احتوى سجله الإجرامي على عدد ضحايا يتراوح بين 250 إلى 450 مريضاً لجؤوا إليه لتلقي العلاج، فحصلوا عوضاً عن ذلك على حقنة مميتة من الديامورفين.. نتحدث عن الدكتور هارولد شيبمان، أحد أكثر القتلة المتسلسلين إجراماً في تاريخ المملكة المتحدة.
تعالوا نروِ لكم قصته:
هارولد شيبمان.. جرائم في وضح النهار
اعتاد شيبمان على كسب ثقة مرضاه أولاً، ثم تشخيصهم بأمراض لا يعانون منها وذلك قبل إنهاء حياتهم بجرعة قاتلة من عقار الديامورفين.
بعد إلقاء القبض عليه وانتشار قصته في أرجاء المملكة المتحدة، خمَّن البعض أن هذا الطبيب المختل يعاني "عقدة التألُّه" وأنه كان يحاول أن يثبت لنفسه القدرة على إنهاء الحياة وكذلك إنقاذها، بينما قدم آخرون نظرية أكثر تعاطفاً في محاولة فهم أسباب ارتكابه لتلك الجرائم، فقالوا إنه كان يحقن كبار السن بالجرعات القاتلة؛ لأنه كان متعاطفاً معهم ويرغب بتخليصهم من آلامهم.
لكن البعض يعتقد أنه كان يحاول الانتقام بهذه الطريقة لموت والدته.
وُلد هارولد شيبمان في مدينة نوتنغهام بإنجلترا في عام 1946. وكان طالباً واعداً طوال دراسته، ورياضياً بارزاً، لكن مسار حياته تغيَّر عندما كان لا يزال في السابعة عشر من عمره، ففي ذلك العام، تبيَّنت إصابة والدته فيرا، التي كان شديد القرب منها، بسرطان الرئة.
وفي أثناء احتضارها في المستشفى، لاحظ شيبمان كيف استخدم الأطباء عقار المورفين للتخفيف من معاناة أمه وآلامها.
ذهب الخبراء النفسيون لاحقاً إلى أن هذه اللحظة تحديداً كانت هي اللحظة التي حفَّزت نوازع القتل لديه واستلهم منها طريقته الساديَّة في القتل، وفقاً لما ورد في موقع All That's Interesting الأمريكي.
الجريمة الأولى.. إدمان وتزوير مستندات طبية
بعد وفاة والدته، تقدَّم شيبمان للزواج من بريمروز ماي أوكستوبي وكان لا يزال طالباً في كلية الطب بجامعة ليدز. أنجب الزوجان 4 أطفال معاً، وكانت حياة شيبمان تبدو لمن ينظر إليها من الخارج نموذجَ الحياة الطبيعية.
تخرج شيبمان في عام 1970، وبدأ حياته المهنية طبيباً مبتدئاً، لكنه سرعان ما ترقَّى في السلم الوظيفي وأصبح ممارساً عاماً في أحد المراكز الطبية في مقاطعة ويست يوركشاير.
بحلول عام 1976، وجد شيبمان نفسه لأول مرة يُواجه مشكلة مع القانون، فقد قُبض على الطبيب الشاب بتهمة تزوير وصفات طبية لعقار "ديميرول" Demerol، وهو عقار يحتوي على مركب أفيوني يُستخدم عادة كمسكِّن للآلام الشديدة. كان شيبمان في ذلك الوقت قد أصبح مدمناً على ذلك العقار.
غُرِّم شيبمان، وطُرد من وظيفته، وبات عليه الذهاب إلى مركز طبي متخصص في معالجة الإدمان في مدينة يورك.
بدا هارولد شيبمان وكأنه استعاد عافيته سريعاً، فقد تجاوز إدمانه وعاد للعمل في مركز "دونيبرك" الطبي في بلدة هايد بمقاطعة مانشستر الكبرى عام 1977.
وقد أمضى الخمسة عشر عاماً التالية من حياته المهنية في هذا المركز، قبل أن يؤسس عيادة خاصة به في عام 1993. وقد اكتسب سمعة لنفسه بين مرضاه ومجتمعه المحلي بوصفه طبيباً صالحاً ومحباً للمساعدة. كما اشتهر بانتهاجِه طريقة تعاملٍ ودودة مع مرضاه.
مع ذلك، لم يكن ليدور في خَلَد أحد أن هذا "الطبيب الصالح" نفسه كان يقتل مرضاه سراً.
الجرائم المروعة لـ"الطبيب الصالح"
في مارس/آذار 1975، قتل شيبمان لأول مرة إحدى مريضاته، كانت تُدعى إيفا ليونز وتبلغ من العمر 70 عاماً. وذلك في اليوم السابق لعيد ميلادها.
في هذا الوقت، كان شيبمان قد تمكَّن من الحصول على ما يكفيه من عقار ديامورفين لقتل مئات الأشخاص، غير أن إدمانه لم يكتشف إلا في العام التالي.
وعلى الرغم من أن شيبمان طُرد في ذلك العام بتهمة تزوير وصفات طبية لحسابه الخاص، فإن المجلس الطبي العام لم يسحب منه ترخيص مزاولة المهنة، واكتفى بإنذاره.
وفقاً للتحقيقات، فقد مارس شيبمان القتل على فترات متقطعة وتوقف عنه وعاد إليه عدة مرات على مدى العقود التي ارتكب فيها جرائمه المروعة. ومع ذلك، فإن الثابت أن أسلوبه في القتل ظل دائماً كما هو. فقد كان يستهدف المرضى في أضعف حالاتهم، وكانت أكبر ضحاياه آن كوبر تبلغ من العمر 93 عاماً، وأصغرهم بيتر لويس الذي كان يبلغ من العمر 41 عاماً.
وكانت طريقته حقنَ الضحايا بجرعة قاتلة من عقار الديامورفين، ثم مراقبتهم يموتون أمامه أو إرسالهم لمواجهة مصير الموت في منازلهم.
ويُعتقد عموماً أنه قتل 71 مريضاً في أثناء فترة عمله في عيادة "دونيبرك"، وباقي ضحاياه قتلهم في عيادته الخاصة. وشملت قائمة ضحاياه 171 أنثى و44 رجلاً.
بحلول عام 1998، ارتابت الجهات الرقابية في "هايد" حيال العدد المتزايد من مرضى شيبمان الذين يُحتضرون بعد زيارتهم لعيادته، وكشفت مقارنة البيانات مع العيادات المجاورة له أن معدل وفيات مرضاه أعلى بنحو 10 مرات من معدل وفيات المرضى في تلك العيادات.
دفعت تلك المخاوف الجهات التي اشتبهت فيه إلى إبلاغ الطبيب الشرعي المحلي، ثم استدعاء شرطة مقاطعة مانشستر الكبرى. وكان من الممكن أن يكون هذا فصل النهاية لحقبة الرعب التي بثَّها شيبمان، لكنها لم تكن كذلك.
فشلت تحقيقات الشرطة في الوفاء بأبسط درجة من التحقيقات بشأنه، وهو تبيُّن ما إذا كان لدى شيبمان سجل إجرامي. ولو كانوا فقط سألوا اللجنة الطبية عن ملفه، لكانوا اكتشفوا أنه أُدين من قبل بتزوير وصفات طبية لحسابه الخاص.
وزاد على ذلك دهاء شيبمان الذي جعله يغطي آثار جرائمه عن طريق إيراد أمراض مزيفة في السجلات الطبية لضحاياه. وكانت النتيجة أن التحقيق لم يجد أي سبب يدعو للقلق، وعاد الطبيب القاتل إلى ارتكاب جرائمه بحريةٍ.
جريمة القتل التي كشفته أخيراً
اكتُشفت جرائم شيبمان أخيراً بعد أن ارتكب خطأ فادحاً حاول من خلاله تزييف وصية إحدى ضحاياه، هي السيدة كاثلين غراندي، التي كانت تبلغ من العمر 81 عاماً، وعمدة سابقة لبلدته "هايد".
بعد أن حقن شيبمان مريضته كاثلين بجرعة قاتلة من الديامورفين، استخدم الآلة الكاتبة الخاصة به لتزوير وصيتها، وكتب فيها أنها تريد "حرق جثمانها" بعد وفاتها، ولم يكتف بذلك، بل حرم عائلتها من أي ميراث، وأورث نفسه ممتلكاتها كلها.
مع ذلك، دُفنت كاثلين غراندي، وأخطر المحامون المحليون ابنتها أنغيلا وودروف بوصيتها. لكن الابنة اشتبهت على الفور في احتيال خبيث ما، ومن ثم توجهت إلى الشرطة.
استُخرج جثمان كاثلين غراندي في وقت لاحق في أغسطس/آب 1998، وعثر الطب الشرعي على بقايا من مادة الديامورفين في أنسجتها العضلية، وعليه أُلقي القبض على شيبمان في 7 سبتمبر/أيلول من ذلك العام.
على مدى الشهرين التاليين، استُخرجت جثث 11 ضحية أخرى. كما فحص أحد خبراء الشرطة السجل الحاسوبي لجراحات شيبمان، واكتشف أنه كان يُدخل بيانات كاذبة عن حالة مرضاه ليدعم أسباب الوفاة الوهمية التي يقدمها في شهادات وفاة ضحاياه.
بعد ذلك، تمكنت الشرطة من التحقق من 14 حالة أخرى أعطى فيها شيبمان جرعات قاتلة من الديامورفين لمرضاه، وزوَّر أسباب وفاتهم، وتلاعب بسجلاتهم الطبية للاحتيال بأنهم كانوا يعانون حالة طبية متأخرة وأن الوفاة جاءت متسقة مع ذلك.
أنكر هارولد شيبمان ارتكابه تلك الجرائم، ورفض التعاون مع الشرطة أو الأطباء النفسيين الجنائيين. وعندما كانت تحاول الشرطة استجوابه أو مواجهته بصور ضحاياه، كان يجلس مغمض العينين، ويتثاءب، ويرفض النظر في أي دليل مقدم ضده.
تمكنت الشرطة من إثبات ارتكاب شيبمان لخمسة عشر جريمة قتل فقط، لكن قرائن أخرى تشير إلى أن عدد ضحاياه يتراوح بين 250 و450 ضحية.
وفي عام 2000، حُكِم على شيبمان بالسجن مدى الحياة، مع التوصية بعدم الإفراج عنه مطلقاً.
سُجن في البداية في سجن مانشستر، قبل أن ينتهي به المطاف في سجن ويكفيلد في ويست يوركشاير، حيث انتحر. وفي اليوم السابق لعيد ميلاده الثامن والخمسين، 13 يناير/كانون الثاني 2004، عُثر على شيبمان مشنوقاً في زنزانته.
وقال ضابط المراقبة إنه كان يفكر في الانتحار حتى تحصل زوجته على معاشه التقاعدي ودفعة تأمين مالية مرهونة بوفاته.