قالت صحيفة The Guardian البريطانية، الأربعاء 5 مايو/أيار 2021، إن علماء آثار كشفوا عن أقدم موقع دفن بشري معروف حتى الآن في إفريقيا، وذلك بعدما عثروا خلال عملهم الميداني على رفات طفلٍ وُضِعَ جثمانه بعناية ليرقد في حفرةٍ، يعود تاريخ حفرها إلى ما يقرب من 80 ألف عام.
ترتيب العظام يُظهر أن الطفل الذي كان يبلغ من العمر ثلاث سنوات -وأطلق عليه الباحثون اسم (متوتو) التي تعني "طفلاً" باللغة السواحلية- وُضِع جثمانه ورجلاه مضمومتان إلى صدره، وربما كان ملفوفاً في كفن وأُسند رأسه إلى وسادة، قبل أن يُغطَّى برفقٍ بالتراب.
واكتشف الباحثون بقايا عظام الطفل الرقيقة والمتحلِّلة خلال عمليات حفر للتربة تحت نتوءٍ مستتر عند مصب كهف "بانجا يا سايدي"، الذي يقع في المرتفعات الاستوائية بالقرب من السهل الساحلي في كينيا، على بعد نحو 16 كيلومتراً من الشاطئ.
أقدم دفن بشري معروف بإفريقيا
البروفيسور مايكل بتراجليا، أستاذ مادة التطور البشري وعصور ما قبل التاريخ في معهد ماكس بلاك لعلوم التاريخ البشري في جينا بألمانيا، قال إنه اكتشاف "مذهل للغاية. فهو أقدم دفن بشري معروف في إفريقيا، ويُطلعنا هذا الاكتشاف على أشياء تتعلق بإدراكنا، ونزوعنا إلى التخالط الاجتماعي وسلوكياتنا، وكلها أمور مألوفة جداً لنا إلى اليوم".
كما اكتشف الفريق العلمي حافة القبر وبقايا العظام لأول مرة في عام 2013، لكن الرفات كان شديد الهشاشة، لدرجة أنه تحول إلى غبار عندما حاول العلماء رفعه من مكانه، ومن ثم عمل الباحثون على مدى السنوات الأربع التالية، على إبراز القبر عن طريق الحفر حوله، وكشفوا خلال ذلك عن مزيد من بقايا العظام، ولكن حتى بعد استخدام مادة الراتنج عليها كانت لا تزال أكثر هشاشة من أن تُسترجَع.
بعد ذلك، قرر الباحثون الحفر حول الحفرة الدائرية، بعرض 40 سم وعمق 13 سم تقريباً، وتبطين القبر بالكامل بالجص، حتى يمكن رفعه بأمان عن الأرض. ثم نُقلت الكتلة إلى "المتحف الوطني" في العاصمة الكينية نيروبي، ومنه إلى مختبر متخصص في إسبانيا، حيث خضعت المادة لمزيد من التنقيب والفحص عبر معدات الأشعة السينية ثلاثية الأبعاد.
بقايا جثة طفل عمرها عشرات السنين
وعُثر على سنين صغيرتين في القبر تتطابقان مع المعروف لدينا عن أسنان "الإنسان العاقل" Homo sapiens، وتبين من خلالهما أن الطفل كان يبلغ من العمر نحو سنتين ونصف السنة إلى ثلاث سنوات.
وكانت هناك أسنان أخرى لا تزال مستقرة في الفك السفلي للطفل، واكتُشف إلى جانبها العمود الفقري، وأضلاع وعظام أخرى من الكتف والأطراف.
كما عُثر على أدوات حجرية للنبش والحفر في المحيط القريب للقبر والموقع حوله، إلى جانب رؤوس مدببة حجرية، ربما تكون ثُبِّتت بعد ذلك على عصي خشبية لصنع الرماح.
وتبيّن الصور أن الطفل وُضِع على جانبه الأيمن مع ثني ركبتيه نحو صدره، فيما يُشير وضع الجمجمة إلى أنها كانت مستلقية على مسند رأس أو وسادة. ولم تتفتت العظام المفصلية، مثل العمود الفقري، في القبر، ما دفع الباحثين إلى الاشتباه بأن الجثة كانت ملفوفة بإحكام في كفنٍ قبل دفنها.
وكشفت عملية التزمين أن العظام يبلغ عمرها نحو 78 ألف عام، وفقاً للدراسة العلمية التي نشرتها دورية Nature.
اكتشافات نادرة في إفريقيا
من جانبها، قالت البروفيسورة نيكول بوفين، المشرف الرئيسي على المشروع البحثي: "طوَّر البشر أنظمة معتقدية معقدة حول الموت. هذه الأنظمة تتفاوت بشدة بين الثقافات المختلفة، وكذلك طرق التعامل مع الموتى، لذلك لا يمكننا استخلاص استنتاجات محددة حول ما يعنيه الدفن للبشر".
أضافت: "لكن ما يبدو واضحاً هو أن الأمر لا يمكن اختزاله في ارتباط عاطفي بالموتى، وإنما من شبه المؤكد أيضاً أنه يوجد إطار لفهم الموت ورحلة الانتقال عبرَه، وسياقات لجعلِه ذا مغزى".
من جهة أخرى، كان علماء آثار اكتشفوا مواقع دفن بشرية أقدم خارج قارة إفريقيا.
ويشمل ذلك بقايا بشرية عُثر عليها في مدافن تقع في منطقة كهوف السخول على سفوح جبل الكرمل في فلسطين، وكهف "قفزة" بالقرب من مدينة الناصرة، ويرجع تاريخها إلى ما بين 90 ألف إلى 130 ألف سنة.
ومع ذلك، تقول بوفين: "تعتبر اكتشافات المدافن الإفريقية نادرة على نحو خاص، على الرغم من حقيقة أن إفريقيا هي مسقط رأس الجنس البشري. غير أن هذا يعكس على نحو شبه مؤكد قدرَ التحيزات القائمة في أماكن إجراء البحوث؛ فالمناطق التي عُثر فيها على مدافن سابقاً كانت قد خضعت لعمليات بحث أوسع نطاقاً بكثير من تلك التي تُجرى في إفريقيا".