عندما يستعيد محققو الكوارث الجوية مسجلات الرحلة من حطام طائرة منكوبة- أو ما يُسمى الصندوق الأسود، سيكون عليهم ضمنياً أن يتوجهوا بالشكر لطيور نقار الخشب ذات البطون الذهبية، لأنها ساهمت بشكل غير مباشر في الحفاظ على بيانات الرحلة من الضياع.
ويعود ذلك إلى نجاح العلماء في اقتباس إمكانية هذا الطائر في امتصاص الصدمات دون أن يتعرض لأي أذى، بالرغم من نقره الشديد والمتتابع بمنقاره في جسم خشبي صلب يتمثل في شجر الغابات.
إمكانيات رأس نقار الخشب يمكنها حل المعضلة
وتُسمى عملية "الفرملة" التي يعانيها جسم نقار الخشب عند النقر المتتابع باسم "سرعة التباطؤ"، ويستطيع رأس نقار الخشب أن يتباطأ في السرعة بمقدار يصل إلى 1200 غرام عندما يدق على الشجرة بمعدل يصل إلى 22 مرة في الثانية.
في المقابل، قد يُصاب البشر بارتجاج في المخ إذا عانوا من 80 إلى 100 غرام من الاهتزاز، لذلك لم يكن واضحاً كيف يتجنب نقار الخشب أن يُصاب بتلف الدماغ.
بمعنى آخر، يدق نقار الخشب منقاره في الأشجار بمعدل مذهل من 18 إلى 22 مرة في الثانية، مما يعرض أدمغته لقوة تباطؤ تبلغ 1200 غرام مع كل ضربة.
وهذا الرقم يُعد أكثر بـ100 ضعف من قوة التسارع المطلوبة لإصابة لاعب كرة قدم بارتجاج، وفقاً لبحث أجراه اتحاد كرة القدم الأمريكي.
وبحسب موقع Research Gate العلمي، عندما قام العالمان سانغ هي يون وسونغمين بارك من جامعة كاليفورنيا، عام 2011، بدراسة التصوير بالفيديو والأشعة المقطعية لرأس وعنق الطائر، وجدا أن لديه 4 عوامل تمتص الصدمات ميكانيكياً.
وأول العوامل الماصة للصدمات منقار الطائر الصلب والمرن في آنٍ واحد، بالإضافة إلى هيكل داعم على شكل لسان يمتد خلف الجمجمة ويُسمى اللامي، وكذلك وجود بقعة من العظام الإسفنجية في الجمجمة، علاوة على الطريقة التي تتفاعل بها الجمجمة والسائل النخاعي بحيث يقمعان تأثير الاهتزاز المتكرر.
ولمزيد من التوضيح حول تلك الأجزاء، وخطوات تأثيرها عند تلقي الصدمات، يمكن الاطلاع على الرسم التوضيحي المرفق بمدونة Lizzie Harper للعلوم.
اقتباس عوامل امتصاص الصدمات وتصنيعها في المعمل
بحسب كتاب "From woodpeckers to helmets – من نقار الخشب ووصولاً لخوذات الرأس"، حاول الباحثون إيجاد نظائر اصطناعية لكل هذه العوامل حتى يتمكنوا من بناء نظام امتصاص صدمات ميكانيكي يستطيع حماية الإلكترونيات الدقيقة التي تعمل بطريقة مماثلة.
ولتقليد مقاومة منقار الطائر، استخدموا غلافاً معدنياً أسطوانياً. وتتم محاكاة قدرة اللامي في الدماغ على توزيع الأحمال الميكانيكية بطبقة من المطاط داخل تلك الأسطوانة. كما تمت محاكاة سائل الجمجمة النخاعي بطبقة من الألومنيوم.
ولاختبار نظامهم الجديد، وضع الباحثان يون وبارك هذا الابتكار داخل رصاصة، واستخدما مسدساً هوائياً لإطلاقه على جدار من الألومنيوم.
وبالفعل، وجدا أن نظامهما يحمي الأجهزة الإلكترونية الموجودة بداخله ضد الصدمات التي وصلت إلى قوة 60 ألف غرام. ومن هذه اللحظة الفارقة، صار بإمكان مسجلات الطيران اليوم أن تتحمل صدمات تصل إلى 1000 غرام في قوتها.
ويقول يون وفقاً لموقع New Scientist: "نحن نعرف الآن كيفية منع كسر الأجهزة الدقيقة من الصدمات الميكانيكية، كما يبحث معهد في كوريا الآن في بعض التطبيقات العسكرية للتكنولوجيا".
التغلب على الحوادث والصدمات
بالإضافة إلى دور هذه التقنيات في حماية إلكترونيات الرحلة المُسجلة، يمكن أيضاً استخدام ممتص الصدمات في القنابل "الخارقة للتحصينات"، وكذلك لحماية المركبات الفضائية من الاصطدامات مع النيازك الدقيقة والحطام الفضائي، بحسب موقع Popular Science.
كما يمكن استخدامه لحماية الإلكترونيات في السيارات عند تعرُّضها للاصطدام والحوادث.
ويقول كيم بلاكبيرن، المهندس في جامعة كرانفيلد بالمملكة المتحدة، والمتخصص في دراسات تأثير صدمات السيارات: "هذه الدراسة هي مثال رائع على كيفية قيام الطبيعة بتطوير هياكل متقدمة للغاية لحل ما يبدو في البداية أنه تحدٍّ مستحيل".
ويقول نيك فراي، الرئيس التنفيذي لفريق فورمولا 1 مرسيدس جي بي بتروناس بالمملكة المتحدة لـNew Scientist، إن مثل هذه الأفكار يمكن أن تعزز الحماية من التصادم للسائقين المشاركين في رياضات السيارات.
موضحاً: "إحدى المشكلات الكبيرة في الفورمولا 1 هي حماية السائق من خلال جعله يتباطأ في حالة وقوع حادث بطريقة لا تتحول فيها أعضاؤه الداخلية ودماغه إلى هريسة!".
واختتم بقوله: "نقوم بذلك من خلال تصميم ذكي للمركبات، وأحزمة أمان متطورة للغاية، ونظام تقييد لحماية الرأس والرقبة من الارتطام".