العدالة وأجنحتها المتكسّرة.. تجربتي كخبيرٍ في محكمة لبنانية

تم النشر: 2021/08/18 الساعة 09:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/18 الساعة 09:35 بتوقيت غرينتش
القضاء في لبنان/ Istock

في مقتبل حياتي المهنية، تم تعييني كخبير في قضية مالية كبيرة بين متخاصمَين معروفَين في البلد. قمت بإجراء ما رأيته مناسباً من تحقيق واستقصاء وتحليل، وكتبتُ تقريراً أعتبره في غاية المهنية والاحتراف والحياد.

تم تعيين جلسة للنظر في تلك القضية، وكانت أول مرة أدخل فيها قاعة محكمة في لبنان (دخلت قبل ذلك بسنوات كشاهد في قضية سير في الولايات المتحدة الأمريكية). دخلتُ وفي ذهني ما كنت أراه في الأفلام حيث يجلس الخبير على كرسي وثير في قاعة في غاية الفخامة، تعكس هيبة القضاء ومكانة العدل، ويتمُّ سؤاله بكل احترام عن حيثيات التقرير.

دخلت بثياب اخترتها بعناية إلى قاعة المحكمة، بذلة وربطة عنق وحذاء جديد، وحقيبة جلدية وأوراق ومستندات. هالني ما رأيت. كراسي قديمة وطاولات عفا عليها الزمن وسقف يكاد يتهاوى، وجدران متسخة. جلست في آخر مقعد في الخلف أنتظر أن يحين موعد القضية التي أنا بصددها. فوجئت بأن قضيتي هي آخر قضية سيُنظر فيها بعد عشرات القضايا.

سَلَّمتُ أمري لله وبدأت أستمع إلى القضايا وإلى حُجج المحامين والمتخاصمين. وكلما مرّت قضية، كنت أزداد يقيناً حول حجم المظالم الموجودة في هذا البلد. رجل يبكي لأن حقه مهضوم منذ سنوات وهو "يُجرْجَر" من جلسة إلى أخرى. امرأة معروفة في الوسط الثقافي في لبنان يختنق صوتها عند القاضي وهي تبحث عن حل لقضيتها. وآخر مُدَّعى عليه مُسن يكاد لا يقوى على السير يقف أمام القاضي وذهنه شارد وكأنه في عالم آخر.

بعد حوالي ثلاث ساعات حان وقت القضية التي أنا بصددها وكانت آخر قضية ينظر فيها القاضي لذلك اليوم، وقد خلت القاعة إلا من بعض المساعدين ومحامي المدعي ومحامي المدَّعى عليه. تقدمتُ إلى طاولة صغيرة مرتفعة تجاه القاضي وعلى يميني محامي المدعى عليه وعلى يساري محامي المدعي. لا كرسي أجلس عليه ولا طاولة ملائمة أفرِدُ عليها أوراقي، والمحاميان ملاصقان لي كظلّي. شعرت بانزعاج كبير وقد تشوّهت الصورة المنطبعة في ذهني عن قاعات المحاكمات المهيبة، والقيمة والاحترام الممنوحَين للخبراء في الكثير من بلاد العالم.

صعقني السؤال الأول وقد ارتفع صوت القاضي كالرعد، وكأني لم أكن أسمعه لثلاث ساعات خلت. وبدأ سيل الأسئلة بطريقة آمِرةٍ مُرعبة مُتهكمة: "أين؟ كيف؟ ما هو تفسيرك؟ اشرح هذا؟" ومحامي المدعي، الذي لم يعجبه التقرير كما يبدو، يشاركه في قصف الأسئلة على رأسي، والزبد المتطاير من فمه يصيبني ويكاد لا يخطئني. أحسستُ كالتلميذ الصغير الذي لم يؤدِّ واجبه، وأستاذه المستطير غضباً ينهره ويؤنبه.

"سعادة القاضي، وضعت شكلاً توضيحياً في الصفحة كذا"، "نعم، أجريت تحليلاً يمكنك الرجوع إليه في الملحق"، "لقد أوضحت ذلك في الفقرة الثالثة من القسم كذا". عبثاً كنت أحاول مع قاضٍ استصعب عليه التحليل المالي، أو لم يفهم بعض حيثيات التقرير، أو لعله لم يستطع- وهذا المرجح- أن يقرأ التقرير من الأساس؛ إذ كانت الأجوبة لمعظم أسئلته مطروحة في التقرير بطريقة أو بأخرى.

أفلحتُ في تمالك نفسي حتى لا أقول له إنني أشك في أنه لم يقرأ التقرير أساساً. أحسست بالكثير من عدم الاحترام لي كإنسان أولاً، ثم كخبير بدرجات علمية متعددة، وكأستاذ جامعي (لستُ ممن يهوى التباهي بالدرجات العلمية، ولكن تبقى للعلم مكانته). طريقة طرحه للأسئلة، وفيها الكثير من الاستهزاء والاستفزاز، أربكتني. لم يحاول ثني هجوم محامي المدعي عليّ وعلى التقرير. وقلتُ في نفسي: إذا كانت هذه هي طريقة التعامل معي كخبير، ماذا لو كنت مُتهماً بجريمة قتل؟.

بعد نحو ساعة من الأخذ والرد، وأنا أقف بطريقة غريبة كالمذنب بين يديه، لم تشف أجوبتي غليلَه. فطلب مني آمِراً إعداد تقرير ثانٍ توضيحيّ. أسرع محامي المدعي بالقول إن موكله لن يدفع أجور الخبير للتقرير الثاني. وافقه القاضي مسرعاً: "من أخبرك أننا سندفع له مبلغاً إضافيا؟ سيُعدُّ تقريراً ضمن أتعاب التقرير الأول"، أطرقتُ رأسي، ولعقتُ جراحي، وأخبرته، مدركاً قلة حيلتي، استعدادي لإعداد هذا التقرير الثاني بدون أتعاب. انتهت الجلسة. غادرتُ مسرعاً محاولاً استرداد ما تبقى من كرامتي. أحسست أن عيون العشرات من القضاة والمحامين والمتخاصمين والظالمين والمظلومين، شاخصةٌ إليّ وتنهشني. هرعت نحو السيارة. لا أذكر أنّ دموعي تساقطت، ولكن يقيني أن قلبي فاض بالبكاء.

انكببت على كتابة التقرير الثاني خلال أيام. سلّمته إلى قلم المحكمة وأسرعت بمغادرة قصر العدل عازماً ألا أعود إليه إن كانت في العمر بقية.

بعد أسابيع، وصلني تبليغ من قاضٍ آخر، أنه قد تم تعييني كخبير في قضية مالية مشابهة. أسرعتُ إلى قصر العدل، وانتظرت القاضي لساعات متوسلاً مساعده أن يمنحني دقائق معه. دخلت عليه بعد انتظار طويل، فاستقبلني بترحاب بكل احترام ودماثة أخلاق. أخبرته عن انشغالاتي وسفري، واختلقت له الأعذار. قَبِلَ معذرتي بتعاطف تام وأعفاني من مهمتي. خرجت مُظفّراً عازماً ألا أنظر في قضية بعد ذلك اليوم. وهكذا كان.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف منير صيداني
أستاذ جامعي لبناني في الجامعة الأمريكية ببيروت، وكاتب
أستاذ جامعي لبناني في الجامعة الأمريكية ببيروت، وكاتب
تحميل المزيد