من منّا لم يحاول يوماً أن يتخيل وجوهاً في السحاب أو في بقع المطر على الأسفلت؟ جميعنا بالطبع! وتخيلنا القصص والحكايات التي كان أبطالها تلك الوجوه العشوائية التي تخيلناها في كل شيء حولنا.
تلك الظاهرة النفسية التي لطالما تسلينا بها ونحن صغار وحتى بعد أن نضجنا هي حالة تُسمّى "باريدوليا – Pareidolia" هي ظاهرة نفسية تجعل الناس يرون أنماطاً شائعة في أي سطح عشوائي. ويؤدي هذا في الغالبية العظمى من الحالات إلى تخيُّل الأشخاص لخصائص بشرية في الأشياء، مثل الوجوه والتعبيرات.
حقيقة رؤية الوجوه العشوائية والفئة الأكثر عرضة لها
يقول الباحثون في علم النفس إن هذه الظاهرة المعروفة باسم باريدوليا، طبيعية تماماً؛ لأننا مهيأون لرؤية الوجوه العشوائية في جميع أنواع الأشياء اليومية. وهذا الميل البشري لرؤية الهياكل والتعبيرات الشبيهة بالوجه في الأشياء الجامدة يتعلق بمدى تعقيد تركيب أدمغتنا.
وحددت الدراسات السابقة مناطق متخصصة في الدماغ بالتفاعلات مع كل من الوجوه البشرية ومعتقدات الناس بأنهم يرون وجهاً، وذلك بغرض استخراج معلومات حول هوية الشخص، وما إن كنا نعرفه أم لا، وما إذا كان الشخص آمناً أم يُعد مصدراً للتهديد.
ويشير موقع Lenstore الطبي، إلى أن الأشخاص العصابيين والأشخاص الذين يعانون من حالات مزاجية سلبية هم أكثر عرضة للإصابة بباريدوليا. ويبدو أن السبب في ذلك أن هؤلاء الأشخاص في حالة تأهب قصوى للخطر، ولذلك من المرجح أن يكتشفوا شيئاً غير موجود في الأشياء من حولهم.
كذلك يبدو أن النساء أكثر عرضة لرؤية الوجوه العشوائية في الجمادات. وقد يكون هذا مرتبطاً بحقيقة أن لديهم قدرة أفضل على التعرُّف على المشاعر من خلال فك رموز تعبيرات الوجه.
لماذا نتعرض لتلك الظاهرة؟
يعتقد علماء النفس المعتنقون لنظرية تطور الإنسان أنها ظاهرة تطورت لدى البشر لأغراض البقاء على قيد الحياة؛ إذ إن العقل البشري مرتبط بقراءة المعلومات من وجوه الناس وبناء على ذلك يحدد الكثير من المعلومات، وفقاً لموقع Psychology Today لعلم النفس.
مثلاً يقوم الأشخاص من خلال الوجوه بالتعرف على هوية الآخرين، وسواء كانوا يهتمون بنا أو ما إذا كانوا منزعجين أو سعداء برؤيتنا أو ينوون إيذاءنا.
وبالتالي من الأفضل أن يكون لدينا آلية عصبية خبيرة في اكتشاف الوجوه خاصة تلك التي تعكس التهديد، وبالفعل هذه الآلية حساسة لدرجة أنها تميز الوجوه العشوائية حتى في الأجسام الجامدة والجمادات من حولنا.
ما مدى تأثير الباريدوليا على حياة البشر اليومية؟
حاولت العديد من دراسات علم النفس البحث وراء رؤية الوجوه الحقيقية وحتى الوجوه العشوائية الافتراضية في الأشياء من حولنا، وتأثير ذلك على مشاعر الناس الذين يتعرضون لتلك الظاهرة.
وجد الباحثون في مختبر الدماغ والإدراك في المعهد الوطني للصحة العقلية في الولايات المتحدة الأمريكية، أن الطريقة التي نقرأ بها تعبيرات شخص ما تتأثر بالتعبير الذي رأيناه للتو، أو آخر تعبير وجه حقيقي رأيناه قبل تخيُّل الوجوه العشوائية الافتراضية.
وبحسب الدراسة التي تناولها موقع BBC، إذا رأينا للتو تعبيراً حزيناً- سواء من قِبَل الإنسان أو على شيء أخطأنا في اعتباره وجهاً، مثل قابس الكهرباء في الحائط مثلاً- فمن المرجح أن نعتقد أن الشخص التالي الذي سنراه في الحقيقة يعاني بدوره من الحزن.
هل بالإمكان تحفيز حدوثها؟
في العادة، نبدأ في رؤية الوجوه العشوائية والتعبيرات في الجمادات والأجسام المختلفة حولنا بمجرد استحضار الفكرة في أذهاننا والعمل على تطبيقها.
وبالرغم من أن بعض هذه الأشياء الجامدة تحمل تشابهاً معيناً مع الرموز التي نستخدمها غالباً لتمثيل المشاعر- مثل الخط المنحني للابتسامة ودائرتين تمثلان العينين. لكن في بعض الأحيان يمكن لمخلوقات غريبة أن تنظر إلينا في أقل التفاصيل من حولنا.
وفي إحدى الدراسات حول تلك الظاهرة، ونشرها موقع BBC Future، عُرض على الأشخاص أنماط عشوائية رمادية- مشابهة لتلك التي تظهر على التلفزيون بعد انقطاع البث.
وفي أعقاب بعض التحضير الدقيق، أفاد المشاركون أنهم رأوا شخصاً خلال حوالي 34% من الوقت أثناء مشاهدة هذا النوع من التشويش. وكانت أي ملامح تظهر في الصور غامضة للغاية- ولكن بطريقة ما، كان الدماغ يستحضر الوهم بأن الشخص كان يحدق فيهم من وراء تلك الأنماط الرمادية. ومن هنا يتضح أنه من السهل جداً إحداث هذه الظاهرة في رؤية الوجوه العشوائية، وبمجرد أن يقررها الشخص أو يفكر فيها تكون قابلة للتطبيق.
التأثير أو المُحفز الذي ينبع من الدماغ
وبالنظر إلى أدمغة المشاركين في مثل تلك الدراسات، وجد العلماء نشاطاً عالياً في القشرة البصرية الأولية التي يستخدمها الناس لانتقاء الجوانب المختلفة للصورة واستيعابها من خلالها، مثل منطقة استيعاب لون الصورة.
ووفقاً لموقع BBC Future، كانت المناطق الأمامية والقذالية في الدماغ تعمل بشكل نشط عندما اعتقد المتطوعون أنهم رأوا وجهاً في جسم أحد الجمادات المحيطة، ويُعتقد أن هذه المناطق تتعامل مع مستوى التفكير الأعلى والأكثر تعقيداً- مثل منطقة التخطيط والذاكرة في الدماغ.
ويبدو أن هذا بدوره قد أثار منطقة تسمى منطقة الوجه المغزلي الصحيحة- وهي جزء الدماغ الذي يستجيب للوجوه الفعلية حولنا، والتي قد تعكس الشعور الغريب بأننا ننظر إلى تفكير وشعور الشخص المقابل لنا من خلال ملامح وجهه.
وفي دراسة سابقة نشرها الموقع نفسه، وجد فريق من الباحثين اليابانيين أننا نبدأ في تتبع نظرة الوجوه العشوائية الوهمية الافتراضية بنفس الطريقة التي نحاول بها تتبع أعين شخص حقيقي أمامنا.
بعبارة أخرى، عندما ترى هذا الوجه المذهول في كوب قهوتك الصباحية ينظر إلى اليسار مثلاً، قد يكون لديك دافع غير واعٍ في النظر إلى يسارك لرؤية ماذا هناك.
وعلى الرغم من أننا نميل إلى الاعتقاد بأن أعيننا تخبرنا بأمانة عن كل ما هو أمامنا، إلا أن شبكية العين تسجل صورة غير كاملة ومربكة يجب أن يقوم الدماغ بترتيبها وترجمتها إلى معلومات. وبالتالي فإن عملية المُعالجة تلك تكون المسؤولة في المقام الأول عن حدوث ظاهرة الباريدوليا.
مثيرٌ للاهتمام، أليس كذلك؟