سنة 1930 قرّرت فرنسا الاحتفال بمرور قرن على احتلال الجزائر، وراحت تحشد العشرات من المشاهير والصحافة العالمية لتريهم ما صنعته من حضارة وتعمير في الجزائر طيلة قرن من الزمن، وتطمس بذلك جرائمها وإبادتها لأصحاب الأرض، وتؤكد أنها تحمل رسالة تمدن وحرية لإفريقيا.
ومن بين الشخصيات التي كانت على قائمة المدعوين ليرى عاصمة شمال إفريقيا الجزائر العاصمة، كان شارلي شابلين أشهر ممثل في تلكم الفترة.
ورغم أن شابلين اعتذر عن الزيارة لأسباب صحية، فإن الفرنسيين كانوا مصرّين على الزيارة وألحوا حتى تحقّقت ذات أبريل/نيسان سنة 1931.
ويعود إصرار الفرنسيين على زيارة شابلين إلى الجزائر، كونه أحد أبرز الشخصيات الفنية المعروفة بدعمها للحرية وبغضها للاضطهاد، وهو ما يمنح الفرنسيين مصداقية أكبر في احتفالية مئوية تواجدهم في الجزائر وينفي عنهم صفة المستعمر المغتصب للأرض.
رحلة شارلي شابلين
من مدينة نيس الفرنسية انطلقت رحلة شارلي شابلين إلى الجزائر، إذ استقل منها القطار نحو مارسيليا بصحبة شقيقه سيدني وصديقه ماي ريفز.
ركب شابلين سفينة "لاموريسيار" التي تعودت أن تقوم برحلات منتظمة بين مرسيليا والجزائر، وكان برنامجه يتمثل في الإقامة يومين بالعاصمة ثم الانتقال بعدها إلى مدينة بوسعادة السياحية فمدينة بسكرة الصحراوية، ليعرّج على قسنطينة المبنية على الصخور.
ومن هناك يسافر إلى العاصمة تونس، عائداً من ثَمّ إلى الجزائر، على أن تكون وهران إحدى محطات زيارته.
ومن هناك إلى المغرب وتحديداً مدينة فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش، ومن طنجة إلى إسبانيا؛ إذ كان سيحظى باستقبال رسمي من ملكها ألفونسو الثالث عشر.
ولعدة أسباب أُلغي البرنامج وزار أسطورة السينما الصامتة مدينة الجزائر وبوسعادة فقط.
إعجاب بالجزائر
احتشد الآلاف من الجزائريين والمعمرين الأوروبيين أمام ميناء الجزائر في مشهد غير اعتيادي لاستقبال النجم العالمي وأسطورة السينما الصامتة شارلي شابلين.
بعد رسو سفينة "لاموريسيار" بدأت الهتافات والتحيات تنهال على شابلين من الجزائريين والمعمرين الذين بدت صورتهم غير مألوفة وغير متجانسة على حافة الشوارع وهو ما لاحظه شابلين بسرعة.
وما إن وصل موكبه إلى فندق "آليتي" المطل على البحر المسمى حالياً بفندق السفير والمملوك للحكومة الجزائرية حتى تحجج شابلين بالتعب ورفض إجراء لقاءات صحفية ليتهرب من مدح فرنسا وأفعالها في الجزائر.
وكتب شابلين في السجل الشرفي لمشاهير زوار الفندق "الجزائر في 14 أبريل 1931، أشكر سكان الجزائر على حفاوة الاستقبال".
ولم يتمكن شابلين من مغادرة الفندق بسبب توافد الجزائريين على الفندق ومحاصرته، حباً وإعجاباً بشخصيته التي كانوا يرون فيها عدوة للأغنياء وصديقاً للفقراء والمظلومين والمضطهدين.
وبعد أيامٍ استطاع الممثل البريطاني التجول في أحياء العاصمة وأغرم بالأحياء الجزائرية العتيقة على غرار حي القصبة التاريخي، وشارع طانجي الشهير الذي يعج بالناس والتجار والحرفيين، لكن النجم البريطاني صُدم من البؤس الذي يعيشه أهلها بسبب التمييز العنصري، وفي نفس الوقت أعجب بكرم الجزائريين ورفعتهم وطيبتهم التي لا تعكس الصورة التي روَّجها عنهم الاستعمار.
صدمة من جرائم فرنسا
بعد جولته في الأحياء الجزائرية بعيداً عن الشوارع الفرنسية المطلة على البحر، عاد شابلين إلى الفندق وهو مكتئب ونادم على الورطة الذي وضعه الفرنسيون فيها وقرر ألا يخرج من الفندق مجدداً متحججاً بالمرض.
وغادر شابلين مسرعاً العاصمة متجهاً جنوباً نحو مدينة بوسعادة الخلابة ذات الطابع الصحراوي ليرتاح من هول ما شاهده في العاصمة من بؤس واضطهاد.
لكنه ازداد تألماً، حيث رأى الاستعمار يضرب بقوة أبناءها الذين أضعفهم القهر والجوع، وكان يقارن بين الأوروبي والجزائري، لتتضح عنده الصورة تماماً.. إنه في بلد مستعمر.
وعندما عاد شابلين من بوسعادة إلى العاصمة، أصيب بالإحباط ورفض أن يعقد ندوة صحفية، مبرراً ذلك بمرض الإنفلونزا الذي أصابه.
غادر بعدها نجم السينما الصامتة شابلين الجزائر وفي قلبه غصة مما رأته عينه، فهو من قال يوماً بعد أن تحول إلى أيقونة بسبب نصرته للشعوب المستضعفة: "أيها الجنود، لا تسلموا أنفسكم للغاشمين الذين يحتقرونكم ويستعبدونكم ويعسكرونكم، ويأمرونكم بما تفعلون وبما تفكرون وبما تشعرون، يُدربونكم ويمتصون دماءكم، ويعاملونكم كالحيوانات، وكعلف للمدافع".
وخصص شابلين جزءاً معتبراً عن الجزائر في مذكراته، إذ أشاد بالشعب الجزائري، وكان يقول: "عندما أسمع كلمة جزائري أحس بالرومانسية والرقي".
ظلّ شارلي شابلين متمسكاً بمواقفه لصالح الشعوب في الوطن العربي وغيره، وندد بالحروب وبالإبادة، لدرجة أنه لقب بعدو الاستعمار.
وتحتفظ الجزائر بذكرى شابلين الذي أحب شعبها وتعاطف معه إبان الاستعمار، بحيث أحيت بعضاً من التظاهرات الخاصة به، ومن بين ذلك ذكرى ميلاده.