يبدو أنَّ الكلب أوفى صديق للإنسان وأقدمه، إذ إن الحقائق التي كشفتها الآثار المستكشفة تُظهر أن الكلاب المُستأنَسة ظواهر تاريخية واجتماعية-ثقافية تطورت على مدار آلاف السنوات، وتحديداً 15 ألف سنة.
وبفضل فريق من الباحثين من جامعات جنيف وغرب أستراليا وبرث، تكونت فكرة أوضح عن هذا الخط الزمني.
وبتمويل من الهيئة الملكية لمحافظة العُلا السعودية، عَكَفَت دراسة جديدة على تحليل بقايا كلب سعودي اكتُشِفَت بموقع دفن، وخلصت إلى أنَّ هذه البقايا أقدم أدلة على استئناس الكلاب في شبه الجزيرة العربية.
تحليل رفات كلب في السعودية عمرها 6000 عام
ووفقاً لتقرير الفريق البحثي المنشور في دورية Journal of Field Archaeology، فإنَّ عظام الكلاب المُكتشفة بموقع دفن شمال غربي المملكة العربية السعودية، تعود إلى ما بين عامي 4200 قبل الميلاد و4000 قبل الميلاد.
وهذا هو أول دليل على استئناس الكلاب بالمنطقة، وتحديداً "أقدم كلب محلي مُؤرَّخ زمنياً في شبه الجزيرة العربية". ويعيدنا هذا 6000 سنة كاملة إلى الوراء، ويتفوق على الأدلة السابقة التي أعادت تاريخ هذا الاستئناس إلى نحو 5000 عام.
وألقت الحفريات، التي نفذتها بعثة التنقيب "علم الآثار الجوي في المملكة العربية السعودية"، ضوءاً مهماً على الممارسات الاجتماعية والجنائزية في شمال غربي شبه الجزيرة العربية خلال العصر الحجري الحديث والعصر النحاسي.
وبقايا الكلاب السعودية هذه ليست أول دليل على استئناس الكلاب في التاريخ؛ إذ هناك أدلة من الحضارة النطوفية تعود إلى 12000 عام مضت، والأردن أيضاً لديه أدلة على اصطحاب الكلاب في رحلات الصيد منذ 11500 عام.
وبالمثل، هناك العديد من القبائل الأصلية المنتشرة في جميع أنحاء العالم والتي كانت لها علاقات شبه منزلية أو علاقات صيد مع الكلاب التي سبقت الاكتشافات في شبه الجزيرة العربية.
لكن يميز هذا الاكتشاف عاملان: أولاً، لا تسمح الظروف الجوية القاسية للغاية والتضاريس ببقاء كثير من أنواع الحيوانات. وفي الواقع، شبه الجزيرة العربية أكبر منطقة في العالم من دون أية أنهار دائمة.
ثانياً، تُظهِر الأدلة الخاصة بتاريخ المنطقة ومجتمعاتها درجة كبيرة من العزلة الثقافية، حسب ما نشره موقع Ancient Origins الأيرلندي.
بعثة الآثار اكتشفت موقع دفن حرة عويرض
اكتشفت بعثة التنقيب "علم الآثار الجوي في المملكة العربية السعودية"، قبل بضع سنوات، من الجو مقبرتين ضخمتين بمنطقة العُلا، التي لم تشهد كثيرتً من عمليات الاستكشاف، وهما: موقع حرة عويرض في المنطقة البركانية المرتفعة، وموقع آخر بالأراضي الوعرة الرملية الشرقية.
وبقيادة هيو توماس من جامعة غرب أستراليا، واصل الفريق عمله بحذر. لكن المقابر تعرضت طوال تاريخها الطويل للنهب، بما في ذلك مؤخراً.
وفي حين واجهت الأحجار الكريمة والمواد الباقية وطأة النهب، نجت العظام والهياكل القائمة، التي قدمت قيمة أثرية كبيرة.
وفي موقع حرة عويرض، تبين أنَّ القبر استُخدِم لأكثر من 600 عام، بدءاً من نحو 4300 قبل الميلاد، ويشير هذا إلى استمرارية بين العصر الحجري الحديث والعصر النحاسي.
وقال مدير بعثة علم الآثار الجوي في المملكة العربية السعودية، هيو توماس: "العُلا في مرحلة حالياً سنبدأ فيها بإدراك مدى أهميتها للتنمية البشرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط".
وبدأ فريقه عمليات المسح الجوي ورسم الخرائط بالأقمار الصناعية والتصوير باستخدام الطائرات بدون طيار منذ ما يقرب من 7 سنوات، على مساحة أكثر من 20000 كيلومتر مربع (7722 ميلاً مربعاً) من المواقع المتناثرة، قبل بدء العمل على الأرض في عام 2018.
بقايا كلب سعودي في حرة عويرض
وعُثِر بموقع الدفن في حرة عويرض على عظام ما يُفترَض أنها عائلة أو مجتمع مُكوَّن من 11 شخصاً، و26 عظمة من عظام كلب واحد. وبالنظر إلى تمزق العضلات في بقايا الكلب السعودي، التي حلَّلها الباحثون، خلصوا إلى أنَّ هذا الحيوان لم يُقتل أو يُضحَّى به، بل عانى من التهاب المفاصل.
ويشير هذا إلى أنَّ الكلب عاش عمراً طويلاً والرفقة الطيبة التي يحتمل أنه وفرها للعائلة. ويشير دفنه مع أفراد العائلة، أو حتى مع بشر آخرين، إلى مكانة الكلب العالية بين المتوفين.
وكانت لورا سترولين، الباحثة الوحيدة من جامعة جنيف، عالمة آثار الحيوان بالفريق، وأكدت دراستها لعظام الحيوان المُكتشَف وبنيته، أنه لم يكن ذئباً منفرداً، بل كلباً مستأنساً.
وكتبت في التقرير المنشور بدورية Journal of Field Archaeology: "فيما يتعلق ببقايا الكلاب، فإنَّ السياق الأثري أساسي للتفسير: في جميع الاحتمالات، تمثل البقايا كلباً كاملاً مدفوناً مع المتوفين".
وتأكدت هذه النتائج من خلال لوحة فنية صخرية اكتُشِفَت في العُلا، ويعود تاريخها إلى أواخر العصر الحجري الحديث. ويظهر فيها كلبان محاطان بالماشية ويصطادان الوعل؛ مما يشير إلى أنَّ الكلاب استُؤنِسَت للرفقة أو استُخدِمَت في عملية الصيد.
وهذه النتائج جزء من مشروع أكبر ينفذه النظام الملكي في السعودية، والذي اكتشف الإمكانات الثورية لمنطقة العُلا، والمواقع المختلفة داخلها، ومن ضمنها موقع الحِجر (مدائن صالح)، وهو أول موقع سعودي يُدرَج في قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو، والذي يُعتقَد أنه أقصى نقطةٍ جنوب إمبراطورية الرومان في عام 106 بعد الميلاد.