15 أبريل/نيسان عام 1831، وعلى متنها طاقم من 150 شخصاً يمتهنون حرفاً مختلفة، جميعهم تحت قيادة المهندس "أبوللينير لوبا".
بعد ثورة سنة 1830 والتي شهدت استبدال تشارلز العاشر بابن عمه، لويس فيليب دورليان، لم يتم إيقاف المشروع، وبعد بضعة أشهر، في الـ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1830، قدمت مصر رسمياً هدية إلى فرنسا وهي مسلتا الأقصر، عربوناً للتفاهم الجيد وتكريماً لعمل شامبليون نظير فكه رموز الهيروغليفية.
اختار شامبليون المسلة التي يجب إحضارها أولاً، "الأكثر غرابة، تلك الموجودة على الجانب الأيمن لمدخل القصر".
يقول عالم المصريات لتبرير اختياره المسلة الموجودة على اليمين "لقد بدا هرم المسلة متضرراً قليلاً، لكن جسمها سليم بالكامل، ومحفوظ بشكل مذهل، في مقابل ذلك، تعرضت المسلة الموجودة على اليسار، لكسر بيِّنٍ في قاعدتها".
رحلة الشتاء والصيف
وصف ريمون دي فرنيناك سان-مور، قائد بعثة نقل مسلة الأقصر إلى باريس، في مذكراته وملاحظاته التي حملت عنوان "رحلة سفينة الأقصر في مصر" التي نشرها في باريس عام 1835 تفاصيل الرحلة الشاقة التي ستستمر حوالي سنتين.
وذكر قائد البعثة أن السفينة وصلت إلى مدينة الأقصر في الـ 14 من أغسطس/آب سنة 1831، واقتربت قدر الإمكان من المعبد بفضل حفر قناة طولها 400 متر سمحت بحمل المسلة على ظهر السفينة في الـ 19 ديسمبر/كانون الأول 1831.
وأضاف أنه وجب على الطاقم الانتظار مدة ثمانية أشهر إلى حين انتهاء فيضانات النيل، قبل أن يتمكن من استئناف رحلته في الـ 18 أغسطس/آب من العام التالي.
في أكتوبر/تشرين الأول 1832، واجهت الطاقم مشكلة ملاحية جديدة أعاقت المسير تمثلت في كتل رملية عند مصب نهر النيل، فكان على السفينة الانتظار مرة أخرى حتى 1 يناير/كانون الثاني 1833، قبل أن تتمكن من الانطلاق، عند الوصول إلى الإسكندرية، كان على "الأقصر" الانتظار حتى 1 أبريل/نيسان 1833 ونهاية عواصف الشتاء لاستئناف رحلتها.
المسلة تصل باريس
بلغت السفينة مدينة تولون ليلة الـ10 والـ11 مايو/أيار 1833، لتصل المسلة أخيراً إلى باريس في الـ23 ديسمبر/كانون الأول 2021 من نفس العام، بعد أن تم سحبها عبر البحر الأبيض المتوسط، مروراً بإسبانيا، وعبوراً لنهر السين عبر مدينة روان.
ولكن بمجرد وصولها إلى فرنسا، ظهرت مشكلة جديدة: فبينما كانت المسلة مغطاة بالكتابات الهيروغليفية التي تروي انتصارات رمسيس الثاني، تم تزيين قاعدتها الأصلية بستة عشر قرداً يقفون على أرجلهم الخلفية، مما يترك لمحة عن جنسهم.
وكان هذا يعتبر غير لائق في ذلك الوقت، وبالتالي تقرر استبداله بقاعدة تقليدية، بينما انضمت القاعدة الأصلية إلى مجموعات متحف اللوفر.
في يوم الثلاثاء، 25 أكتوبر/تشرين الأول 1836، وبعد سنوات من الانتظار، أقيمت مسلة الأقصر أخيراً وسط ساحة "الكونكورد"، بين شارع الشانزليزيه وJardin des Tuileries 4(حديقة تويلري)، ليتم وضع نصب المسلة في هذا المكان حداً للجدل السياسي.
ونصبت المسلة فيه في ساحة ملكية تم بناؤها تكريماً للملك لويس الخامس عشر، وقد أصبحت الساحة بالفعل خلال الثورة الفرنسية مكانًا مقصوداً للتمرد حيث انتهى الأمر بلويس السادس عشر تحت المقصلة.
في صباح باكر من الـ 25 أكتوبر/تشرين الأول 1836، تجمع ما يقرب من 200 ألف باريسي في الساحة وعلى الشرفات المحيطة قرب شارع الشانزليزيه ليشاهدوا المهندس Apollinaire Lebas يدير عملية تركيب الرفع المحفوفة بالمخاطر والتي تتطلب آلات، وكابلات، ونظام ثقل موازن بارع.
خلال العملية بأكملها يبقى المهندس طواعية تحت المسلة حتى لا ينجو في حالة وقوع حادث، وبالتالي يتجنب العار، ولحسن حظه، تمت العملية بنجاح وثبتت المسلة بعد بضع ساعات.
بعد مراقبة نصب المسلة بتكتم من فندق Hôtel de la Marine حتى تتمكن من الانزلاق بعيداً في حالة سقوطها، ظهر الملك لويس فيليب أخيرًا على شرفة الفندق بصحبة العائلة المالكة وتلقى ترحيباً حاراً من الحشد، أما شامبليون، الذي توفي عام 1832، فلم يدرك إكمال عمله.
تم إدراج المسلة نصباً تاريخياً سنة 1936، وتُعد اليوم أقدم نصب تذكاري في باريس، يعلوه منذ عام 1998 هرم مصنوع من البرونز وأوراق الذهب، وأعاد الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران المسلة الثانية، إلى مصر سنة 1981، وأعلن أنه تخلى نهائياً عن الاستحواذ عليها.
إعادة ترميم المسلة المصرية في باريس
بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لفك رموز الهيروغليفية من قبل عالمة المصريات الفرنسية، روزلين باشيلو، أعلنت وزيرة الثقافة الفرنسية عن ورش ترميم المسلة عقب توقيع اتفاقية رعاية في الـ27 من أكتوبر/تشرين الأول مع شركة التنظيف الألمانية Kärcher.
وبينما بدأ تركيب السقالات التي يزيد ارتفاعها عن 30 متراً، من المتوقع أن يبدأ العمل في يناير/كانون الثاني 2022 وينتهي في يونيو/حزيران من نفس السنة.
ولأكثر من 30 عاماً، شاركت شركة Kärcher في العمليات المتعلقة بالآثار مثل ترميم المنحوتات الضخمة في فناء المدرسة الوطنية للفنون الجميلة (ENSBA) أو تنظيف بوابة براندنبورغ في برلين (ألمانيا).
ولمعالجة أقدم نصب تذكاري في باريس، سيتعين على الشركة استخدام التقنيات الدقيقة التي فرضتها المديرية الإقليمية للشؤون الثقافية في إيل دو فرانس وتحت إشراف المهندس الرئيسي للآثار التاريخية فرانسوا شاتيلون.
وأكد فرانسوا شاتيلون لصحيفة "لوباريزيان" الفرنسية أنه سيتم إجراء عملية السفع الرملي الدقيق والتنظيف بضغط بخار الماء المنخفض على المنصة المزينة بالهيروغليفية المكونة من الصخر وقاعدة الجرانيت الوردي. كما سيتم وضع الإسفنج على الزخارف المحفورة والمطلية بالذهب.
ورغم الإجماع النسبي للمؤرخين فإن الأمر اتخذ شكل هدية أو صفقة بالتراضي بين والي مصر العثماني محمد علي باشا والفرنسيين، إلا أن عدداً من الباحثين والمهتمين بالحضارة المصرية رأوا في الأمر تفريطاً في ملك جماعي لا ينفرد شخص بعينه بالحق فيه، ولو كان سلطانا أو ملكاً.
وقد كان رفاعة الطهطاوي، رائد حركة التنوير الفكري في مصر خلال القرن التاسع عشر، من أوائل من اعترضوا على نقل المسلة بعد عودته من بعثته العلمية في باريس؛ إذ اعتبر الخطوة بمثابة إهدار للثروة القومية، وسجل اعتراضه في كتابه الشهير "تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز".