إذا كانت أي مدينة على الإطلاق احتاجت إلى نقاهة جيدة لتتخلص من سمومها، فقد كانت القاهرة، التي يبدو أن جائحة كورونا تركت بعض الآثار الإيجابية عليها.
تركت قرونٌ من التاريخ المضطرب، توجتها العقود الأخيرة من التطور الحضري الفوضوي المدينة القديمة في حالة بنيانية مزرية. فمظهرها العام شاحب وخال من الحياة. وحركة مرورها تخنق شرايينها النابضة. تعاني المدينة من علامات على إجهاد بالغ، حسب وصف ديكلان والش رئيس مكتب صحيفة The New York Times الأمريكية بالقاهرة.
كان فيروس كورونا هو الدواء. فقد فرضت ثلاثة أشهر من الإغلاق، بما في ذلك حظر تجوال ليلي دام 11 ساعة يومياً، حملة تنظيف عميقة مُجددة للقاهرة. فقد أضحت الطرق التي كانت تختنق يوماً بالسيارات المُزمرة خاوية طليقة. وبدا الهواء، الخالي من الأبخرة، باهراً. وخيم الصمت على الشوارع.
واحة هدوء في قلب القاهرة
في شقتي بالقرب من نهر النيل، أضحت غرفة نوم كانت تُستخدم بالكاد في ما مضى بسبب الضجيج الصباحي، واحة هدوء. في الأمسيات، اجتمعت عائلتي في الشرفة لمتابعة غروب الشمس الذي كان أكثر وضوحاً مما مضى. وتوهج تطبيق متابعة معدل التلوث على هاتفي بلون أخضر غير مألوف.
بالطبع، أتى هذا بتكلفة باهظة. أثناء جولات ركضي في الفجر في شوارع مهجورة، مررت بأشخاص يرتدون أقنعة والقلق بادٍ على وجوههم، كانوا محتشدين حول مدخل مستشفى.
وبعدها انتهى الأمر.
الطائرات الورقية خطر على الأمن القومي
باقترابنا من نهاية يونيو/حزيران، أعلنت الحكومة السماح للمساجد والمطاعم والمقاهي بفتح أبوابها من جديد. في آخر أيام حظر التجوال، تجولت في الشوارع للتمتع بمباهجها الراقية لمرة أخيرة. واتضح أن مئات المصريين راودتهم الفكرة نفسها.
فقد تجمعوا وقت الغسق على جسر، يشاهدون أسراب الطائرات الورقية التي كانت ترفرف في النسيم الحار الذي اكتنف النيل. كان شباب في بناطيل مُجسِمة يشدون حبال الطائرات بقوة. ونساء في حجابهن يطاردن ثنائيات الأحباء في محاولة لبيعهم الورود.
لكن هذا المرح أزعج حتماً حكام مصر، المتحفظين دائماً من تجمعات العامة غير الحاصلة على تصريح. فقد حذر أحد كبار المشرعين من أن السماء المزدحمة بالطائرات الورقية تشكل تهديداً على الأمن القومي لأن أعداء مصر يمكن أن يزودوا الطائرات الورقية بكاميرات مراقبة.
لكن على الجسر، لم يكترث أحد لمثل هذا الحديث، وفضلوا الانغماس في ملذات تلك اللحظة النادرة، بين الهدوء والقلق، عندما أبطأ فيروس الحركة المحمومة المعروفة بها مدينتهم.
تحدثت مع شقيقين كانا يحملان طائرة ورقية عملاقة تغطيها صور فوتوغرافية لهما وهما متأنقان، وصور أخرى لنجم كرة القدم المصري محمد صلاح مبتسماً. بالقرب منهما، كانت سميحة منعم، ذات الاثنين وستين عاماً، تجلس على كرسي متهالك من البلاستيك، يحيطها 15 فرداً من عائلتها إضافة إلى أطباق كشري اُلتُهِم نصفها.
كانت هذه النزهة رحلةً عاجلة لالتقاط الأنفاس واستجداء الراحة بعد أشهر من ملازمة حيهم المزدحم متواضع المستوى. مرتدية عباءتها السوداء، قالت سميحة وهي ممرضة متقاعدة واصلت تلقي علاج سرطان الثدي حتى أثناء فترة العزل: "كان علينا مغادرة المنزل".
اعتبرت سميحة أن فيروس كورونا هو رسالة من الله قائلة: "يريدنا أن ننظر للحياة بطريقة مختلفة".
طوال أغلب تاريخ مصر، كان مصيرها مرهوناً بنهر النيل. كان الجسر الذي تعلوه الطائرات الورقية يؤدي إلى جزيرة الروضة، التي وصفت في كتاب ألف ليلة وليلة بأنها مكان الحدائق الجنان، والآن أضحت امتداداً ضيقاً للأبنية السكنية التي يكسوها الغبار. عند طرفها الجنوبي، على الرغم من ذلك، نجا مقياس للنيل بني في القرن التاسع، وهو جهاز يقيس فيضان النيل الموسمي وبذلك يتنبأ بموسم الحصاد السنوي.
وحالياً، هيمن الفيروس على وتيرة الحياة. مع حلول المساء وبداية حظر التجوال رسمياً، ذهبت إلى وسط القاهرة، ذلك المزيج من القصور القديمة، والرقي المتداعي، والمحال صاخبة الواجهات، التي في الأوقات العادية تكون حركة المرور بها فوضوية لدرجة أن الكتيبات الإرشادية السياحية تقدم للسياح رسمياً نصائح حول طريقة النجاة من حركة المرور هذه.
تنصح نسختي من مجلة "National Geographic Traveler" السياح بطريقة لعبور الطريق قائلة: "ابحث عن محليين (يعبرون الطريق) وانضم إليهم.. هم يعبرون الطريق سوياً، حارة بعد حارة".
تلك الليلة كان من المحال أن تصدمك سيارة. كانت الحيوانات الضالة هي من تهيمن على الشارع، قطط هزيلة تتهادى لأول مرة دون أن تعبأ لأحد في الجادات الخالية، واثنان من كلاب الشوارع الأنوفة يغفوان أعلى سيارة دفع رباعي.
ودار سينما مترو، بواجهتها الأمامية الفنية التي يكسوها الغبار، التي فتحت أبوابها لأول مرة عام 1940 بفيلم "ذهب مع الريح"، أصبحت الآن تكتنفها الأجواء الغريبة لمقاعد السينما المهجورة، إذ لا تزال تُعلن عن الأفلام المصرية التي كانت تعرضها في شهر مارس/آذار الماضي "لص بغداد" و"صندوق الدنيا".
في أواخر القرن التاسع عشر، بنى حاكم مصر آنذاك الخديوي إسماعيل المنطقة على الطراز الهسوماني الراقي لمدينة باريس، لكن لعقودٍ كانت البنايات الخلابة تتداعى تدريجياً في حالة من الإهمال. والآن، في وحشة حظر التجوال، تبدو وكأنها تقف في فخر من جديد، مثلما كان الحال بالنسبة للتماثيل المتراصة على جانبي الطريق.
بدا الأسدان النحاسيان العملاقان اللذان يحرسان كوبري قصر النيل، أروع كباري القاهرة جمالاً، في أجواء من الراحة أكثر مما كانا عليه من قبل في أي وقت مضى مع عدم وجود أعداء في الأفق.
لدى هذا المزيج من العزلة الغريبة والهيبة المتبددة لمسة من السحر، ولبرهة ما فكرت في النسخة المصرية من فيلم "Night at the Museum"، تدب فيها الحياة في الأسدين النحاسين مع حلول المساء.
لكنني لم أكن بمفردي كلياً.
تجمع مراهقون عند مداخل المنازل كما لو كانوا يتآمرون على شيء ما. وتجمع موصلو الطعام حول دراجاتهم البخارية خارج مطعم. فقد انتعشت أعمال المطاعم وتوصيل الطعام من جديد.
قال محمود عبدالفتاح، وهو يستند إلى مقود دراجته البخارية: "إذا استمر الوضع على هذا الحال، سأصبح غنياً مثل نجيب ساويرس"، وساويرس هو ملياردير مشهور كان ناقداً صاخباً لإجراءات الإغلاق.
مع هذا، أشار عبدالفتاح بامتعاض، إلى أنه في ظل حصوله على 28% من تكلفة توصيل الطلبات، يمكن أن يستغرق تجميع تلك الثروة بعض الوقت، وقال ساخراً: "ربما بعد توصيل مليون بيتزا".
لكن مع كل حماسهم هذا، يكتنف التشاؤم أيضاً موصلي الطعام. بالطبع يمكنهم الولوج إلى أي عنوان في دقائق. لكن هل كانت القاهرة بدون الصخب وضجيج الناس، هي القاهرة حقاً؟.
ليست الأوبئة بالأمر الجديد على القاهرة. في زيارة للقاهرة في القرن الرابع عشر، عندما أصبحت المدينة التي يسكنها 500 ألف شخص ثاني أكبر مدن العالم خارج الصين، أشار ابن بطوطة إلى أن تفشي الطاعون الدبلي كان يقتل ما يصل إلى 20 ألف شخص يومياً. وأصاب وباء الكوليرا المدينة مراراً في القرن التاسع عشر.
لكن هذه المرة، تضخمت الخسائر البشرية بفعل تعداد سكان مصر المرتفع، الذي تخطى في فبراير/شباط الماضي حاجز المائة مليون نسمة، وهو حاجز مقلق في بلدٍ مكتظ بشدة.
خارج مركز المدينة، كانت مراقبة تطبيق إجراءات الإغلاق متراخية، فالتباعد الجسماني لا يزيد عن كونه فكرة رائعة في الأحياء الفقيرة المكتظة بالمدينة.
مصريون يتعاملون مع الكمامات بازدراء والسيسي يحثهم على خسارة الوزن
يرتدي العديد من المصريين الكمامات على ذقونهم أو يرفضون ارتداءها كلياً بازدراء، وهو ما أغضب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وهو رجل متحمس يتمتع باللياقة البدنية حث المصريين على البقاء سالمين، والحفاظ على لياقتهم البدنية وخسارة الوزن أثناء فترة الإغلاق. إذ قال في مايو/أيار الماضي: "تذكروا ممارسة الرياضة، فهي ترفع المناعة".
وفي ما عدا هذا، كانت الأمور تسير على المنوال نفسه بالنسب للسيسي أثناء فترة الإغلاق، مع اعتقال النشطاء الحقوقيين، وراقصات شرقيات، وحتى شابات صغيرات السن نشرن مقاطع فيديو وهن يرقصن على مواقع التواصل الاجتماعي. غير أن الفيروس، لا يمكن إبعاده بمثل هذه السهولة.
لدى مصر أكثر من 77 ألف حالة إصابة معروفة بالفيروس، وزاد عدد الإصابات المؤكدة بمعدل 1400 حالة يومياً على مدار الشهر الماضي. سجلت مصر أكثر من 3400 وفاة، وهي حصيلة الوفيات الأكبر ضمن بلدان العالم العربي. وفي نذير شؤم، افتتح السيسي الأسبوع الماضي مستشفى ميدانياً يسع 4 آلاف سرير لعلاج مرضى فيروس كورونا.
وملايين العمال فقدوا مصدر دخلهم
وبدأت الخسائر الاقتصادية في الاتضاح حالياً فقط. إذ فَقَدَ ملايين العمال مصدر دخلهم، وتقلل العائلات من استهلاك اللحوم والأغذية التي أصبحت الآن خارج متناول يدهم. أقرض صندوق النقد الدولي مصر 8 مليارات دولار للخروج من هذه الأزمة. لكن ربما تكون هناك حاجة للمزيد.
في اليوم الذي أعقب إنهاء الإغلاق، سرتُ في الطريق نفسه مرة أخرى. لكن هذه المرة كانت تلك اللمسة الساحرة قد تبددت.
جاب ضباط الشرطة في دوريات الجسر حيث كانت ترفرف الطائرات الورقية عالياً. تعالت قعقعة حركة المرور في وسط المدينة من جديد، حيث فتحت بعض المطاعم أبوابها. لكن بقيت أخرى مغلقة، إذا إن الأمر لا يزال غير مجدٍ للعودة العمل من جديد، مثلما قال لي مدير مطعم كشري أبو طارق أشهر محال الكشري في المدينة، وكانت هناك أحاديث حول أن بعض القيود قد تكون دائمة.
والرئيس يرغب في إلزام المطاعم بالإغلاق مبكراً
ستظل القواعد التي تُلزم المطاعم والمقاهي بالإغلاق في الساعة العاشرة مساءً حتى بعد انتهاء الجائحة، هذا ما قاله متحدث باسم مجلس الوزراء، وهو إعلان يتماشى مع رغبة السيسي في "تمديُن" المصريين، لكنه استُقبل بسخط صامت في مدينة تشتهر بحياتها الليلية الاجتماعية المفعمة بالنشاط.
أعلن الحكام المصريون إجراءات مماثلة لتخليص البلد من سمومها، لكن سرعان ما عاد الوضع إلى ما هو عليه في مواجهة المقاومة الشعبية. أما في الوقت الراهن، فالأمر المؤكد هو أن القاهريين يبقون في منازلهم، عالقين بين الرغبة في العودة لحياتهم الطبيعية وخوفهم مما قد يأتي تالياً، مثلما هو الحال في أي مكان آخر.