عندما وصل الأب شارل دو فوكو إلى قمة جبل الأسكرم بتامنراست، جنوبي الجزائر، كان أول عمل يقوم به هو نصب أجهزة قياس الهواء "باروميتر" والظاهر أن ذلك الجهاز تطور مع مرور الوقت حيث لا يزال مهجع خلوة الأب واحداً من أبرز مراكز الأرصاد الجوية في الجزائر، لا بل في العالم أجمع فهو لا يزال يقيس التقلبات الجوية على مدار أكثر من قرن ونصف من الزمن.
لقد ظل ذلك الرجل العاكف المتعبد لربه يشتغل طيلة 11 سنة متتالية بمعدل 10 ساعات يومياً من أجل إنجاز القاموس الفرنسي الطوراقي، وإليه ينسب الفضل في الحفاظ على ذاكرة الأهقار -سلسلسة جبيلة شهيرة تقع في أقصى الجنوب الشرقي للجزائر- بما جمعه عبر ستة آلاف صفحة من أغانٍ وأشعار موطن الرجال الزرق، وهي المهمة التي لم يقُم بها أي كائن ينتمي لهذه البلاد، لا من قبل و لا من بعد.
رأيت في رأس الصومعة "الأرميتاج" المشيد بالحجر والطين خزاناً، فسألت الأب بونافونتورا المنحدر في الأصل من منطقة كاتالونيا الإسبانية، والقائم بخدمة الدير متحملاً عزلة دامت ثلاثين سنة، فأجاب: "لقد أنشأنا خزاناً موصولاً بجهاز تحلية وتقطير بسيط، يستغل مياه الأمطار المتساقطة خلال السنة لنحصل على 3000 متر مكعب من الماء الشروب نستخدمه في الري البشري والغسيل وطهي الطعام".
في رأس الجبل الواقع على علو 2728 متراً يوجد ماء زلال يأتي من السماء، وما بين الطبقات القريبة من السطح أرض تنام مغمضة العينين فوق بحار من الماء، يعجز البشر عن استخراج المؤونة الحيوية للحياة بعد ستين سنة من الاستقلال.
***
عندما وصل الفرنسيون في حملة الاحتلال لجبال الأطلس الصحراوي ولدى دخولهم مدينة الأغواط سأل الآباء البيض شيوخ القبائل بعد انتهاء المقاومة الشعبية: ما هو أهم شيء لديكم في هذه الأرض الشاسعة؟
رد أحدهم مستغرباً:
– ألا يوجد غير الزاوية التيجانية هنا؟ الأمر غير معقول لا يمكن ألا يكون في هذه المنطقة غير زاوية.
خلال سنوات سيقوم الآباء البيض باكتشاف المنطقة حجرة حجرة وشجرة شجرة بالبحث والتنقيب والتجربة العينية، وقد هالهم الأمر بعد شهور من تلك الخرجات وهم يعثرون في تلك الأرض التي يعتقد أهلها أنها لا تتوفر سوى على زاوية الولي الصوفي الصالح التيجاني في سيدي ماضي، على متحف مفتوح في الهواء الطلق، لقد جمعوا آلاف الصخور البركانية، ثم عثروا في التطواف على حفرة نيزكية في منطقة مادنة، وهي واحدة من الأكبر عبر العالم، لا بل إنهم عثروا على رسمة لونية عمرها 8000 سنة، وتشكل اللوحة الفنية مشهداً مذهلاً لفيلة صغيرة تحمي فيلها الصغير "ولدها" بخرطومها ضد وحش، والعجيب أن الشيوخ والأهالي الذين كانوا لا يرون في أرضهم غير "زاوية" سيدي التيجاني، سيصدم أحفادهم بأن تلك الرسمة ستصبح عام 1986 ذات صيت عالمي حين اختارتها منظمة اليونيسيف شعاراً دولياً لحماية الطفولة عبر العالم.
***
قبل سنوات وحينما شرعت مؤسسة فرنسية في تجديد شبكات مدينة قسنطينة، واجه التقنيون الفرنسيون معضلة حقيقية، إذ لم تكن مختلف الهيئات تتوفر على المخطط الأرضي للمدينة، حتى أن مسؤولاً فرنسياً قال مستغرباً:
– كيف لا تملكون مخططاً للمدينة بعد ستين سنة من الاستقلال؟
أشعرت تلك الاستفهامات عدداً من المسؤولين الذين راحوا يجيبون كما هي العادة "لا مشكلة" و"سنرى" و"سوف نقوم"، بالحرج الكبير، ولأن الأمر تقني محض لا مجال فيه للتسويف والتلفيق والتدليس، فقد سارع المدير الفرنسي إلى باريس جالباً معه المخطط القديم ليشرع في العمل و لعله بل إنه قال مغلقاً الدومينو:
– " من حسن حظكم أننا كنا هنا فيما مضى".
خلاصة القول حينما تعيش في رقعة أرضية ولا تعرف ما تحتويه عبر الاستكشاف والتجربة والبحث و العلوم، لتطوير حياة البشر، فهل أنت فعلاً تنتمي لهذه الأرض؟ ثم هل تتوقع نتائج ذات منفعة عامة ممن كان طوال ستين سنة يرقص على معزوفة الوطنية دون أن يقدم شيئاً؟ ثم هل يستحق هذه الحياة من لا يقدم شيئاً للحياة؟
***
يقسم الكذب أتباعه إلى صنفين:
– من لا يقولون الحقيقة.
– من لا يريدون رؤية الحقيقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.