تنبعث رائحة الجلد والغراء في درب قنصل الفرنسيس بالمدينة العتيقة الرباط عاصمة المغرب. في هذا الزقاق الضيق تتجاورُ ورشات الجلد مع البيوت السكنية، وفي نهايته باب كبير مغلق كان مقراً لسكن القنصل الفرنسي.
يقول أحد عمال ورشة الجلد إن المنزل كان إلى وقت قريب مسكناً لبعض العائلات، قبل أن تُفرغه السلطات وتغلقه بهدف ترميمه وصيانته.
وشيد هذا البيت شأن بيوت المدينة القديمة للرباط وفق طراز تقليدي، فهو يضم طابقين، وسطه بهو مفتوح على السماء.
وبناية القنصل الفرنسي جزء من شارع القناصل أحد أشهر شوارع الرباط القديمة، والذي كان مقراً للبعثات الدبلوماسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم تحول إلى مجمع للصناعات التقليدية ومعرض مفتوح يُبرز إبداعات ومهارة الصانع التقليدي المغربي في عدة حرف.
معرض لإبداعات الصانع التقليدي
عندما تدير ظهرك للباب الكبير لقصبة الأوداية الشهيرة بالرباط، تكون واقفاً عند بداية شارع القناصل، تستقبل الزائر لوحة رخامية تعرف بأهمية الشارع وقيمته التاريخية.
كُتب في اللوحة ما يلي: "يعتبر شارع القناصل من أعرق الشوارع الرئيسية القديمة والتاريخية، فهو جزء رئيسي من الشارع الموحدي الأصلي الذي يربط ما بين الباب الكبير لقصبة المهدية (الأوداية) والباب الموحدي الوحيد المفتوح على الواجهة الشرقية لمدينة رباط الفتح باب تادلة (باب زعير)، أما عن تسميته بشارع القناصل فقد استمدها منذ القرن الثامن عشر الميلادي؛ حيث استقرت به عدة قنصليات أجنبية، وعرف هذا الشارع عبر تاريخ مدينة الرباط بمكانته التجارية والحرفية المتنوعة".
بمجرد ما تدخل الشارع، تغوص وسط المحال التجارية التي تعرض إبداعات الصانع التقليدي: منتوجات جلدية متنوعة، زرابي، ملابس تقليدية، أوانٍ نحاسية وخشبية، خزف، ديكورات…
ويحرص زوار الرباط من المغاربة والأجانب على زيارة الشارع لاقتناء تذكارات وهدايا والتعرف عن قرب على مهارة الحرفيين سواء داخل ورشاتهم أو من خلال المنتوجات المعروضة للبيع.
وشهد الشارع في الآونة الأخيرة أعمال ترميم وإصلاح، في إطار مشروع كبير لإعادة الاعتبار للمدينة القديمة بوصفها تراثاً إنسانياً عالمياً، وتم ترصيف الشارع وترميم الفنادق التاريخية والحمامات المحيطة به، وتجديد واجهات المحال التجارية، وتسقيفه بالخشب المنقوش.
شارع القناصل.. سكن النخب وكبار التجار
أَسَّس الموحدون مدينة الرباط في أواسط القرن الثاني عشر للميلاد، وعرفت في هذه الفترة إشعاعاً حضارياً مُهماً بفضل اهتمام سلاطين هذه الإمبراطورية- التي امتدت من نهر السنغال إلى الأندلس- بإعمار المدينة.
ويشير هشام لحرش، الباحث في تاريخ الرباط، في حديث مع "عربي بوست" إلى أن "السلطان الموحدي أبو يعقوب المنصور وضع تخطيطاً سلطانياً لرباط الفتح، وتضمن هذا التخطيط إنشاء الشارع المعروف حالياً باسم القناصل، وكان هذا الأخير أحد الشوارع الرئيسية الكبرى التي تربط قصبة المهدية لوداية حالياً في اتجاه باب شالة الكبير، ويتقاطع مع شارع رئيسي آخر يربط بين باب الرواح ومسجد السنة".
ويضيف المتحدث أن "هذا الشارع كان عريضاً بحجم الباب السلطاني الكبير في القصبة، غير أن المدينة عرفت اضمحلالاً وتراجعاً بعد سقوط الدولة الموحدية، إلى أن سكنها الموريسكيون الذين هربوا من محاكم التفتيش في الأندلس، فأصبح الشارع منذ ذلك الحين ومحيطه مجالاً لسكن البورجوازية والنخب وكبار التجار لقربه من القصبة مقر الحكم وسكن القادة، وأيضاً لقربه من النهر والميناء حيث كانت تنشط الحركة التجارية وأعمال القرصنة".
مقر القنصليات والبعثات
منذ القرن الثامن عشر أصبحت الرباط مقر القنصليات والسفارات الأوروبية، وتكاثرت طيلة القرن التاسع عشر، وبحسب عبد الإله الفاسي، مؤلف كتاب "مدينة الرباط وأعيانها في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين" فإن "اسم شارع القناصل يدل على الماضي الدبلوماسي للمدينة، لا سيما في عهد السلطان محمد بن عبد الله 1757 – 1790 حيث كانت عدة دول ممثلة بقنصلياتها، ويعطينا الرحالة والمؤرخون معلومات عن هذا الشارع الذي كان حسن التبليط، وكان يضم دار قنصل السويد والدانمارك وهولندا ودار قنصل فرنسا".
وبحسب هشام لحرش، فقد أعطى السلطان العلوي محمد بن عبدالله أهمية للرباط، عندما جعلها واحدة من المدن السلطانية بعد بنائه داراً ملوكية هي القصر الملكي بتواركة حالياً في القرن الثامن عشر وخمس مساجد كبرى، وستزيد هذه الأهمية مع السلطان المولى إسماعيل الذي بنى قصراً في قصبة الأندلس أو لوداية؛ لتصبح المدينة القديمة حالياً، وخاصة شارع القناصل ومحيطه، سكناً للنخبة والأعيان ورجال السلطة والدبلوماسيين الأجانب.
سوق العبيد
وعرف شارع القناصل خلال تلك الفترة بسوقٍ للعبيد؛ إذ كانت سفن القراصنة ترسو في ميناء سلا القريب من الشارع، ويعرضون الأسرى الأوروبيين للبيع. ويحكي الأسير الفرنسي مويط في مذكراته الشهيرة قصة أسره وبيعه في سوق شارع القناصل، وكيف كان ممثلو الدول الأجنبية يتوسطون بين مالكي هؤلاء الأسرى وعائلاتهم لدفع الفدية وإخلاء سبيلهم.
وكان أول قنصل فرنسي بالمدينة هو إيدمون كومب الذي حل بها بعد ذهاب ليون روش، فاستقل بشؤون نيابة قنصلية فرنسا بالرباط بعد أن كان اليهودي سيرويا مكلفاً بشؤون فرنسا وانجلترا معاً بالمدينة.
وبحسب عبد الإله الفاسي فإن مختلف نواب القناصل الفرنسيين والإنجليز والإسبان وغيرهم قدموا تقارير عن القيمة الاستراتيجية والاقتصادية للمدينة، ووصفوا دورها كمركز صناعي حرفي، محاولين جذب اهتمام حكوماتهم إليها، قصد جعلها مستوطنة تستقطب التجار ودور التجارة ورجال الأعمال والوكلاء الأوروبيين.
ذاكرة الرباط
ويعكس وجود عدد من الفنادق في محيط شارع القناصل الحركة التجارية المهمة التي كان يشهدها هذا الشارع الذي تحول بعد الاستقلال إلى سوق الزرابي، حيث كانت تقام فيه مزادات لبيع الزرابي الرباطية، وهو اليوم مجمع لمختلف أنواع الصناعات التقليدية.
ورغم أن أعمال الترميم طالت هذا الشارع ومحاله التجارية ومبانيه السكنية التي كانت مهددة بالانهيار، إلا أن مقر القنصلية الفرنسية ما زال مغلقاً في انتظار الشروع في ترميمه وتثمينه بوصفه إرثاً تاريخياً إلى جانب مقرات باقي القنصليات.
ويرى لحرش في حديثه مع "عربي بوست" أن "ترميم هذه الفضاءات التاريخية وتحويلها إلى مزارات جزء من إعادة الاعتبار لذاكرة مدينة الرباط".
ودعا المتحدث إلى تحويل مقر القنصلية الفرنسية إلى متحف يُبرز أهمية الرباط على المستوى الدبلوماسي منذ زمن سيدي محمد بن عبد الله، ويعرض الاتفاقيات وصور السفراء والقناصل والمذكرات والوثائق والمراسلات.