مع العودة إلى المساجد، وإلزام المصلين بترك مسافات فيما بينهم، يتساءل البعض: إذا تعذرت صلاة الجماعة كما هو معتاد من رصّ الصفوف، والمحاذاة بين المناكب، فهل يجوز أداء الصلاة على مسافات متباعدة؟ حتى وإن كان بين كل رجل وأخيه متر أو يزيد؟ أم تسقط الجماعة ويصلي الناس في بيوتهم؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات أرى أنه لا بد من التعرف على أمرين مهمين في هذه المسألة:
الأمر الأول: حكم تسوية الصفوف: هناك قولان مشهوران في حكم سدّ الخلل:
القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنه يستحب تسوية الصفوف في صلاة الجماعة بحيث لا يتقدم بعض المصلين على البعض الآخر، ويعتدل القائمون في الصف على سمت واحد مع التراصّ، وهو تلاصق المنكب بالمنكب، والقدم بالقدم، والكعب بالكعب حتى لا يكون في الصف خلل ولا فرجة، ويستحب للإمام أن يأمر بذلك[1]، واعتبر هؤلاء كل ما جاء في الأمر بتسوية الصوف وسد الخلل للندب لا للوجوب، ، ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ[2]"، وما رواه أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا، وَصَلَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى[3]".
القول الثاني: ذهب بعض العلماء -منهم ابن حجر وبعض المحدثين- إلى وجوب تسوية الصفوف[4]، وهؤلاء اعتبروا الأمر في الأحاديث السابقة للوجوب لا للندب.
الأمر الثاني: كم المسافة المسموح بها بين الناس في صلاتهم وصفوفهم:
وقد جاء في (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج): (وإن كان) الواقف (خلف بناء الإمام) (فالصحيح صحة القدوة بشرط ألا يكون بين الصفين) أو الشخصين الواقفين بطرفي البناءين (أكثر من ثلاثة أذرع[5]) تقريباً، لأن هذا المقدار غير مخل بالاتصال العرفي بخلاف ما زاد عليها[6].
أدلة جواز الصلاة مع تباعد المسافات عند الضرورة:
وإذا كان الأمر كذلك فإن الصلاة دون سد الخلل جائزة لما يأتي من الأدلة:
1- قول الجمهور إن سدّ الخلل على الندب لا على الوجوب.
2- قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وحيث إن الناس عجزوا عن سد الفرج فلا حرج عليهم، ولهذا أباحت الشريعة:
- صلاة فاقد الطهورين.
- صلاة من عميت عليه القبلة.
- صلاة فاقدي ما يستر عورتهم.
إلى غير ذلك من الأمور المعروفة في أبواب الفقه.
3- ما رواه مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ[7]". فإذا أمكن الصلاة في المساجد دون مخالفة تذكر، أو احتمال وجود ضرر جازت الصلاة بهذه الكيفية.
4- ما جاء من صحة صلاة المنفرد خلف الصف، فالجمهور على صحة صلاته مع الكراهة وتنتفي الكراهة إن وجد العذر: جاء في (الموسوعة الفقهية): الأصل في صلاة الجماعة أن يكون المأمومون صفوفاً متراصة كما سبق بيانه، ولذلك يكره أن يصلي واحد منفرداً خلف الصفوف دون عذر، وصلاته صحيحة مع الكراهة، وتنتفي الكراهة بوجود العذر. وهذا عند جمهور الفقهاء: الحنفية والمالكية والشافعية[8]، واستدلوا بما رواه البخاري عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ[9]"، وهذا لم يسد الخلل، بل وانفرد خلف الصف في جزء من صلاته، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة. وقال الحنابلة ببطلان الصلاة وعليه الإعادة[10]، واستدلوا بما رواه أحمد عن عَلِيَّ بْنَ شَيْبَانَ أَنَّهُ خَرَجَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:… وَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، فَوَقَفَ حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ، لَا صَلَاةَ لِرَجُلٍ فَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ فَرْداً[11]".
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، من صحة الصلاة مع الكراهة، فإن وُجد عذر زالت الكراهة، ويكون الأمر بالإعادة الوارد في حديث (علي بن شيبان) من باب الندب لا الوجوب، وعليه فإنه والحال هكذا فلا بأس من الصلاة دون سدّ الخلل، قال ابن تيمية: وإذا كان القيام والقراءة وإتمام الركوع والسجود والطهارة بالماء وغير ذلك يسقط بالعجز. فكذلك الاصطفاف وترك التقدم[12].
5- قواعد الشرع تقصي ذلك، ومن هذه القواعد:
- الميسور لا يسقط بالمعسور.
- المشقة تجلب التيسير.
- الأمر إذا ضاق اتسع.
- إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل.
- لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة.
- حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود.
- حفظ البعض أولى من تضييع الكل.
- يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء.
- لا واجب مع العجز ولا حرام مع الضرورة.
وعليه فلا مانع من الصلاة بهذه الكيفية إذا دعت الضرورة إلى ذلك كما هو الحال في وقتنا هذا.
المراجع:
[1] الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 35).
[2] رواه البخاري في الأذان (722) ومسلم في الصلاة (414).
[3] رواه أحمد (57249) وقال محققو المسند: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير كثير بن مرة.
[4] الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 36).
[5] (ما يساوي 1.372سم)
[6] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (2/ 201).
[7] رواه مسلم في الفضائل (1337).
[8] الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 183).
[9] رواه البخاري في الأذان (783).
[10] الموسوعة الفقهية الكويتية (27/ 183).
[11] رواه أحمد (16297) وقال محققو المسند: إسناده صحيح، رجاله ثقات.
[12] مجموع الفتاوى (23/ 397).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.