على ربوة عالية في مدينة شفشاون المغربية، يطُل مسجد أبيض صغير يُطلق عليه اسم "بوزعافر"، وكأنه صرحٌ نذر نفسه لحراسة هذه المدينة التي بُنيت على الطراز الأندلسي وحمايتها من العدو.
مسجد "بوزعافر" الاستثنائي بُني على يد الإسبان أيام احتلالهم للمغرب، والذي كان الغرض منه التقرب لسكان المدينة وكسب ودهم، لكن النتيجة كانت رفض الصلاة فيه إلى يومنا هذا.
ولا تكتمل زيارة شفشاون الواقعة شمال المغرب إلا بالإطلالة الكاملة عليها من على ربوة مسجد بوزعافر، حيث يُمكن التقاط صور بانورامية للمدينة الزرقاء.
إرث الإسبان
تُجمع الروايات التاريخية الشفوية والمكتوبة أن مسجد بوزعافر تم بناؤه على يد الإسبان، إثر احتلالهم لمدينة شفشاون المغربية، لكن المغاربة قاطعوه ولم يقيموا فيه الصلاة ولو ركعة واحدة.
ياسين أغلالو، باحث في تاريخ مدينة شفشاون قال في تصريح لـ"عربي بوست" إن "هذا المسجد تدور بشأنه العديد من الروايات التاريخية، كما يُجهل تاريخ بنائه على وجه الدقة، إلا أن أغلب الروايات تُجمع على أن بناءه كان بعد الاحتلال الإسباني الثاني لمدينة شفشاون، أي سنة 1926".
وبحسب ياسين أغلالو، فإنه من بين الروايات المتداولة حول هذا المسجد أنه بني بأمر من الكولونيل الإسباني فيرناندو كاباس، الذي كان معروفاً بالشنب الطويل، وهو ما جعل ساكني المنطقة يطلقون عليه اسم مسجد "بوزعافر"، أي صاحب الشنب الطويل بالعامية المحلية.
أما الرواية الثانية، بحسب أغلالو فتُشير إلى أن سبب التسمية يرجع إلى المهندس الإسباني الذي سهر على إنشائه، وكان له أيضاً شارب طويل مفتول، ولم يكن اسمه معروفاً، وكان الأهالي يطلقون عليه لقب "بوزعافر".
كما أن هناك رواية ثالثة مختلفة جذرياً عن الروايتين السابقتين، وهذه الرواية انفرد بها المؤرخ عبدالسلام بلقاضي، المعروف بعبدالقادر الحضري الأندلسي، والذي قال إن هذه التسمية تعزى للمالك الأصلي للأرض التي شيد فوقها المسجد، والذي كان يمارس التجارة بين سبتة وشفشاون، وكان معروفاً أيضاً بشاربه الطويل، ويلقب بـ"بوزعافر".
أما المؤرخ المغربي طه بن فاروق الريسوني، فقد أورد في كتابه من تاريخ شفشاون أن سلطات الحماية الإسبانية قامت ببناء هذا المسجد في سياق دعم استقرارها بمنشآت إدارية وتربوية ودينية بطريقة عصرية حديثة، بغية استلطاف السكان وكسب ودهم.
ومهما يكن أصل التسمية، فالمؤكد حسب محمد أملال، باحث في تاريخ وتراث مدينة شفشاون، أن الإسبان هم من قاموا ببناء هذا المسجد، في محاولة للتقرب من ساكني المنطقة، وإبعاد تهمة معاداة عقيدة المسلمين عنهم.
ويرجح أملال أن يكون الكولونيل فيرناندو كاباس هو من أمر ببناء هذا المسجد، فهذا الحاكم العسكري كان يتقن اللغة العربية، وعاش سنوات متخفياً في المغرب قبل احتلال شفشاون، كما عرف ببنائه لمساجد أخرى، لكنه استبعد أن يكون هو المعني بتسمية "بوزعافر"، إذ إن الكولونيل كاباس كان معروفاً لدى أبناء المنطقة، وكان يمكن أن يطلقوا اسمه مباشرة على المسجد، لكنهم لم يفعلوا، مرجحاً أن تكون التسمية نسبة إلى المهندس الذي قام بتشييده.
مسجد لم تُقم فيه صلاة
لم تحقق السلطات الإسبانية مبتغاها من بناء مسجد على ربوة عالية في مدينة شفشاون، إذ قاطعه ساكنو المنطقة، ولم يقيموا فيه الصلاة منذ بنائه إلى يومنا هذا، تعبيراً عن رفضهم للوجود الإسباني في المنطقة، الذي خاضوا ضده معارك شرسة.
ويؤكد ياسين أغلالو في حديثه لـ"عربي بوست"، أنه "لم يسبق أن أُقيمت الصلاة في هذا المسجد، وكان يُكتفى فيه برفع الأذان، إذ تناوب على رفع الأذان فيه كل من الفقيه الزنان والفقيه الشريف العلمي الغزومي"، مضيفاً أن "الفقيهين كانا يرفعان الأذان بطريقة غير منتظمة، مقابل أجر يتقاضيانه من نظارة الأوقاف المغربية".
وأضاف المتحدث "كان أهل شفشاون يعتقدون أن المسجد بني لأهداف تجسسية، لذلك قاطعوا الصلاة فيه، وظل على ذلك الحال إلى يومنا هذا".
أما علي الريسوني، المعروف بكونه مؤرخ مدينة شفشاون، فيرى أن "ساكني المنطقة اعتبروا أن ما بناه الكولونيل فيرناندو كاباس كنيسة وليس مسجداً، لذلك ظلوا يقاطعونه".
ويرى علي الريسوني أن "فيرناندو كاباس كان هدفه التقرب من سكان مدينة شفشاون ببناء هذا المسجد، إلا أن خطته باءت بالفشل".
أهمية سياحية
يحتل مسجد "بوزعافر" أهمية سياحية كبيرة في مدينة شفشاون، وتكمن أهميته في موقعه المتميز، فمن خلاله يمكن رؤية المدينة بأكملها، والتقاط صور لها.
يقول ياسين أغلالو، إن "مسجد "بوزعافر" واحد من المعالم السياحية المهمة بمدينة شفشاون، يستمد أهميته من موقعه، وبتواجده بالقرب من العديد من المواقع السياحية، أهمها موقع رأس الماء، باعتباره أهم قطب سياحي، إضافة إلى تواجده بالقرب من ضريح سيدي بوجمعة وموقع لالة عائشة العدوية".
وقد تحول هذا المسجد إلى قبلة للسياح الأجانب الذين يزورون المدينة المعروفة بهدوئها وجمالها الأخاذ، حيث يحظون بمشاهدة غروب الشمس من أعلى الربوة والتقاط مشاهد بانورامية للمدينة الزرقاء.
وقد قام المجلس البلدي لمدينة شفشاون سنة 2007 بترميم المسجد، وكذا تعبيد الطريق نحوه، وهو ما سهل مهمة الوصول إليه، وتحوله إلى قبلة للسياح.
ويرى ياسين أغلالو أن مسؤولي مدينة شفشاون لم يقوموا بالتعريف بهذا المسجد الموروث عن الحقبة الكولونيالية بما فيه الكفاية من أجل استقطاب مزيد من السياح.
من جهته، يؤكد محمد أملال في حديثه مع "عربي بوست"، أن "المكان يُعتبر وجهة مفضلة لساكني شفشاون وللسياح، والمجلس البلدي قام بترميمه، كما وضع بعض الكراسي في جنباته من أجل توفير بعض الراحة للراغبين في قضاء وقت بالقرب منه".
ويأمل العديد من أبناء مدينة شفشاون، الذين تحدثوا لـ"عربي بوست"، أن "يتم بناء مقاهٍ وفنادق بالقرب من هذا المسجد، الشيء الذي يمكن أن يعود بالنفع عليهم، ويساهم في خلق فرص العمل، ويشجع مزيداً من السياح على زيارته. بينما يطالب آخرون بتحويله إلى متحف يعرّف بفنون المدينة، ويحتضن طاقات ومبدعي المنطقة".