الفقراء يدخلون الجنة…
هذه الجملة التي جاءت في مواضع ساخرة عديدة في أعمال فنية مصرية هي ملخص لنظرة وخطابات الطبقات العليا في مصر للفقراء، فهم دائماً المُطالبون بالتضحية والتقشف في أوقات الأزمات من أجل ألا تستدين مصر، وهم مَن يدفعون فواتير الأزمات الاقتصادية والمعارك السياسية والحروب العسكرية.
وفي عالم السوشيال ميديا تُستخدم صورهم مع عبارات التنمية البشرية لجلب التفاعل، ونشر البهجة والسعادة بين مرتادي هذه الصفحات. فهذا طفل قد غطّى الوحل والشحم وجهه بعد يوم عمل مُرهق، تخلّى خلاله عن آدميته، ولكنه بشكل أو بآخر كان يبتسم، لا ندري ما وراء هذه الابتسامة، ولكنها كانت فرصة لجماهير التفاعل الإلكتروني أن يؤلفوا حولها جملاً إنشائية بديعة، تتحاكى في أي موضوع، إلا معاناة هذا الطفل.
يتكرر الأمر ذاته –تقريباً كل عام- مع صور أهالي قرية "شبرا بلولة"، التابعة لمركز قطور، بمحافظة الغربية، وهم يجمعون محصول الياسمين. صورٌ يراها البعض تفوح عطراً وجمالاً، ولكن ما لا يدركه مُستخدِم الفيسبوك القابع خلف الشاشة أن الضحكات والخفة التي تملأ الصور بهجة، إنما هي لحظات استثنائية ضمن حوالي 9 ساعات عمل متواصل من الشقاء والبؤس الحقيقي.
مركز زراعة الياسمين
تقع قرية "شبرا بلولة" على بُعد أكثر من 90 كيلومتراً شمال العاصمة المصرية القاهرة، والمعروفة بقرية الياسمين، حيث تنتج 50% من عجينة الياسمين التي تُستخدم في تصنيع أرقى العطور حول العالم.
ووفقاً لإحصاءات الاتحاد الدولي لتجارة الزيوت والعطور (IFEAT) لعام 2015، فإن مصر والهند هما المنتجان الرئيسيان لنحو 95% من عجينة الياسمين العطرية في العالم. وفي مصر، تقع أكثر من 90% من مزارع الياسمين في محافظة الغربية، في مدينتي قطور وبسيون وقرية شبرا بلولة، حيث يتركز معظمها.
يسكن القرية نحو 55 ألف نسمة، يعمل حوالي 90% منهم في زراعة وجمع زهر الياسمين، وتخرج جميع فئات القرية في مرحلة الجمع، نظراً لأن متطلبات جمع أزهار الياسمين بسيطة، لا تستلزم الكثير من الشروط، حيث يخرج الأطفال من سن الخامسة حتى العجائز في الـ70 من عمرهم للمشاركة في الحصاد، وتُشارك عائلات بأكملها في الحصاد.
ونظراً للطبيعة الخاصة لمحصول الياسمين، فإن عملية الجمع تتم ليلاً، حيث تبدأ من منتصف الليل وحتى الثامنة أو التاسعة من صباح اليوم التالي. ويمتد موسم الياسمين من شهر يونيو/حزيران حتى شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
ما لم ترصده السوشيال ميديا
رغم المكانة الكبيرة التي من المفترض أن تحتلها هذه القرية الرائدة والمحورية في صناعة العطور حول العالم، فإن الياسمين تحوّل بالنسبة إلى أهالي القرية إلى "لعنة"، تصيبهم وتصيب أبناءهم حتى الموت.
فأهالي هذه القرية يعملون منذ نعومة أظفارهم في مهنة زراعة الياسمين، التي ورثوها عن أجدادهم، فهي مهنتهم الوحيدة، والتي بسببها لا ينامون لمدة 6 شهور متواصلة (هي فترة حصاد زهرة الياسمين)، نظراً لأنه لا يتم جمعه سوى في الليل وحتى الساعات الأولى من الصباح، ولا يُجمع الياسمين سوى بالطريقة اليدوية، ما يتطلب مجهوداً كبيراً من العمالة التي تقوم بعملية القطف.
إن الظروف الاقتصادية الطاحنة، والطبيعة الاستثنائية لحصد محصول الياسمين، تدفع الأهالي للاستعانة بأبنائهم في هذا العمل الشاق، ما قد يؤدي بهم إلى ترك المدارس لاحقاً، وهو نفس مصير الآباء من قبل؛ لذلك تُعاني القرية من نسبة أمية مرتفعة.
ونتيجة طبيعة المحصول، يُصاب الكثير من أهل القرية بأمراض الحساسية، ليفقدوا حتى الحد الأدنى من البهجة خلال الحصاد، ويتضاعف شقاء الفلّاح. وبطبيعة الحال، لا يستطيع أهالي القرية تحمل تكاليف علاج أمراض الحساسية، كما أنهم لا يملكون مظلة تأمين صحي تدفع عنهم أو تُعالِجهم.
حتى هذه النقطة ربما تكون الأمور طبيعية، فكل مهنة تحمل صوراً مختلفة من المشاق والمتاعب، التي لا تتشابه مع ظروف أخرى، وهذه طبائع الأمور، لكن المأساة الحقيقية لم تأتِ بعد.
ربما يكون من المنطقي أن تتحمل مشاق ومتاعب مهنتك من أجل أن تحصل على مقابل مادي عادل، يوفر لك ولأسرتك الحياة الكريمة، لكن أن تتحمل مثل هذه الظروف من أجل مبالغ زهيدة، لا تكفي -في بعض الأحيان- حدّ الكفاف، ولا تتناسب مع اقتصاديات هذه الصناعة، فهذه هي ذروة المأساة.
رغم الطبيعة الخاصة لصناعة الياسمين، والمكانة الخاصة لهذه القرية، صاحبة الإنتاج الأضخم والأكبر على مستوى العالم، فإنها لم تلقَ معاملة استثنائية، وعانت مما تعاني منه منظومة الزراعة في مصر؛ الاستغلال والاحتكار.
يصل إنتاج القرية يومياً من الياسمين إلى 10 أطنان، يتم توريدها بعد جمعها إلى ما يُعرف بالمجمع، الذي يشتري الطن بنحو 12 ألف جنيه -800 دولار- ليستخلص منه ما يتراوح ما بين 2 إلى 3 كيلوغرامات من عجينة الياسمين، يتم تصدير الكيلو منها مقابل 15 ألف دولار. أي أن الطن التي باعه الفلاح بـ800 دولار، يتم تصديره بحوالي 45 ألف دولار، أي لا يحصل الفلاح سوى على نسبة 0.018% من قيمة تصدير محصوله.
أي أن حصيلة عمل 9 ساعات في المتوسط، في ظروف عمل شاقة، تجلب المرض والأمية، تكون حصيلتها للفرد من 20 إلى 30 جنيهاً يومياً. أمّا المكاسب الضخمة فتذهب لأصحاب المصانع والمستثمرين، الذين يحتكر بعضهم المحصول، ليتمكّنوا من فرض السعر الذي يناسبهم، دون أن يكون للفلاحين منفذ آخر، فعلى سبيل المثال يبلغ نصيب مصنع "فخري للزيوت العطرية" بين 60 و70% من زهور الياسمين على مستوى المحافظة، وهو مَن يقوم بعد ذلك باستخلاص العجينة العطرية من الزهور، بالإضافة إلى زيت الياسمين الخام.
ولا يستطيع الفلاحون الخروج من شرنقة الاحتكار هذه، نظراً لطبيعة زهرة الياسمين، التي تذبل بعد ساعتين من جمعها، وتصبح بلا فائدة، على عكس كافة المحاصيل الأخرى التي يزرعها الفلاحون كالأرز والبطاطس، والتي من الممكن أن يتحايل الفلاح على التاجر بتخزينها، لذا فلا مجال أمام أهالي القرية سوى وضع رقبتهم تحت سيف المحتكرين، ناهيك عن أن معظمهم غارقون في الديون لصالح أصحاب المصانع، فيكونون مُجبرين على بيع محصولهم بثمن بخس، خوفاً من السجن.
مستقبل مجهول
إذا كنت من محبي سينما "يوسف شاهين"، فربما تكون قد استدعيت أحداث فيلم "الأرض"، تلك الأيقونة السينمائية، التي مرّ على عرضها الأول 50 عاماً، ومازالت قادرة على التعبير عن أحوال فلاحي مصر، فالمعاناة والمأساة واحدة، وإن اختلفت الظروف الموضوعية.
إن ما ترويه قرية الياسمين هي قصة واحدة ضمن مئات القصص التي تصرخ بها قرى مصر وفلاحوها، والتي ساهمت بشكل أو بآخر في تدهور أوضاع القطاع الزراعي في مصر. فبعد أن يأس الفلاحون من الإصلاح تخلّى البعض عن مهنتهم وعن أرضهم، واتجهوا إلى نشاطات تجارية أخرى، ومَن بقي منهم تضيق عليه دائرة الاحتكار والاستغلال أكثر فأكثر، فيتدهور أداؤه، وتقل إنتاجيته.
إن تراكم هذه القضايا عبر العقود الماضية ترك أثره في المؤشرات الكلية للزراعة في مصر، فأصبح هذا القطاع يستوعب 25% من إجمالي العمالة المصرية، بعد أن كانت هذه النسبة 31% في تسعينيات القرن الماضي، وذلك بسبب انخفاض مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 14.5% في 2010/ 2011 إلى 11.7% في 2016/ 2017، أي أن مساهمة قطاع الزراعة تتراجع كنسبة من إجمالي إنتاج الدولة.
في الماضي القريب، كان الغرب يتباهى –في أعمالهم الفنية- بالملابس المصنوعة من القطن المصري، ولكن لم يصبح الوضع كما كان. وحالياً تساهم الزراعة المصرية في إنتاج معظم عطور العالم، ولكن في ظل وضع زراعة الياسمين في قرى مصر ربما تتراجع هذه المكانة، وتتخلى مصر عن مكانة رفيعة احتلتها يوماً ما بسبب الزراعة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.