بين ظلم المجتمع وتقشف الدولة.. ربع مليون أرملة في الأردن يواجهن خطر التجاهل والحرمان

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/09 الساعة 16:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/09 الساعة 16:18 بتوقيت غرينتش
حكاية "قرية الأرامل" اللاتي فقدن أزواجهن وأبناءهن خلال تهريب الأفيون، أرشيفية/ رويترز

تعاني أكثر من ربع مليون أرملة في الأردن من سياسة التهميش والإهمال وعدم التفات برامج الحكومة الاجتماعية إليهن، في ظل تحملهن أعباء كبيرة وثقيلة على رأسها إعالتهن أسراً كاملة.

وبحسب إحصائيات رسمية فإنّ ما يزيد على ربع مليون أرملة في الأردن، يُشكلن حوالى 4.4% من مجموع الإناث في المملكة، تأثرن بشكل كبير بجائحة كورونا، وواجهن صعوبات مضاعفة في رعاية أسرهن وأطفالهن.

دائرة الإحصاءات العامة بالأردن تشير إلى أنّ نحو 300 ألف أسرة تترأسها وتعولها نساء، ونحو 42% من النساء الأرامل سبق أن تعرضن للعنف العاطفي والجسدي والجنسي.

واضطرت العديد من النساء الأرامل الأردنيات إلى الاستعانة بالجمعيات والمؤسسات الخيرية الأخرى، حيث لا يفي المبلغ الذي يتم صرفه من الضمان الاجتماعي بالغرض، والذي أحياناً لا يتجاوز الـ60 أو 90 ديناراً فقط بحسب أعداد الأفراد التي تعولها النساء الأرامل.

وتشير إحصائيات إلى أنّ عدد أسر الأرامل التي تتقاضى معونة حالياً تبلغ أكثر من 12 ألف أسرة بمعونة شهرية إجمالية مقدرة تصل إلى مليوني دولار، أي حوالي 150 ديناراً للعائلات الكبيرة أو المتوسطة الحجم، وهذا المبلغ لا يغطي ربع احتياجات تلك الأسر من مأكل ومشرب ومسكن وضرائب ومصاريف للعلاج والكثير من المتطلبات.

نموذج للمعاناة وقلة الحيلة

ريما البطاينة، من مدينة إربد، أرملة تعول أربعة من أبنائها، وتعاني وإياهم شدة الفاقة والحرمان وقلة الحيلة، تتقاضى من الضمان الاجتماعي مبلغاً وقدره 120 ديناراً فقط، لا يكفي أن يسد قيمة إيجار المسكن الذي هو عبارة عن تسوية في الطابق الأرضي، اضطرت لأن تعيش فيه، نظراً لارتفاع قيمة الإيجارات بالمدينة التي تعجّ باللاجئين السوريين، وأدى تدفقهم إلى رفع أسعار الشقق والمنازل إلى أرقام مبالغ بها، وصلت في بعضها إلى ضعف قيمتها قبل الأزمة السورية، نظراً لقربها من الحدود الأردنية-السورية.

تواجه ريما هي وأبناؤها تهديدات مستمرة من صاحب العقار الذي تعيش فيه، وذلك لأنّها تجدّ صعوبة كبيرة في تسديد قيمة الإيجار فتضطر إلى الاقتراض من أقاربها ومعارفها، وفي بعض الأحيان تضطر إلى التأخر عن موعد السداد بداية كل شهر بحسب حديثها مع "عربي بوست"، الأمر الذي يزعج مالك العقار الذي يُهددها بطردها من الشقة إذا ما استمرت في التأخّر عن السداد.

وتعيش ريما في مدينة إربد مع عائلتها المكونة من أربعة أشخاص في شقتها المتواضعة، إذ تضطر في كثير من الأحيان إلى التوجه إلى الجمعيات والمؤسسات الخيرية العاملة في مدينتها التي تقطنها، مؤكدةً أنّ أغلب الجمعيات لا تتجاوب معها بسبب تحججهم بأنّها تتقاضى مبلغاً من الضمان الاجتماعي الذي لا يكفيها في الأساس لتوفير قيمة المسكن المستأجر.

ويعتبر القائمون على تلك الجمعيات أنّ الأولوية للأشخاص المحرومين والمعدمين الذين لا يتقاضون أي تبرعات مادية من أي جهات أو مؤسسات، مشددةً على أنّ بعض الجمعيات تتساهل وتتعاطف مع حالتها التي لجأت إحداها إلى دراسة حالتها ميدانياً، لكنّ في نهاية الأمر تؤكدّ أنّها حصلت بعد شق الأنفس على مبلغ قدره 60 ديناراً شهرياً من إحدى الجمعيات وهو الآخر لا يحل مشكلتها المتفاقمة شهراً بعد شهر.

البطاينة لجأت إلى أقاربها ومعارفها ومحيطها الذي تعيش فيه، حيث يتعاطف معها بعض جيرانها ويرسلون لها تبرعات عينية وأحياناً تبرعات مادية تساعدها على أعباء الحياة، كما أنّ شقيقيها اللذين يعيش أحدهما في سلطنة عمان يقدمان لها معونات متقطعة وليست دائمة بحسب مقدرتهما وكلما سنحت لهما الفرصة. 

قصة مأساة

معاناة أخرى لمواطنة أردنية تدعى إسراء فايز فقدت زوجها أثناء غربته عن الوطن بعد تعرضه لحادث سير مفاجئ في السعودية وعمره لم يتجاوز 28 عاماً، وكانت قد أنجبت منه طفلين أكبرهما ضياء يبلغ عمره 8 سنوات وعمر 6 سنوات.

بعد وفاة زوجها الذي كان يُعتبر في قانون الأحوال الشخصية الأردنية الولي الشرعي لطفليها القاصرين، لكنّ بعد أن غيبه الموت انتقلت الولاية تلقائياً إلى والده؛ أي الجد، والولاية أو الوصاية تُعطي الصلاحية والحق لحاملها أن يتولى إدارة شؤون القاصرين (دون سن الثامنة عشرة) بدءاً من تنفيذ مُعاملاتهم الحكومية وتسجيلهم في المدارس، ومروراً بفتح حسابات لهم في البنك، كما يُلزم القانون أن تُنفق عائلة المتوفى على أبنائه القصّر، فيما تُعتبر الأم في القانون نفسه هي "الحاضنة" للأطفال والمسؤولة عن تربيتهم والاعتناء بهم.

لكنّ جدّ الطفلين فاروق البالغ من العمر 75 عاماً رفض تحمل مسؤوليات الطفلين، نظراً لما يدعيه أنّه عاجز من الناحية المالية وليست لديه القدرة على الاعتناء بهم أو الوقوف على أعبائهم ومتطلباتهم المالية، لكنّ إسراء تنفي مزاعم الجد.

تقول الأم في حديثها الخاص لـ"عربي بوست" إنّ جدّ الأطفال لديه القدرة المالية على تحمّل أعباء طفليها بصفته "الولي الشرعي" بعد وفاة زوجها "والد الطفلين"، إلا أنّه يتحجج بضائقة الحال، مشيرةً إلى أنّه "يمتلك العديد من العقارات والمنازل ويقوم بتأجيرها، وليست لديه أعباء ومتطلبات كبيرة في الحياة لكونه يعيش بمفرده بعد وفاة زوجته (جدة الأطفال)".

واضطرت إسراء إلى اللجوء إلى والدها الذي يعاني هو الآخر من أمراض مزمنة واضطرته الظروف للعزوف عن العمل، والاكتفاء براتب التقاعد الذي يتلقاه من الضمان الاجتماعي والذي لا يتجاوز الـ400 دينار أردني، حيث أجبر والد إسراء على اقتطاع 250 ديناراً شهرياً لمساعدة ابنته على تحمل أعباء طفليها القاصرين، بالإضافة إلى تزويدها بمنزل صغير كان والد إسراء قد اشتراه وعمد إلى تأجيره للانتفاع به، لكنّه اضطر إلى إخلاء المستأجرين ليكون مأوى لأبناء ابنته بعد أن ضاقت بهم الدنيا.

تصف إسراء في حديثها الخاص لـ"عربي بوست"، حالتها بلغة حزينة منكسرة بعد أن كانت تعيش أفضل أيام حياتها مع زوجها في مدينة الخبر شرقي السعودية، حيث كان زوجها يعمل محاسباً في إحدى الشركات التجارية بالعاصمة الأردنية عمَّان قبل أن يغادرها متجهاً للسعودية، بعد إنجاب أول طفل له مع زوجته إسراء لمواجهة ظروف الحياة الصعبة في الأردن.

تقول إسراء إنه لدى انتقالهم للعيش في السعودية تحسنت حياتهم بشكل كبير وأصبحوا يعيشون حياة مترفة إلى حد جيد، لكنّ هذه السعادة لم تكتمل بعد خمس سنوات من مغادرتهم أرض الوطن، ليتحول زوجها إلى شهيد لقمة العيش إثر حادث مؤسف، الأمر الذي اضطرها إلى الرجوع مع طفليها القاصرين من جديد للأردن، لتتحول حياتهم إلى جحيم أكبر مما كانت عليه قبل مغادرتها هي وزوجها.

تضيف إسراء قائلةً: "لم تكتمل فرحتنا بعد انتقالنا أنا وزوجي للعمل في السعودية، ولم تكتمل سعادتنا بل لم يكتمل حلمنا ببناء بيت العمر الذي كانت تخطط لبنائه مع زوجها في منطقة طبربور في شمال شرق العاصمة عمَّان، إلا أنّ القدر كان سيد الموقف ليتحول حلمها إلى سراب أبدي".

وتؤكدّ إسراء أنّها متمسكة بالعيش مع أبنائها وتعيش على أمل مستقبل مشرق مع طفليها اللذين تسعى إلى تربيتهما والقيام بأعبائهما ليكونا بمثابة البديل عن الألم الذي قاسته بعد رحيل زوجها ووالد الطفلين، فهي متمسكة بالحياة على حد وصفها لأجل طفليها في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية في الأردن والتي تواجهها على وجه الخصوص طبقة الأرامل، حتى إنّها عمدت إلى إكمال تعليمها في ماجستير المناهج والتدريس-تكنولوجيا التعليم، أملاً في تسهيل حصولها على وظيفة في سلك التعليم المدرسي أو الجامعي.

لا تملك إسراء حُجّة وصاية فإنها غير قادرة على أن تجري المعاملات الحكومية لأولادها مثل إصدار جوازات السفر، كما لا يستطيع أيٌ من أبنائها السفر إلّا بإذن من الجد، "هديك المرة رحنا نطلع هوية ما رضيوش إلا بأمر سيدي"، يقول أنس، ابن ميسر ذو الستة عشر عاماً: "رحنا بدنا نطلع عُمرة، إلا بأمر سيدي، يعني كل شي بأمر سيدي. يعني الواحد ما بقدرش يطلع شغلة إلا بأمر سيده".

ظلم القانون

ظاهرة معاناة الأرامل لا تقتصر على المجتمع الأردني بل تنساق على جميع المجتمعات العربية وخاصة المجتمع النسوي في المجتمع الاردني، هنا تؤكدّ الخبيرة الاجتماعية، فاطمة الشرعة، وهي رائد متقاعد من جهاز الأمن العام، في حديث خاص لـ"عربي بوست".

تقول المتحدثة إنّ القانون في الأردن لم يضمن للمرأة كرامتها وحقوقها القانونية من عدة جوانب، منها حق الوظيفة وحق العمل وحق المساواة في التوريث لراتبها التقاعدي لأبنائها أو ذويها، وحتى حقها في ممارسة واجباتها بشكل عام.

وأضافت المتحدثة أنه "من ناحية الأرامل فإنّهن يشكلن نسبة عالية في المجتمعات الريفية والبادية والمخيمات لأنّهن يفضلن تربية أبنائهن على الزواج، حيث تشير الشرعة إلى أنّ الأرملة في المجتمع قد تستفيد من راتب زوجها إذا كان متقاعداً أو على رأس عمله في وقت وفاته، وتعيل نفسها وأبناءها، وقد لا يكون زوجها موظفاً حكومياً، فلا تجد راتباً تقاعدياً يعيلها فتضطر للبحث عن عمل خاص".

أيضاً وحسب المتحدثة، فإن الأرامل تواجههن معوقات بسبب عمرهن أو رفضهن من المجتمع، لأن الأرملة تبحث عن المعونة الوطنية التي لا تسمن ولا تغني من جوع بعد مباحثات ومداولات وذهاب وإياب وأوراق وموافقات قد تمتد لعدة شهور لتخرج بالنهاية على حسب تأكيدات الشرعة على حفنة من الدنانير، لا تتجاوز 60 ديناراً حسب أفراد الأسرة، ناهيك عن أجرة المنزل والمصاريف الأخرى من تدريس لأبنائها.

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد بحسب الخبيرة الاجتماعية بأن "الأرملة تذهب لشركات القروض الميسرة وهي بالحقيقة قروض مُعسرة قد تمنحها مبلغاً لا يتجاوز 300 دينار لتسدّ المبلغ 600 دينار خلال عامين، وإذا تخلفت مدة شهر واحد تصبح مطلوبة للتنفيذ القضائي؛ لتجد نفسها أنّها لا تستطيع أن تخرج من منزلها خوفاً من السجن".

وعلى إثر ذلك ترى المتحدثة أنّ الدولة ومؤسساتها مقصرة جداً بحق هذه الفئة من النساء المهمشات، معتبرةً أنّ كل ما يُسمى بالجمعيات الحقوقية والخيرية بالدفاع عن النساء، والاتحادات النسائية، والتنمية الاجتماعية، والهيئات الخيرية بعيدة كل البعد عن واقع الأرامل والأيتام خاصة في المناطق النائية، فهي مجرد أسماء للاستعراض فقط، ولم تقدم شيئاً ملموساً خدمة لهذه الفئة.

وتتساءل الشرعة بالقول: "لماذا لا يتم تخصيص دخل شهري من الحكومة لكل أرملة أو مطلقة دون النظر لعدد أفراد أسرتها، سواء لديها ابن أو ابنة لديهم عمل ودخل يعينها، باعتبار أنّها إنسانة تسعى لحفظ كرامتها، حيث إنّ راتب المعونة الوطنية ينقطع عن الأرملة  في حال عمل أحد أبنائها في قطاع عام".

وتستمر الشرعة في تساؤلها: "لماذا لا يكون للمرأة نفسها راتب مخصص من الحكومة بغض النظر عن عمل أبنائها لأنّه قد يعمل الابن ويتزوج ويترك والدته وقد تتزوج الابنة أيضاً، وهناك حالات كثيرة لنساء يعشن بمفردهن لا معيل لهن فيتركهن أبناؤهن بعد أن تبلغ من العمر عتياً، فلا تجد مأوى ولا سكناً ولا دخلاً لها،  فتصبح أسيرة الشارع أو في دور المسنين".

الشرعة أوضحت في نهاية حديثها أنّه وفي ظل جائحة كورونا زاد الفقر والجوع وزادت طلبات التنفيذ القضائي بحق النساء بشكل عام، والأرامل منهن على وجه الخصوص، لأنهن لم يجدن إلا تلك الشركات يلجأن إليها فقط لإطعام أبنائهن الذي يعدّ بمثابة حل مؤقت قادهن إلى السجن.

المساعدات والغلاء المعيشي

المبالغ المالية التي يتم تخصيصها من مؤسسة الضمان ووزارة التنمية الاجتماعية، لا تتجاوز 60 ديناراً، وفي بعض الحالات يمكن أن تصل إلى 120 ديناراً بحسب عدد الأفراد، هذه المبالغ التي لا تفي بالغرض ولا يمكن أن تغطي الاحتياجات المادية للأرامل وأسرهن بالأردن.

وترى الرئيس التنفيذي لمركز الشفافية الأردني هيلدا عجيلات، في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست"، أنّه "بالمقارنة مع الوضع الاقتصادي والغلاء المعيشي في البلد، فإنّه مثل هذا المبلغ غير معقول وغير كافٍ لتلبية احتياجات شخص طبيعي واحد، فكيف الحال إذا كان مطلوباً من المرأة الأرملة التي تترأس عائلتها لوحدها أن تعيل به أسرة بأكملها، مكونة من ثلاثة إلى خمس أشخاص لمدة شهر، وفي الغالب لا يملكن مأوى لهن وهناك ارتفاعات في أجور الكهرباء والمياه والطعام وأساسيات الحياة الأخرى.

وتشدد عجيلات على ضرورة التطرق لدور المؤسسات والدوائر الرسمية، حيث إنّها تقدم المعونة المادية بالحد الأدنى غير المعقول لهؤلاء النساء ويُمكن الجزم بأنّ هذه المؤسسات الرسمية بالإضافة لمؤسسات المجتمع المدني غير قادرة على تلبية الاحتياجات.

وأشارت المتحدثة إلى أن هذا العدد الكبير من النساء اللواتي يحتجن المساندة، حتى وإن بذلن أقصى جهود ممكنة، بالأخص في ظل الجائحة العالمية التي أثرت بدورها بشكل كبير على الاقتصاد العالمي، فإن العديد من فئات المجتمع العالمي تأزم وضعها الاقتصادي، وكان الأردن يعاني بالأساس من الغلاء المعيشي والاقتصاد المتهالك، ولم يكن يستطع تلبية حاجات فئاته الضعيفة المحتاجة، فكيف هو الحال بعد تزايد التردي؟!

وتوضح عجيلات أنّ بعض هذه النساء كنّ يقمن ببعض الأعمال والمشاريع المنزلية التي تسهم في مساعدتهن على إعالة عوائلهن وأطفالهن وقد أوقفتهن التدابير والإجراءات التي فرضتها الدولة في رحلتها للسيطرة على الوضع الوبائي.

تحميل المزيد