يتحول هدوء قرية تكوروط الأمازيغية بمدينة تارودانت إلى صخب كل صيف، ويصبح ضريح وليها الشهير سيدي بوعيسى أوسليمان مقصد سكان القرية والقرى المجاورة، يجتمعون في محيطه ويقيمون موسماً سنوياً.
يقدمون الهدايا للضريح، ويذبحون مئات الخراف والعجول، يضعون رقاب الأضحية على حجر موجود قبالة القبة، هذا الحجر الذي يميل لونه إلى الحمرة يمتص الدماء بحسب اعتقادهم، يطلقون عليه اسم للا كافية، وهو في نظرهم يمثل ابنة الولي سيدي بوعيسى.
بالنسبة للمسلمين، فهم يظهرون بذلك الاحترام لولي صالح، يقال إنه عاش قبل سبعة أو ثمانية قرون، ورغم أنهم يجهلون الكثير عن شخصيته وحياته، فإنهم يتفقون حول بركاته وقدراته الاستشفائية العجيبة.
وليس المسلمون وحدهم من يقدسون هذا الولي، بل يحرص اليهود المغاربة على زيارته في الخفاء أو العلن، فهم يعتقدون أنه منهم، ويتداولون حكايات مختلفة حوله، وبعضهم يعتقد أنه ابن الملك سليمان بن داوود، وآخرون يقولون إنه يهودي تحول إلى الاسلام، فيما تجزم فئة ثالثة بأنه قديس يهودي اسمه رابي بعاشا بن شلومو.
يجتمع في الموسم السنوي أتباع الديانتين معاً، ويحرص المشرفون على الضريح على تنظيم الزيارة واحترام قواعدها من لدن الجميع.
وبموجب هذه القواعد، يُسمح لليهود بتقديم الأعطيات العينية والمادية، وبذبح الخراف أمام القبة، لكنهم ممنوعون من الدخول إلى داخل الضريح.
يثق مريدو هذا الولي من أتباع الديانتين في قدرات سيدي بوعيسى أوسليمان الخارقة، فهو معروف بينهم بأنه يقود الشياطين ويشفي المجانين والمشلولين وأمراضاً أخرى.
وليس ضريح سيدي بوعيسى أوسليمان وحده من يحظى بتقديس المسلمين واليهود المغاربة، فهذه الظاهرة توجد في المغرب منذ قرون وتعكس سنوات من التعايش بين أتباع الديانتين.
وجود يهودي قديم بالمغرب
يقول مثل مغربي قديم: "السوق بلا يهود بحال العدول بلا شهود"، ويحيل على الحضور اليهودي في المجال التجاري والاقتصادي بالمغرب بحكم تعاطيهم للتجارة وممارستهم لمختلف الحرف والمهن.
ويعود الوجود اليهودي في المغرب إلى ألفي سنة، وكانوا إلى غاية منتصف القرن العشرين يشكلون عنصراً بارزاً في التركيبة العرقية والاجتماعية والدينية لعدد من المدن والقرى، ومكوناً رئيسياً لموروثِها الثقافي والروحي المتنوع.
ومع قيام إسرائيل زمن الحماية الفرنسية بالمغرب، بدأت الهجرات اليهودية نحوها وفي اتجاه عدد من الدول الأوروبية، وهي الهجرات التي تسارعت بشكل مكثف بعد حرب 67، ولم يعد سوى 1% من سكان المغرب يهوداً، لهم معابدهم وقانونهم الخاص، ومع ذلك لم تتوقف الزيارات السنوية للأضرحة المنسوبة لليهود، وتلك المشتركة بينهم وبين المسلمين، من مختلف دول العالم.
تعايش وتفاعل إسلامي يهودي
أدى التعايش والتفاعل بين اليهود والمسلمين في المغرب إلى تداخل ثقافي في مختلف مجالات الحياة اليومية مثل الطعام، والملابس، والموسيقى، والحكايات الشعبية، والأمثال، والمعتقدات، والممارسات السحرية، وحتى تقديس الأولياء في المغرب، وقد تركت هذه العناصر آثاراً في مغرب اليوم.
تقول الأستاذة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة سيدي محمد بن عبدالله بمدينة فاس، حنان السقاط في مقال عن "التصوف والزهد اليهودي "القبالاه" في المغرب" منشور بمجلة المناهل التي تصدرها وزارة الثقافة المغربية: "كما أن زهاد المسلمين اعتبروا أولياء صالحين بفضل كراماتهم أو لمجرد سعيهم اليومي للرفع من المعنويات الدينية والجهادية والمادية لمعاصريهم، فأهلتهم ملكاتهم الموروثة أو المكتسبة لشغر وظائف خلال حياتهم امتزج فيها الروحي بالشعوذة، فإن العديد من زهاد اليهود تحصلت لديهم خلال حياتهم حظوة تعدت محيطهم اليهودي المباشر فانتشرت بين المسلمين".
وتعتبر المتحدثة أن "هذه الظاهرة تزكي قدرات المجتمع المغربي على التسامح، لذلك لم يكن المسلمون -في نظرها- يجدون أدنى حرج (ديني وأخلاقي واجتماعي) في طلب عون الزاهد اليهودي، فزيارته اعتبرت إجراءً إضافياً يُعزز من حماية النفس من أي عدوان مصدره الرغبة في إلحاق الضرر والتأثير سلباً".
الأولياء في المغرب يتبرك بهم المسلمون واليهود
فصلت أطروحة دكتوراه أنجزها الأستاذ في علم الاجتماع حسن مجدي في جامعة باريس عنوانها "التبرك بالأولياء وحج اليهود بالمغرب" ظاهرة الأولياء في المغرب المشتركين بين المسلمين واليهود.
وميز مجدي بين ثلاثة أصناف، فهناك أولياء يتبرك بهم اليهود والمسلمون معاً، كل طرف ينسب الضريح إلى ولي منهم، وقد أحصى الباحث الفرنسي لويس فوانو في دراسة له حول الموضوع 31 ولياً في هذا الصنف، بينما وضع الباحث اليهودي إسخار بن عامي قائمة تضم 36 ولياً.
ومن بين هؤلاء الأولياء في المغرب: سيدي محمد الشريف في العرائش، وسيدي بوذهب بآسفي، وللاصافية بأكادير، وسيدي بلعباس بالقصر الكبير، وسيدي قاضي حاجة في العونات بدكالة، وسيدي إبراهيم وسيدي يعقوب وسيدي موسى أوصالح في بني وراين، وسيدي مول البرج في بزو، وسيدي يحيى بنيونس بوجدة، وسيدي يوسف الحاج بدبدو، وسيدي بوعيسى أوسليمان بتارودانت، وسيدي بولنوار في أولاد برحيل.
وحكاية ضريح سيدي يحيى بن يونس بوجدة حكاية غريبة ومثيرة، فهو يوصف بأنه ولي أتباع الديانات الثلاث، وحسب كتاب معلمة المغرب فإن هناك اختلافاً بيناً في الروايات التي تتحدث عن أصله ونسبه، وأهمها روايتان: الأولى ترجح أنه مسيحي من الحواريين أصحاب عيسى عليه السلام وقد آمن بالنبي محمد قبل بعثته، وهي الرواية التي اعتمدها جل الإخباريين.
أما الرواية الثانية، فهي أنه من يهود قشتالة بالأندلس ويدعى يحيى بن دوسة، اضطر إلى الهجرة إلى المغرب إثر الحملة الاضطهادية التي أصابت المسلمين واليهود.
ولأتباع هذا الولي من المسلمين واليهود اعتقاد راسخ في كراماته ومنها على الخصوص الاستشفاء من الأمراض المزمنة ومن العقم.
أولياء مسلمون يتبرك بهم اليهود والعكس
يزور اليهود أضرحة يدركون جيداً أن الأولياء المدفونين بها مسلمون، ويقومون بالزيارة علناً عندما يسمح لهم بذلك وفي الخفاء إذا لم يسمح لهم، وفي بعض الأحيان ينسبون هؤلاء الأولياء إلى أصل يهودي أو إلى رابط ما يربطهم باليهودية، كأن يكونوا عُرفوا كيهود قبل أن يتحولوا للإسلام. ويستند بن عامي على قائمة فوانو، الذي عدّ 14 ولياً ضمن هذا الصنف.
ومن أشهرهم للاجميلة بطنجة، وسيدي بلعباس بسلا، ومولاي المكي بن محمد وسيدي مخلوف بالرباط، وسيدي علي بوغالب بالقصر الكبير، وسيدي علي بوسرغين بصفرو، وسيدي علي بلقاسم بقرية فلوش بدبدو.
بالمقابل، يوجد أولياء يهود يتبرك بهم المسلمون أيضاً، وعدّ فوانو 55 ولياً ضمن هذه القائمة، من بينهم: أبراهام طوليدانو بطنجة، وربي عمرم بن ديوان بوزان ويسميه المسلمون سيدي عمران، ومول الجبل الأخضر بين صفرو والبهاليل ويطلق المسلمون على الضريح اسم كهف اليهودي، وإسحاق بن وليد بتطوان، وضريح رابي سعديا عداتي قرب مدينة الناظور.
ويطلق المسلمون على ضريح سعديا عداتي اسم سيدي يوسف، ويسهر مسلم على العناية بالضريح وحراسته، ويبيض الحجر الذي يسود بسبب الشموع، ويستقبل الزوار اليهود.
تقديس عبر الأجيال
بالنسبة للباحث في علم الاجتماع علي الشعباني، فإن زيارة الأضرحة جزء من الثقافة الشعبية بالمغرب، والتي كانت منتشرة في الماضي وما زالت إلى اليوم.
ويوجد بالمغرب ما يزيد على سبعة آلاف زاوية وضريح حسب آخر إحصاء رسمي لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ويعرف بأنه بلد المئة ألف ولي، إذ لا تكاد تخلو مدينة أو قرية من أضرحة لأولياء معروفين أو مجهولي الهوية.
وأشار الشعباني، في حديث مع "عربي بوست"، إلى أنه رغم الجهل بتاريخ هؤلاء الأولياء في المغرب أو حقيقتهم، أو انتمائهم الديني، فإن توفرهم على ما يسمى البركة والشرف جعلتهم يحظون بالتقديس والاحترام والتبجيل، وهو احترام تناقله جيل عن جيل.
ويضيف أن انتماء الولي لقبيلة معينة أو لعرق معين يكسبه احترام الجميع، فهو ملك للقبيلة سواء كان يهودياً أو مسلماً وبركته ستحل على الجميع، لذلك لا يجد المسلمون غضاضة في التبرك بولي يهودي والعكس كذلك، إذ يعتقدون أن زيارته إذا لم تنفع فإنها لن تضر.
التدين الشعبي
أما الباحث في الفكر الإسلامي إدريس الكنبوري فيرى أن اشتراك المسلمين واليهود في المغرب في تقديس نفس الأولياء في المغرب جزء من التدين الشعبي الذي يستبطن معتقدات وثنية غير واعية، والتي وجدت في ظروف معينة، سياسية أو اجتماعية، مناسبة للانتشار.
ففي نظره، الطقوس الوثنية عادة تجد تفسيرها أو مبرراتها في الحياة الشخصية للسكان أو في الكوارث أو المآسي الخاصة أو العامة، مثلاً قد ينتشر وسط الناس أن ولياً من الأولياء يعالج العقم، من خلال تجربة حصلت صدفة لأحدهم، فيتم الإقبال عليه بصرف النظر عن ديانته، وهذا ما حصل مع أضرحة يقدسها اليهود لكن صار المسلمون يقبلون عليها نظراً لما يعتقدونه من قدرتها على معالجة بعض الأمراض.
ولفت في حديث مع "عربي بوست" إلى جانب آخر اجتماعي وسياسي للظاهرة، ويتمثل في التعايش الكبير والمثالي الذي حصل طيلة تاريخ المغرب بين المسلمين واليهود إلى درجة الثقة في الأولياء في المغرب اليهود من طرف المسلمين أو أولياء المسلمين من طرف اليهود.