"أنا أعلم بأنهم مرضى. أنا على دراية بأنهم سيموتون في النهاية. لكنني أفعل كل ما بوسعي كإنسان، وأترك الباقي لله".
– (محمد بزيك) في حواره مع جريدة (لوس أنجلوس تايمز) الأمريكية عام 2017
من بين أكثر من 35 ألف طفل، تحت رعاية قسم خدمات الطفل والأسرة في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، يتم تحويل 600 طفل ضمن نطاق قسم الخدمات الطبية والمتخصص في الحالات الحرجة التي تحتاج إلى رعاية طبية فائقة، ولكن للأسف تبقى بعض الحالات مصابة بأمراض مستعصية أو مميتة وتصل لمراحل متأخرة جداً تجعل شفاءها أمراً ميؤوساً منه أو ربما مستحيلاً، ولذلك تحتاج هذه الحالات من الأطفال إلى رعاية خاصة لتخفيف الألم في أيامهم الأخيرة أو كما يطلق عليها خدمة (الهوسبيس Hospice) والمشتقة من الكلمتين Hospitality و Service ، أي خدمة وحسن ضيافة.
"إذا اتصل بنا أي شخص وأخبرنا بوجود طفل في حالة ميؤوس من شفائها، ويحتاج إلى رعاية واهتمام في أيامه الأخيرة، لا نفكر إلا في شخص واحد فقط وهو (محمد بزيك)، لأنه الشخص الوحيد الذي سيقبل برعاية طفل على مشارف الموت".
– (ميليسا تسترمان) منسقة استقبال قسم خدمات الطفل والأسرة
محمد جمعة بزيك ابن العاصمة الليبية (طرابلس) سافر إلى الولايات المتحدة عام 1978، وهناك تعرف على (فجر)، والتي كانت أماً بالتبني في بداية الثمانينيات أسوةً بأجدادها، وكانت قد حولت بيتها مأوى للأطفال، والجميل أنها بالرغم من شخصيتها الضعيفة الخائفة من أغلب الأشياء المحيطة بها، إلا أنها لم تخش يوماً رعاية طفل على مشارف الموت.
بعد فترة إعجاب وتعارف تزوج محمد بزيك من فجر، وبدأا سوياً مشروع رعاية الأطفال في عام 1989، لكن نقطة التحول في حياة بزيك كانت طفلة تبناها الزوجان وهي في الأصل ابنة مزارعة، المزارعة الأم استنشقت مبيداً حشرياً ساماً جداً خلال فترة الحمل، مما أدى لميلاد طفلتها بمشكلة في عمودها الفقري اضطرتها منذ ولادتها لارتداء هيكل معدني، ولكن الطفلة مع الأسف ماتت خلال رعايتهما لها ولم تكن قد أكملت عامها الأول.
أثرت هذه الطفلة كثيراً في بزيك بل كسرت قلبه، مما دفعه منذ بداية منتصف التسعينيات للتخصص أكثر في رعاية الأطفال الذين يعانون من أمراض مستعصية أو على مشارف الموت.
استمر الزوجان في تقديم الرعاية للأطفال، لكن في مطلع الألفينات أصيبت الزوجة فجر بمرض تبعته نوبات شديدة، ومع زيادة حدة المرض ازداد توترها وتوترت علاقة الزوجين ككل بالتبعية، وفي النهاية قرر الزوجان الانفصال عام 2013، وتوفيت فجر بعدها بوقت قصير.
كانت وفاة فجر بمثابة ضربة موجعة لبزيك فلقد بدأا مشروعهما سوياً ولطالما كان يراها قدوة له ورفيقة درب، وأنها كانت أقوى منه بمراحل في رعاية الأطفال الذي يعيشون أيامهم الأخيرة قبل الموت.
كان لبزيك ابن وحيد من فجر اسمه آدم، وقد ولد عام 1997 بهشاشة بالغة في العظام بالإضافة للقزامة، وكان عظمه هشاً جداً لدرجة أنه قابل للكسر بسهولة أثناء تغيير حفاضاته أو حتى ملابسه، لكن بزيك رضي بما وُهب وأكمل مشواره مع طفله، حتى كبر الابن وبدأ في الدراسة الجامعية، وبالتحديد تخصص (علوم الحاسب Computer Science)، وكان يذهب إلى جامعته على كرسي متحرك واعتُبر أصغر الطلاب حجماً في الجامعة لكن بزيك كان فخوراً بابنه واعتبره مقاتلاً.
لم تلهه رعاية ابنه عن مشروعه رعاية الأطفال الذين على وشك الموت، فسخر كل وقته ومجهوده طوال رحلة عطائه المتواصلة لأكتر من 20 عاماً لتقديم الرعاية الكاملة للأطفال الأشد مرضاً ضمن برنامج التبني الخاص بمدينة لوس أنجلوس، وخلال رحلته المستمرة وإلى اليوم قدم الرعاية لأكثر من 80 طفلاً، والذين مات منهم 10 بين يديه، لكن لم تمنعه هذه الحوادث الأليمة من تقديم رسالته كأب لتوفير الجو العائلي المناسب لهؤلاء الأطفال، والاعتناء بهم بأفضل شكل ممكن حتى النهاية.
قصة محمد بزيك المذهلة وتفانيه في خدمة الأطفال دفعت شخصيات كتيرة للانضمام لهذه الملحمة الإنسانية ومنهم السيدة مارغريت كوتس التي أطلقت حملة تبرعات في 2017 لإعانة بزيك مادياً في رعاية الحالات هذه نظراً لتكاليفها الجنونية، ونجحت الحملة بالفعل في جمع مالا يقل عن 600 ألف دولار.
بجانب رعايته لابنه آدم، يرعى بزيك حالياً طفلة جميلة عمرها 8 سنوات، مصابة بمرض نادر منذ عمر السنتين، المرض أصابها بمشاكل جسيمة في المخ مع تشوه في الرأس وبالتالي فقدت حاستي السمع والبصر، غير أنها تحتاج لرعاية خاصة جداً لتتمكن من مواصلة حياتها اليومية (طريقة جلوس معينة، طريقة نوم معينة، إلخ).
وكانت الطفلة قد وصلت في عمر السنتين إلى مرحلة ميؤوس من علاجها طبياً حسب طبيبتها المعالجة (د. سوزان روبرتس)، لكنها حققت شيئاً لا يصدقه عقل بأنها ظلت على قيد الحياة إلى وقتنا هذا، وقالت روبرتس إن هذا كان من المستحيل حدوثه لو لم يكن في حياتها بطل مثل بزيك.
"أعلم أنها لا تسمعني. أعلم أنها لا تراني. لكنني أتحدث إليها دوماً. الحل الوحيد هو أن تحبهم وكأنهم أطفالك".
تختصر هذه الكلمات الأسطورة محمد بزيك، البطل الذي صنع له فيلم وثائقي بعنوان (حارس الملائكة Guardian of Angels)، وتم تكريمه من دائرة الشؤون الدينية التركية، وتم اختياره ضمن خمسة أشخاص من صناع الأمل على مستوى العالم خلال (مبادرة صناع الأمل 2020) المقدمة من إمارة (دبي) برعاية حاكمها الشيخ (محمد بن راشد آل مكتوم).
لكني في الحقيقة لا أرى أن هناك تكريماً حتى الآن يوفيه حقه، لأن ما يقوم به هو شيء يجب أن ينحني له العالم كله إجلالاً واحتراماً، فإخلاصه وتفانيه يعتبران بمثابة "أسطورة حية" في عيون الملايين، والذين أطلقوا عليه العديد من الألقاب مثل "المسلم محمد تيريزا" و"ملاك بلا أجنحة" و"ملاك الأرض".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.