من مراكش إلى إشبيلية مروراً بالرباط، خط واحد تلتقي فيه ثلاث صوامع شهيرة فاق عمرها الثمانية قرون، تحكي حكاية إمبراطورية عظيمة حكمت الغرب الإسلامي.
الكتبية بمراكش، وحسان بالرباط، والخيرالدا بإشبيلية، صوامع تاريخية صنفتها اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي، توصف بالروائع أو الشقيقات الثلاث، وتعكس جمال وبساطة وروعة العمارة الموحدية.
ثلاث صوامع.. بساطة ومتانة
تأسست دولة الموحدين في القرن الثاني عشر، وتوسّعت هذه الدعوة التي انطلقت من تينمل بضواحي مراكش حتى وصلت تونس شرقاً والأندلس شمالاً، وخلال هذه الفترة توحدت بلاد الغرب الإسلامي لأول مرة في تاريخها تحت كيان سياسي واحد.
وترك الموحدون الذين حكموا المنطقة قرناً ونصفاً شواهد معمارية لا زالت قائمة إلى اليوم تتحدى عوامل الزمن، منها الصوامع الشقيقات.
يقول الباحث في التاريخ الدكتور محمد جاجا إن "الدولة الموحدية -التي جاءت على أنقاض دولة المرابطين- قامت على أساس عصبية جديدة ودعائم وركائز مختلفة سعت من خلالها إلى الحفاظ على وجود الإسلام في شبه الجزيرة الإيبيرية، وفي الغرب الإسلامي بصفة عامة، وخلال هذه المرحلة التاريخية بُنيت مجموعة من المعالم والمرافق التاريخية التي ما زالت إلى اليوم تعتبر من رموز العصر الوسيط".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن "أسلوب بناء الصوامع الثلاث لا يتسم بالغلو في الزخرفة والتعقيد والفخامة المبالغ فيها، كما هو شأن العمارة الموحدية، بل بالبساطة والمتانة وبنوعٍ من الليونة، وهو أمر مستمد من مذهب الدولة الموحدية ومرجعية مؤسسها ابن تومرت الذي كان يدعو للزهد والتقشف في الدنيا".
وبحسبه فإن أسلوب بناء وزخرفة صوامع الكتبية والخيرالدا وحسان مستلهم من صومعة الجامع الكبير في قرطبة، الذي بناه عبد الرحمن الثالث"، مشيراً إلى تدخل الفن المعماري المغربي والأندلسي في إنشاء هذه المعالم الموحدية، إذ أشرف على بنائها مهندسون وبناؤون من مراكش والرباط وفاس بعدوتيها ومن الأندلس.
قصة البناء
يعتبر جامع الكتبية وصومعته أول ما بناه الموحدون بعد دخولهم مراكش عام 1147م، ويوضح كتاب "معلمة المغرب" استناداً إلى عدد من المصادر التاريخية أن عبد المومن الكومي، الخليفة المؤسس لدولة الموحدين، هو الذي أمر ببناء هذا المسجد، وشرع في تشييد المنار العظيم الذي أكمله ابنه يوسف، في حين بنى يعقوب المنصور ما يعرف لدى البعض بـ"العزري" وعند آخرين صومعة الصومعة، أي البناء الذي يحمل الجامور بتفاحاته، وأضاف الزخارف المطلوبة.
وصومعة جامع الكتبية هي بمثابة الأصل الذي بُنيت على نمطه الخيرالدا وحسان، وأيضاً مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء.
وأثناء إقامة أبو يوسف يعقوب المنصور بإشبيلية بعد غزوة الأرك، اهتم بإكمال مئذنة الجامع الأعظم، وكان أبوه قد شرع في بنائه قبل غزوته لشنترين سنة 1184م، حسب ما جاء في كتاب تاريخ رباط الفتح لعبد الله السوسي.
يصف البتنوني صاحب رحلة الأندلس منار إشبيلية فيقول: "هذه المنارة بُنيت على شكل منارة مسجد الكتبية بمراكش.. وكان في أعلاها أربع تفافيح كبيرة من النحاس غلفت بطبقة من الذهب بلغت نفقاتها وحدها أكثر من 100 ألف دينار، فأزال القوم -يعني الإسبان- هذه التفافيح بعد استيلائهم على المدينة، وبنوا مكانها على الدائرة التي كان يدور عليها المؤذن أبراجاً للنواقيس".
ويوصف جامع حسان بالرباط بأنه كان أكبر جوامع الغرب الإسلامي على الإطلاق، وثاني أكبر الجوامع الإسلامية قاطبةً بعد جامع سامراء بالعراق، إذ شُيّد على مساحة تفوق 25 ألف متر مربع.
لم يكتب لهذه المعلمة العظيمة أن يكتمل بناؤها ولا أن تؤدي وظائفها كما ابتغاها لها بانيها الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي، إذ توقفت الأشغال بوفاته سنة 1199 م.
وتصل صومعة حسان في العلو الذي توقف عنده البناء إلى 44 متراً، أي أكثر بقليل من ثلثي العلو الذي كان مقرراً أن تصله لو كتب لها أن تكتمل، وبعد سقوط الدولة الموحدية تعرض الجامع غير المكتمل للتخريب، وانتزعت في فترة لاحقة أسقفه الخشبية وصنعت منها سفن للجهاد في الأندلس.
لكل اسم حكايات
الكتبية، وحسان، والخيرالدا، لم تظهر هذه الأسماء التي تطلق على الصوامع الشقيقات إلا بعد زمن من سقوط الدولة الموحدية، فيما تختلف المراجع في تفسير أسباب هذه التسميات.
بخصوص صومعة الكتبية بمراكش، يشير كتاب "معلمة المغرب" إلى أن هذا الاسم لم يظهر في المصادر التاريخية إلا في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، حين ذكره ابن عبد الملك "جامع عبد المومن الأقدم جامع الكتبيين"، ثم عند ابن أبي زرع في بداية القرن الرابع عشر "منار جامع الكتبيين"، وعند ابن بطوطة الذي قال: "وبها المساجد الضخمة كمسجدها الأعظم المعروف بمسجد الكتبيين، وبها الصومعة الهائلة العجيبة صعدتها وظهر لي جميع البلد منها".
فما السبب وراء إطلاق هذا الاسم على الجامع الكبير بمراكش وصومعته؟ لم يظهر السبب إلا في القرن السادس عشر الميلادي في بعض المصادر التاريخية حين تحدث الحسن الوزان عن المسجد، وقال: "كان تحت رواقه قديماً نحو 100 دكان للكتبيين لم يبق منها اليوم ولو دكان واحد"، وتكررت الإشارة إلى دكاكين الكتبيين عند المقري بعد ذلك، وهكذا حمل المسجد وصومعته اسم النشاط العلمي الذي كان سائداً في محيطه.
وأكدت الأبحاث الأثرية هذه الرواية إذ تم اكتشاف دكاكين تقابل واجهة المسجد الشرقية، وتقع على رصيفي الزقاق المفضي إلى المسجد.
أما بالنسبة لصومعة حسان، فظهر اسمها لأول مرة في نص تاريخي متأخر عند ابن أبي زرع، وتعددت الروايات ولم يتفق اثنان بشأنها، وعزا البعض التسمية إلى مهندس أندلسي قيل إنه واضع تصميمه، وقرنه آخرون باسم قبيلة بني حسان (بني حسن) العربية، المستوطنة لجزء من سهل الغرب فيما رجح الباقي أن اللفظ إنما يعود على الحسن والجمال الذين كانا للجامع.
وتحكي دراسة للدكتور عبد العزيز سالم المصري تحت عنوان "العمارة الإسلامية في الأندلس وتطورها" أسباب تسمية صومعة الخيرالدا بهذا الاسم بعد أن كانت تسمى صومعة جامع إشبيلية أو الجامع الكبير، ويُنسب الاسم إلى تمثال البرونز الذي نُصب في برج أعلى المنار سنوات بعد سقوط المدينة في يد الإسبان، ولأن هذا التمثال يدور مع الرياح فقد أطلق عليه اسم خيرالديو أو دوارة الرياح ومنها جاءت تسمية المئذنة الخيرالدا.
تشابه في التصميم
تتشابه الصوامع الثلاث في تصميمها، فهي تأخذ شكلاً مربعاً وتتميز بمبادئ زخرفية منحت الصومعة المغربية شهرة. وقد بُنيت هذه الصوامع بالآجر المشوي في الخيرالدا، وبالدَّبش (وهو حجر غير مشذب)، مغطى بالطلاء الأملس في الكتبية، وبالحجر المنحوت في حسان.
وتختلف المنارات في حجمها وارتفاعها، لكنها متشابهة في هيكلها وقد بُنيت بدون أدراج، ولكن بمنحدرات عريضة بشكل كان المؤذن يستطيع صعودها وهو راكب على حصانه، أما الزخرفة فتعتمد على الكتابة الكوفية والأشكال الهندسية كالأقواس، أو الرسوم التي تحاكي الزهور والنخيل والصدف.