في مديح الشبابيك.. الدنيا كلها شبابيك

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/04 الساعة 11:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/04 الساعة 15:17 بتوقيت غرينتش
المشربيات بالقاهرة (Istock)

قرأتُ في مكان ما أن الإنسان إذا أراد أنْ يفهمه الناس حقاً؛ فليقم بدعوتهم إلى بيته، ويفتح لهم شُبّاكَه؛ لِيروا العالم من خلاله.

لذلك كان سؤالي الأول دائماً لأصدقائي عند استئجار أي غرفة أو شقة سكنية لتكون مُقاماً لنا في القاهرة أيام الدراسة، محلَّ استغرابٍ وسخرية. كان أول ما يشغلني: الشبابيك!

 ما إذا كان متاحاً أن أمدَّ رأسي ويدي خارج حدود الغرفة أم لا؟ وعلامَ أطلُّ، وماذا أرى؟

في القريةِ التي وُلدت فيها في الريف، كان شباكُ جدتي هو عيني الأولى. البيوت كما الأجساد والقلوب، متقاربة حدّ الالتصاق. كانت الحكايات والأخبار والنمائم تُمرّرُ عبر الشبابيك، كما تمرَّر نواقصُ البيوت من أدوات وخضراوات وأوراق الجرائد، إذا ما شرّفَ البيتَ ضيفٌ في ساعةِ غفلة.

كانت الشبابيكُ أرشيفَ الشارع والحارة، يمكنك أن تسمع -دون تنصّت أو تجسّس- أحدهم يوبّخ زوجته لنقصانٍ في ملح الأكل أو زيادته، الزوجةَ التي تتشاجر مع حماتِها الغليظة المتسلِّطة، بنتَ الجيران التي تتسلّلُ في هدْأَة الليل لتكلّم حبيبها في الهاتف. فلانة تزوجت، فلانة تطلقت، فلانة أنجبت، فلانة ضربت زوجها. ويكفي أن يُسمع صوتٌ عالٍ ينبعثُ من الشارع، لتُفتحَ كلُّ الشبابيك مرة واحدة مستفهمةً عمّا جرى. وكأنها لا تعرف أين بدأت الحكاية وأين انتهت!

قامت الثورة، وسقط النظام، وجاءت أنظمة، وأَعيى الناسَ عدُّ السنين وتذكارُ المواقف، وبدأت المشاهد تنسلّ من الذاكرة بفعل عوامل الزمن وعوامل أخرى. لكنّ الشبابيك كانت حاضرةً بوصفها منفذَ معشرِ مَن آمنَ بالحرية والثورةِ بقلبه ولكن أقعده خوفه وعجزه وعيالُه. كانت حاضرةً كسجل إنساني عصيٍّ على المسحِ أو التلاعبِ، حفظت حقوقَ الشجعان الحقيقيين – ولو بكاميرات الهواتف الرديئة قليلة الجودة- الذين واجهوا الموت بصدورٍ مفتوحة ليحيا الوطن.

ومَن يجرؤ على نسيان ذلك المشهد الذي يظهر مدرّعة من مدرعات الشرطة تُخيف المتظاهرين بخرطومِ المياه ومِن خَلفها أفرادٌ كُثر مِن الأمن المركزي؛ فيفرّون من أمامها ويتفرقون في الشوارع الجانبية!

كان مشهداً أشبه بإجفال الطيرِ أو تفريق جماعاتِ النمل عن مكعب سكر.

لكنَّ بطلاً مجهولاً يظهرُ من اللامكان، يعبر الرصيف ويقف أمام المدرعة دونما خوفٍ أو تردد. يفتح الشرطيُّ خرطوم المياه عن آخره، والبطل المجهول في مكانه ثابت كالجبل، لا يَريم.

 ومِن فوقه أصوات تَزعق وتصفق وتصفِّر وتنادي بفخرٍ وحرارة: "جدع..جدع..جدع..رجل..رجل..جدع..جدع..جدع" حتى عاد المتقهقرون، وثبتوا في وجهِ المدرعة، وأوقفوها.

الشبابيك سجلت تلك اللحظة، قبضت عليها وحفِظتها من الضياع، وأهدتها إلى كل الأحرار والشجعان في العالم. ولعلَّ مشهدَ هذا الشاب هو الأيقونة الأبرز لثورة الخامس والعشرين من يناير، حين تُستعاد كذكرى من عامٍ إلى عام.

لذلك لم يلقَ ذلك التساؤل الشاعريّ الشائع: (الذي اخترع الشباك، كان عاشقاً أم سارقاً؟) صداهُ بين المصريين؛ لأنهم لا يعتبرون الشباك مُربعاً من الخشب والزجاج وفقط، يوضع على أي جدار، ويطل على أي مشهد!

إنهم يعدّون البيوت القديمة التي تتزين بالمشربيّات والشناشيل، إرثاً جماليّاً لا تفريط فيه، ويدفعون أموالاً أكثرَ في البيتِ (اللِّي شبابيكه هَواها بحري)، ويحبُّون الشبابيك التي تطلُّ على الشارع في الأدوار الأرضية حباً جمّاً؛ ليكون لهم سبقُ معرفة كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة في الحارة، ويحرصون على أن تَعلو شبابيكهم ولا يُعلى عليها؛ لأن في ذلك كشفاً للسِتر وهتكاً لخصوصيةِ البيت وحُرمته.

ولأنهم يدركون – بالفطرة – أن الشباك ليس مجرد مَنفذ أو فتحة للضوء والهواء، ليس متنفساً للعشاق واللصوص وفقط. بل هو أكثرُ من ذلك وأبعد: لغةُ حوار، وحاجز بين حياتين، وواقعين، بين البيت والشارع، بين الخاص والعام، بين الكلام الشفيف الرقيق وبين خناقات الحارات. يغلقونها عند الغضب أو السخط ، يعاتبون من وراءها، ثم يوارِبونها عند الرضا، ويُشرِعونها للحبايب.

ولم يجدْ (مجدي نجيب) أبلغَ وأرقَّ وأجدى مِن (شبابيك) لِيعاتب (عبد الناصر) ويلومه على سجنه له – رغم أنه كان من مؤيديه – معبراً عن خيبة أمله ومعاناته مع المعتَقلِ حتى بعد خروجه منه، إذ كان يُطردُ من أي عملٍ، بمجرد أن يعلمَ صاحبهُ بأمرِ اعتقاله؛ فكتب أشهر أغاني الثمانينات، بل الأغنية الأشهر في تاريخ (محمد منير) الفني:

وقلت أنا عاشق سقوني كتير المرّ ورا الشبابيك

دي عنيك شبابيك، والدنيا كلها شبابيك.

ولعل الصنّاع والمطورين في مجال السوشيال ميديا، قد تنبهوا لهذا الارتباط الدافئ بين الأشخاص في كل مكان وبين الشبابيك؛ فأتاحوا – بضغطة واحدة وإضافة رمز الشباك (#)-  فتحَ شباك ضخمٍ يطل على المأهولِ كلّه، من شرقهِ إلى غربه، لتشاهد وتتلصص على كل الذين يكتبون ويصورون ويعرضون أي شيء يخصّ أي موضوع يشغلك.

كثيراً ما نغفلُ – نحن المصريين – ذلك الجانبَ الشاعريَّ الحالمَ للشبابيك، لأنها ارتبطت في أذهاننا ارتباطاً شرطيّاً بالانتظارِ والمضايقاتِ والتعنّت. سبّ الدين لموظف شباك الشهر العقاري. الطوابير الطويلة أمام شباك المعاشات، الفتحات الضيّقة في شبابيك السكك الحديدية وموظفها البارد الذي لا يدرك معنى أن يفوتك قطار الصعيد على أقل من دقيقة. الحرّ والتلزيق، وشباك رقم 5 الخارج من الخدمة دوماً، رغم أن صاحبه موجود، لكنه عكِر المزاج. ومدام سَماح التي لم تحضر اليوم، والراكب السخيف الذي قرر أن يستمتع بنسمات الفجر الباردة جداً القادمة من شباكِ ميكروباص متجهٍ للقاهرة في يناير. وشباك الانحراف الذي يقف وراءه شابٌّ عابث أو رجل نَزِق، يتلذذان بمراقبة الفتيات والنسوة اللاتي ينشرن ملابسهنّ على الشارع.

لكنني إذ أفتح شبّاكي كل صباح على الشارع الرئيسي المزدحم والمارّة وعابري السبيل والجيران ومشادّاتهم؛ تتحرك تلك الأفكار جميعاً في رأسي. وأتذكر شباك جدتي وشباك الثورة وشبابيك القاهرة القديمة، وشباك الأمل الذي أفضِّل -حتى في أسوأ الطقوس والظروف- أن أتركه مُوارَباً.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أيمن ربيع
كاتب مصري
من مواليد ديسمبر 1999، طالب بكلية الطب جامعة القاهرة، وصاحب كتاب «زحام الكلام» المنشور في معرض القاهرة للكتاب 2020.
تحميل المزيد