العزل الصحي في تجربتي الثانية معه.. الأولى كانت في انقلاب إثيوبيا منذ 10 شهور

عدد القراءات
1,547
عربي بوست
تم النشر: 2020/03/23 الساعة 12:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/03/23 الساعة 13:04 بتوقيت غرينتش

الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، تتقلب بين فرح وحزن وأيام جميلة وأخرى بائسة كئيبة.

كما هو معلوم، الشغل الشاغل لمعظم الناس في هذه الأيام هو انتشار فيروس كورونا الذي بسببه دخل العالم حالة من الشلل والارتباك، في واحدة من الحالات النادرة التي لا تتكرر بسهولة.

الإجراءات التي اتخذتها وتتخذها الحكومات رغم قسوتها وتضرر الأغلبية منها، كانت ضرورية للغاية، وتأتي من واقع الحفاظ على صحة الناس واستقرار البلاد، لذا يفترض أن يتعاون الجميع من أجل إنجاح خطة محاصرة الوباء والقضاء عليه بأقل الخسائر الممكنة وفي أسرع وقت.

أتذكر أنني مررت بوضعٍ أقرب إلى ما نعيشه اليوم، ففي العام الماضي وعندما كنت أتجهز للسفر إلى مدينة بحر دار الإثيوبية من العاصمة أديس أبابا، عشية الأحد 23 يونيو/حزيران الماضي، تناقلت وسائل الإعلام خبراً تحت عنوان "انقلاب في بحر دار"، فأصبحت المدينة الساحرة الوادعة حديث الإعلام العالمي في دقائق معدودة، رغم أن عاصمة إقليم الأمهرة بعيدة عن العاصمة الفيدرالية أديس أبابا، بالطريق البري يحتاج المسافر إلى 10 ساعات للوصول إليها، وبالطائرة نحو ساعة.

تعود القصّة إلى أن مجموعة مسلحة مجهولة اقتحمت مقر حاكم إقليم الأمهرة الرجل المحبوب "أمباتشو مكونن"، أثناء اجتماع كان يعقده مع عدد من مساعديه، وأطلقت النار عليه وعلى مرافقيه في حادثة هزّت المدينة التي عُرفت بالأمن والسلام طيلة العقود الماضية.

تصادف وقوع المحاولة الانقلابية التي رحل فيها حاكم الإقليم، مع رحلتي المجدولة مسبقاً للمدينة. لكنني لم أتردد مطلقاً في الذهاب إليها تدفعني الرغبة الصحفية الجامحة في خوض التجربة رغم المخاطر التي قد تحدث وتحذيرات الأهل والأصدقاء.. بالفعل وصلت في اليوم الثاني مباشرة من الانقلاب الفاشل عن طريق طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية التي هبطت بنا في تمام الواحدة ظهراً بعد أن تأخرت لساعتين بفعل ارتباك جدول الرحلات.

استقللت سيارة الأجرة متجهاً إلى فندق النيل الأزرق وهو من الفنادق العريقة المعروفة في بحر دار، ويتميز بأسعاره الهادئة وبقربه من المنطقة التجارية وشواطئ بحيرة تانا.

المطار يقع خارج عاصمة الإقليم، وعند اقترابنا من مركز المدينة واجهتنا مشكلة إغلاق الطرق الرئيسية، فقد أقامت السلطات حواجز أمنية. ولذلك كان علينا استخدام الطرق الجانبية بمحاذاة بحيرة تانا، فاستغرق وصولنا للفندق نحو ساعة من الزمان.

كان الحزن يلف المدينة من أقصاها إلى أقصاها، صمتٌ مخيفٌ غير مألوف لمن يعرف بحر دار.. مدينة الصخب والبهجة، شبكة الإنترنت مقطوعة تماماً لأسباب أمنية.. لا واي فاي ولا بيانات الجوال، الشوارع خالية، لا تسمع إلا أبواق السيارات القليلة بشكل متقطع بين الفينة والأخرى، المنطقة التجارية الواقعة في قلب المدينة تكاد تكون مغلقة، والقلة من المتاجر التي فتحت أبوابها لا ترى فيها إلا نزراً يسيراً من حركة البيع والشراء، أما الموسيقى التي تشتهر بها مدينة الحب والسلام، فقد كانت غائبة تماماً. وكذلك كانت المنتجعات والمراكز الشبابية والأندية الليلية مغلقة الأبواب، فأكثر من 97% من سكان بحر دار هم من قومية الأمهرة جَمَع بينهم الحزن الشديد والقلق على مصير عاصمتهم الجميلة الساحرة والإقليم ككل.

لا أُخفي عليكم، في بادئ الأمر شعرت ببعض الندم من مجيئي إلى بحر دار، وتمنيتُ لو أنني سمعت نصيحة أصدقائي الذين رأوا أن أبقى في العاصمة أديس أبابا لبعض الوقت حتى تنجلي الأمور، خاصة أن السلطات قامت بقطع شبكة الإنترنت عن كل سكان الإقليم، لكنني سرعان ما تأقلمتُ مع الوضع الجديد الذي يُشبه أيام فيروس كورونا حاليّاً إلا أن الفرق يكمن في 3 اختلافات أساسية:

أولها: اختلاف الشعور، ففي هذه الأيام يعيش كل العالم حالة من الذعر والخوف من تبعات انتشار فيروس كورونا، أما في الأيام التي أمضيتها في بحر دار وقت المحاولة الانقلابية الفاشلة، فكان الشعور الغالب هو الحزن والألم من عملية الغدر التي تعرّض إليها حاكم الإقليم الرجل المحبوب أمباتشو مكونين.

والثاني: أن السلطات الأمنية في بحر دار لم تُجبر المواطنين على إغلاق الأسواق والمحال التجارية وأماكن الترفيه رغم إعلان الحداد الرسمي، فردّة الفعل على اغتيال الحاكم المغدور ورفاقه كانت شعبية وعاطفية خالصة. أما أزمة فيروس كورونا فاضطرت معها الحكومات إلى اتخاذ القرارات القاسية من وقف الطيران وإغلاق الحدود وإغلاق المدارس والمحال التجارية وغيرها.

أما الثالث فهو المدة الزمنية.. عندما أتيتُ إلى المدينة الإثيوبية ووجدتها شبه مغلقة كنت على يقين أن الأمر لن يستمر أكثر من أيام، بسبب محدودية الحادثة رغم فجاعتها. بخلاف أزمة فيروس كورونا التي لا يعرف أحد متى ستنتهي، إذ إن كل المؤشرات تبين أنها ستأخذ وقتاً طويلاً.

لكنّ الثابت في كل الأحوال أن الملامح العامة لما يحدث في مدن العالم المختلفة حالياً، هي الملامح التي شهدتها آنذاك في بحر دار.. الشوارع خالية إلا من قلّة من المارة.. المنطقة التجارية والشواطئ والمنتجعات كذلك. المرافق السياحية وأماكن الترفيه مغلقة تماماً.

كما قلت لكم، في بداية الأمر أزعجني إغلاق المدينة الساحرة والحزن الذي يلفها، لكن سرعان ما تعاملت مع الأمر الواقع من ساعات المساء مباشرة، فجلستُ في التراس الملحق بغرفتي الواسعة وأخذتُ أقرأ النص الثاني من رواية "النهاية" للكاتب المصري ممدوح نصر الله.. الرواية التي تم تصنيفها كواحدة من أكثر الروايات شهرة عام 2018.

بعد أن أكملت قراءة "النهاية" كان المطر بدأ يتساقط في الخارج، وسط دوي الرعد.. عندها تنفّست الصعداء.. هذه هي بحر دار التي أعرفها.. مدينة السهل والماء والجبل التي تتميز بأمطارها المسائية.. من الشرفة أخذت أتامل الشوارع وحركة المارة الذين كانوا مستعدين للأمطار بمظلاتهم إذ لم يكلفهم الأمر سوى فضّها ورفعها فوق الرؤوس.

في الصباح واجهتني معضلة عدم القدرة على الاتصال بشبكة الإنترنت، فلم أجد طريقة للتغلب على ذلك إلا باتصال هاتفي مع أحد الأصدقاء الأعزاء وهو موجود خارج إثيوبيا، اضطررت لمنحه كلمة السر الخاصة ببريدي الإلكتروني حتى يستطيع الولوج إلى الإيميل وإخباري إن كانت هناك رسائل مهمة تستدعي الرد.

كذلك، واجهتُ مشكلة قضاء ساعات النهار مع الإقفال شبه التام للمنطقة التجارية والشواطئ والمنتجعات، لكنني تغلبتُ عليها بالمشي بعد الإفطار بمحاذاة شاطئ البحيرة. مشيت لنحو 6 كلم، ووجدت بعدها عند مرسى القوارب سيدة تمتلك كشكاً تجارياً صغيراً وبجانبه مستلزمات القهوة الإثيوبية.. النسمات الباردة القادمة من بحيرة تانا أغرتني لتناول القهوة عند السيدة الخمسينية.. لم أستطع المقاومة فجلستُ وطلبتُ فنجاناً من القهوة الرائعة.

في طريق العودة إلى مقر إقامتي قمت بتغيير الطريق لاختصاره، فاستوقفتني دورية للشرطة المحلية سألوني عن وجهتني ولما أدركوا أنني زائر أجنبي اعتذروا لي بشدة عن الإزعاج، وقال لي أحدهم بالإنجليزية إن التطورات الأخيرة فرضت عليهم اتخاذ بعض الإجراءات الأمنية حرصاً على سلامة الجميع.

على المنوال ذاته أي القراءة والمشي والتأمل، أخذتُ أقضي بقية الأيام التي تلت وصولي إلى بحر دار، إلى ما بعد تشييع جثامين حاكم الإقليم ورفاقه بيومين تقريباً، ففي اليوم الثالث بعد مراسم التشييع بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها بشكل تدريجي في عاصمة إقليم الأمهرة، فانتهت أيام عصيبة ظاهرياً، لكنني وجدّتها فرصة رائعة للقراءة والتأمل ومشاهدة الأفلام والاستمتاع بالمشي بمحاذاة بحيرة تانا.

مهما صعُب علينا الحِجر أو العزل الصحي هذه الأيام، فإنه ينبغي ألا نعتبر أنفسنا في سجنٍ أو في عقوبة مقيدة للحرية، لماذا ــ على سبيل المثال ــ لا نجرّب شيئاً جديداً؟ أن نكون على مقربة من عائلاتنا وأهلنا وأطفالنا.

لماذا لا نجرّب أن نخصص وقتاً لا يقل عن ساعتين أو ثلاث ساعات يومياً للقراءة بأنواعها المختلفة.. روايات.. فلسفة.. تاريخ وأدب بدلاً من الإمساك بالهواتف المتنقلة؟

لماذا لا نعيد اكتشاف أنفسنا وذاتنا من جديد بالتأمل والتفكر في مسيرة حياتنا؟ لنقف على الإيجابيات ونعززها.. ونقف أيضاً على الإخفاقات لنصوبها؟

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد جامع
صحفي متخصص بالشأن الأفريقي
محمد مصطفى جامع، كاتب وصحفي سوداني، حاصل على بكالوريوس الإعلام من جامعة وادي النيل، أعمل حالياً على ماجستير في الإذاعات الرقمية، أجد نفسي في الكتابة عن دول شرق إفريقيا، ونُشرت لي عنها أكثر من 300 مقالة وتقرير في عدة صحف عربية، أعشق القهوة وأحب الحوار الهادئ المتعمق.
تحميل المزيد