عوضاً عن القدرة على تجربة مجموعة كاملة وصحية من المشاعر الطبيعية، غالباً ما يعلق الشخص الساعي إلى الكمال بين نوعين لا ثالث لهما من المشاعر الأساسية، وهما الخوف الشديد مقابل الراحة والاطمئنان.
ويتكرر نمط الأرجوحة لدى المصاب بالكمالية من الرهبة والراحة إلى ما لا نهاية في حياته إذا ما لم يعمل على التعافي والعلاج، وغالباً ما يكون الأزواج والأطفال هم الضحايا عاثرو الحظ في هذه الرحلة الشاقة والمُضنية.
في هذا التقرير نستعرض كيف من الممكن لاضطرابات السعي إلى الكمال أن تدمر العلاقات وتهدد أي فرصة لاستمرارها؟ وكيف من الممكن التعامل مع تلك المشكلة بشكل صحي ملائم؟
متى يتحول السعي إلى الكمال إلى لعنة تلاحقك ومن حولك؟
السعي إلى الكمال هو عندما يكون الشخص غير قادر على تقييم الأشياء سوى باللونين الأبيض أو الأسود.
وهو يتضمن الحاجة إلى أن يُنظر إليك على أنك لا تشوبك شائبة، ولا تقوم بارتكاب أخطاء أبداً، وترقى فقط إلى مستويات عالية للغاية في كافة الأمور.
ومن بين السلوكيات الشائعة للكماليين هي النقد الذاتي و / أو نقد الآخرين.
وبحسب موقع Very Well Mind للصحة النفسية، غالباً ما يتمحور السعي إلى الكمال حول نمط تفكير "كل شيء أو لا شيء على الإطلاق"، أو "يجب أن يكون الأمر مثالياً وإلا لن يكون له أي قيمة".
وبالنسبة لبعض الكماليين، فإن الخوف من الفشل هو تهديد دائم يؤدي إلى التسويف والقلق المزمن والاكتئاب. وبدلاً من التركيز على النجاح، يميل تركيز الشخص على "تجنُّب الفشل" بكل وسيلة ممكنة.
الأسباب التي تدفعك إلى أن تكون ساعياً إلى الكمال
يمكن أن تسهم العديد من العوامل في أن تصاب باضطراب السعي إلى الكمال. ومن بينها ما يلي وفقاً لموقع Good Therapy للعلاج النفسي:
1- المعاناة من القلق والخوف من تلقي الاستنكار من الآخرين، أو الشعور بعدم الأمان وعدم الكفاءة.
2- المعاناة من اضطرابات الصحة العقلية مثل القلق أو اضطراب الوسواس القهري (OCD). وفي حين تم تأكيد علاقة بين الوسواس القهري والكمالية، لكن ليس كل الأشخاص الذين يعانون من الكمالية يعانون من الوسواس القهري، والعكس صحيح.
3- الآباء المثاليون أو الذين يعبرون عن رفضهم المستمر عندما لا تؤدي جهود أطفالهم إلى نتائج مثالية. إذ قد يشجع بعض الآباء أطفالهم على النجاح في كل مجال بقدر إمكانياتهم، أو يدفعونهم بالكمالية لدرجة قد ترقى إلى الإساءة العاطفية أو emotional abuse.
4- الطفولة غير الآمنة أيضاً من أبرز مسببات اضطرابات السعي إلى الكمال.
ويعاني الأشخاص الذين لديهم ارتباط مضطرب مع والديهم عندما كانوا صغاراً من مواجهة صعوبة في تهدئة أنفسهم مثل البالغين. وقد يواجهون صعوبة في قبول نتيجة جيدة على أنها جيدة فعلاً إذا ما لم تكن مثالية تماماً.
5- النجاحات المتعددة قد تدفع بالشخص لتجاوز الحد في رؤية وتقييم نفسه، إذ يشعر الأشخاص الذين لديهم تاريخ حافل بالإنجازات أحياناً بضغط كبير للارتقاء إلى مستوى إنجازاتهم السابقة. وهذا غالباً ما يؤدي بهم إلى الانخراط في سلوك مثالي.
6- كما قد يشعر الأطفال الذين يتم الثناء عليهم بشكل متكرر على "إنجازاتهم الاستثنائية" بالضغط البالغ من أجل مواصلة الإنجاز مع تقدمهم في العمر، ما قد يتسبب أيضاً في ميول تسعى للمثالية المتواصلة.
الكمالية غالباً لا يدركها المصابون بها
بطبيعة الحال، لا يختار معظم الكماليين أن يتبعوا تلك العادات. بل يكونون مدفوعين تجاهها بدون نية مسبقة، أو حتى بدون وعي كامل بتأثيرها عليهم أو على الآخرين من حولهم.
ومن المرجح أن يكونوا على دراية بالعواقب، مثل تسببها في شعورهم بالقلق أو الإحباط أو خيبة الأمل المتواصل.
وبشكل عام، يتزامن الأمر دوماً مع وجود تاريخ من الصدمة أثناء الطفولة المبكرة. وتُظهر الأمثلة التالية من التجارب السريرية شكلين مختلفين من الكمال، يتضمن كل منهما تاريخاً من الصدمة، وفقاً لموقع Psychology Today لعلم النفس.
أمثلة على صدمات الطفولة التي تسبب أزمة السعي إلى الكمالية
1- الكمالية الذاتية
ماري شابة ذكية وجميلة تحتاج إلى أن تكون مثالية في مظهرها ونظافة منزلها وجودة عملها. وقد حظيت الشابة بسلسلة من العلاقات المخيبة للآمال لم تستطع أن تسمح فيها للشخص الآخر بمعرفتها على حق، خوفاً من اطلاعه على عيوبها.
إذ أدت حاجتها إلى الحفاظ على مظهرها الكامل إلى عدم قدرتها على التواصل الحقيقي مع الآخرين.
وتمتلك ماري تاريخاً من الإهمال العاطفي في مرحلة الطفولة والاعتداء الجنسي خلال سنوات مراهقتها المبكرة.
2- الكمالية الموجهة نحو الآخرين
جاك مهندس ناجح كانت شكواه الرئيسية هي "كسل وقذارة" زوجته.
وبحسب أخصائي الاستشارات الزوجية لهما، كانت زوجته في الواقع شخصية
ذكية وصبورة ومكتفية بشكل عام بحياتها، باستثناء قدرتها على احتمال النقد المستمر الذي تتلقاه من جاك.
تضمنت انتقاداته طريقة تحميلها لغسالة الصحون، وطريقة تنظيفها بالمكنسة الكهربائية، والطريقة التي تخرج بها الكلب للتنزه.
وقد أصبحت انتقاداته غاضبة بشكل متزايد وجارحة لمشاعرها، ما دفعها إلى التفكير في الانفصال والطلاق.
وتضمن تاريخ طفولة جاك أباً مسيئاً له جسدياً ولفظياً، ولم يتمكن جاك من نيل رضاه أبداً. وبالتالي كان يعكس عدم كفايته ذلك على الآخرين.
وبينما كانت ماري تعكس كماليتها على نفسها، كان جاك يميل إلى الكمال في زوجته.
ويمثل هذان المثالين الأشكال الثلاثة للكمالية – الكمالية الذاتية، والكمالية الموجهة نحو الآخر.
أما عن الشكل الثالث، فهو الأقل احتمالاً للتسبب في مشاكل العلاقات، وهو الكمالية الاجتماعي. وتحدث عندما يشعر الشخص بأن الآخرين دائماً ما يتوقعون الكمال منه، بغض النظر عن أدائه.
تأثير الكمالية على العلاقات
عندما يتأثر الشخص بالفشل بشكل حاد، ويمتلك معايير غير واقعية لنفسه ولمن حوله، فغالباً ما تنطبع هذه التوقعات على علاقاته الأهم، وعلى رأسها الزواج.
وبالنسبة لأي شخص متزوج من شخص يسعى إلى الكمال، يكون ذلك سبباً للشعور بالضغط والسلبية والتوتر والقلق والاكتئاب.
ويمكن تحديد إذا ما كنت في علاقة مع شخص يعاني من اضطراب السعي إلى الكمال عن طريق النقاط التالية التي حددها موقع Marriage للعلاقات:
- هل تشعر بالانتقاد في كثير من الأحيان؟
- هل يعبر شريكك عن خيبة أمله فيك بانتظام؟
- هل يتحكم شريكك في مجالات حياتك لأنه لا يثق بك لإنجاز المهام وفقاً لمعاييره؟
يمكن أن تكون هذه علامات على أن شريكك يعاني من القلق المتعلق بتسليمك السيطرة. لكن تذكر أن السعي وراء الكمال يغذيه الخوف من الفشل، وإذا كان شريكك لا يعتقد أنه يمكنك إكمال المهمة على أكمل وجه، فإن ذلك حتماً ما سيزيد من قلقه.
نتيجة لذلك، قد تتجادل بصورة متواصلة مع زوجك/زوجتك حول السماح لك بفعل الأشياء على طريقتك، أو ببساطة تقوم بالتخلي عن السيطرة لتجنب الخلاف بشكل كامل.
ولا يُعتبر أي من هاتين الاستراتيجيتين أفضل خيار أو علاج على المدى الطويل.
إذ قد يصاب شريكك بالإرهاق من كم المهام التي عليه القيام بها عوضاً عنك، كما قد تشعر بالاستياء والغضب من سلوكه. من ناحية أخرى، قد يجد أولئك الذين يتحدون السعي إلى الكمال أن الصراع يزداد بمرور الوقت مع عدم وجود حل في الأفق.
طرق التعامل مع الكمالية بصورة صحية
1- حدد المشكلة
لا يمكن إصلاح أي مشكلة إذا لم نكن نعرف ما هي.
لذلك إن كنت تشك في أن شريك حياتك يعاني من الكمالية، فقم بمناقشته بطريقة لطيفة وهادئة وغير اتهامية.
أما إن كنت أنت الشخص المضطرب بالمثالية، فاعلم أنه كلما زادت معرفتك بالمشكلة المطروحة، كان من الأسهل اكتشاف الخطوة التالية للتعافي.
2. الحصول على الاستشارة الفردية و / أو الزوجية
يحتاج الشخص المثالي في العلاقة إلى تعلم استراتيجيات المواجهة لإدارة قلقه وزيادة ثقته بنفسه وبمن حوله.
ويُعد العمل مع محترف مرخص متخصص في القلق خطوة ضرورية لتحسين الوضع. غالباً ما تكون الاستشارة الزوجية فكرة جيدة أيضاً إذا كان كلا الشريكين غير متأكدين من كيفية تغيير الديناميكية السابقة في علاقتهما بسبب السعي المفرط للمثالية غير المُتحققة.
3. التواصل نقطة محورية
كما هو الحال في جميع جوانب مشاكل الزواج، يمكن أن يكون التواصل الصادق والواضح هو الفرق بين الزواج القوي أو الزواج المتعثر المفضي إلى الطلاق.
وعلى الرغم من صعوبة الانفتاح والمصارحة والاعتراف بالمشكلة، فمن المهم أن يشعر كلا الشريكين بأنه يمكن سماع طلباته ومشاعره.
إذ يمكن للتواصل البناء والتفاهم والرحمة والاحترام بين الشركاء أن يساهما في تسهيل التعافي بالكامل. لذلك تأكد من تحديد موعد للاتصال المنتظم بينكما.
4. اعرف حدودك
بالنسبة للشريك المتزوج من شخص يسعى إلى الكمال، من المهم بالنسبة لك أن تتمسك بمعاييرك وقناعاتك دون أن تتأثر سلباً بتقييمات شريك حياتك النقدية.
ومع ذلك، قد تحتاج إلى مشورة فردية مع أخصائي نفسي لتعلم هذه المهارة.
أما في حال كان شريك حياتك حاسماً أو يريد تولي مهمة ما لأن قلقه بالغ، ذكّره بلطف أين يجب أن يتوقف قلقه ويبدأ بالاستلام والثقة فيك. وتذكر دوماً أن الأمر سيكون أسهل مع التدريب والتكرار.
العمل مع اضطراب السعي إلى الكمال في العلاقات هو بلا شك عمل شاق. لذلك يجب أن يكون كلا الشريكين مصممين على إنجاح العلاقة، حينها يمكن لهما الخروج من تلك التحديات بزواج أقوى وأكثر صحة وأقل كمالية بشكل مثالي تماماً.