في 3 ساعات فقط.. كيف أغرقت الأمطار سكان قرية مصرية بأكملها ثم أشعلت فيها النيران؟!

عدد القراءات
6,947
عربي بوست
تم النشر: 2020/03/19 الساعة 11:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/03/19 الساعة 11:47 بتوقيت غرينتش

الطقس السيئ الذي تعرَّضت له مصر منذ أيام لم يحدث منذ عام 1994م، وفي تعقيب وزير الإعلام المصري أسامة هيكل على بيان هيئة الأرصاد قال: "94! دي اللي كان فيها حادثة درنكة؟" تلك الحادثة التي قتلت آﻻف الضحايا ما بين الغرق والحرق والدفن حياً تحت الأنقاض، كانت أعنف الكوارث الطبيعية التي ضربت مصر، مأساة بشعة جداً، حتى الآن ليس لها تعداد رسمي للمتوفين والمفقودين فيها.

منذ 26 سنة، بالتحديد في الساعة الثالثة فجر يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1994م، تقابل انخفاضان جويان متناقضان، فأديا لتقلبات جوية غريبة، وكانت النتيجة تعرض محافظة أسيوط لسيول قوية استمرت حوالي 3 ساعات من دون توقف، سلسلة متتابعة من الأمطار الفيضانية لم تحدث من قبل في المنطقة، بلغ اندفاعها المتهور حداً غير مسبوق بالمرة، فكوَّنت سيلاً طوفانياً غشيماً انحدر من فوق الجبل الغربي في أسيوط، جرف الرمل من شدة تدفق تيار الماء بغزارة ﻷسفل.

الجبل الغربي يقع في خضمه مجموعة قرى بسيطة، وأكبرها كانت قرية درنكة الموجودة تحت الجبل مباشرة في مجرى السيل الرئيسي، فكانت الفريسة الأولى للطوفان الغاضب النازل من الجبل هاجمتها أمواج المياه السريعة بحمولتها من الرمل والتراب، مئات الآﻻف من الدوامات المائية المجنونة، مزيج من الماء والطين والوسخ والرمل ضربت البيوت الهشة الضعيفة المعتمدة على الطوب اللبن والطين في بنائها، بناء بدائي التكوين، قدرته على الصمود معدومة فلم يتحمل، انهارت البيوت وسقطت عرائشها الخشبية وتهدمت الجدران، وجرفتها المياه المندفعة في اتجاهها.

السيول العنيفة أغرقت القرية المكلومة بالكامل خلال دقائق، وتسبب الاندفاع العنيف للمياه في انهيار الطريق السريع، انفلقت طبقات الأسفلت القديمة وانقلبت، فرمت الحواري والأزقة الداخلية بعدما تساوت البيوت بالأرض حرفياً، في لحظة شطبت من على وجه البسيطة كأنها لم تكن من قبل، وما تبقى غدا عبارة عن أطلال مفتتة مثل لقمة الخبز الممضوغة، والمصيبة الكبرى كانت في انجراف ذلك الطوفان في اتجاه مخازن تكرير البترول فانفجرت، فأصبحت النيران سارحة فوق سطح الموج بشكل مرعب.

3 ساعات حولت القرية لمقبرة جماعية، والنتيجة "لم ينجُ أحد"، ساعات قاسية وملتهبة كانت كافية لكي تخفي القرية من الوجود.

الطقس المخبول انتقل بسرعة وضرب باقي محافظات مصر، فتعرضت محافظة أسوان لنفس السيناريو الكابوسي هذا، البنايات تصدعت والأرصفة تكسرت، والطرق الرئيسية في المحافظة تحطمت، انخلعت الأشجار وأعمدة الكهرباء وانقسمت، غرقت كفور ونجوع وقرى محافظة سوهاج، أخذت محافظات أخرى نصيبها من المصيبة هذه. الفيوم، والسويس، والغربية، وجنوب سيناء، وكفرالشيخ والمنوفية تعرَّضت لأمطار قوية وثقيلة لا حصر لها، ومن بعد فجر نفس اليوم ارتفع منسوب المياه في الشوارع، فتعطلت حركة السير في كافة اﻻتجاهات، وأصبحت المحافظات كلها عبارة عن برك مياه راكدة أو متحركة، تملأها قذارة الشوارع.

وأما في قرية درنكة فكأن يوم القيامة قد حطّ على أصحابها، استيقظ أهل البلدة على أصوات السيول وهي تضرب حيطانهم وتجرها، خبط عنيف لم يمر عليهم قبل ذلك، الأسر لملمت بعضها وخرجوا بملابس النوم يهرولون في الحواري والأزقة، يتخبطون في بعضهم البعض ويتعثرون، محاولة بائسة جداً للهروب من بشاعة المنظر، خائفين من انهيار البيوت البسيطة عليهم، لكن ﻷين الهروب إذا كان القدر هو الذي يطاردنا؟! خاصة أنه في نفس الليلة المشؤومة تلك كان هناك فرح كبير ضم أغلبية أهل القرية والقرى المحيطة، فوقعت "معجنة بشرية".

قبل الساعة 6 صباحاً تقريباً وصلت الأمطار لمدينة القاهرة، تعرضت كل المناطق ﻻنقلابات خطيرة في الجو، وبدأ الرعد يرعد، والبرق يبرق في سماء ملبدة كئيبة، كأنها لوحة دخان باهت تتحرك بالبطيء، ثم بدأت مجموعة قاسية من السيول الكثيرة، ضربت العاصمة بكل عنفوان وأغرقتها، استمر هجومها لحوالي ساعتين متتاليتين، فعجزت منظومة الصرف الصحي عن استيعابها، فتعطلت المركبات طافية في شوارع تملأها المياه، ووقفت الحياة كلها كمن دخل في خرم إبرة عنوة، وفي المناطق الشعبية والعشوائية كان الوضع ﻻ يمكن استيعابه، أخذتها المفاجأة بغير حساب، فسقطت مقاومة العقارات العتيقة وانهارت، لم تحتمل أساساتها ضغط الأمطار فخسفت بها الأرض، ثم اجتاحت فيضانات المياه لمحطات المترو، وصل منسوبها ﻻرتفاع مهول تجاوز المتر، فسبحت قطارات الأنفاق في الماء والوحل، كل هذه عوامل أدت لإغلاق محطات المترو وتوقفها، ووضعت حياة الخلائق في سجن بر مائي.

الأمطار تواصلت طوال الثلاث ساعات، سيول عنيفة وغزيرة لا تعرف طعم الرحمة، والحقيقة أن الفلاحين "الغلابة" من أهل قرية درنكة اعتادوا اﻷمطار الموسمية، لكن الكمية هي التي اختلفت تلك المرة بشكل أعنف من احتمال استعداداتهم البدائية، والمصيبة الكبرى كانت أن هذه المرة أخطر مما يعرفون، ﻷن المياه نازلة من مجرى السيل في الجبل، محمّلة بأطنان من المواد البترولية، بحر هائج من البنزين والديزل المتسرب من المستودع الضخم التابع للجمعية التعاونية للبترول، مخزن للوقود كان مجهول الهوية إﻻ للمختصين، ومكانه عند طرف الجبل في مجرى السيل! وهذا يطرح آﻻف علامات التعجب التي لا تزول مع الزمن.

المستودع اﻻستراتيجي كان يضم وقتها 9 خزانات وقود، أقدم خزان كان منصوباً فوق قاعدة خرسانية مسلحة صلبة، فصمد أمام هجوم السيل المتدفق من فوق الجبل، لكن أحدث خزان لم يكن له قاعدة، وتم تركيبه على وجه الأرض فتمكنت المياه منه، نخرت أركانه الهشة فمال على جانبه وانكسر فنطاسه، تسربت منه أطنان من الوقود الخام واختلطت بالمياه المتدفقة، زحف الخليط القاتل مع الطوفان، فوسع أضرار الهجمة العنترية على القرية كلها، ومع اﻻنهيارات والكسر والتحطيم وشرارات متعددة من الماس الكهربي وخلافه، شم الوقود النافر رائحة اﻻشتعال، فتحولت المنطقة لكتلة ضخمة من الجحيم المركز.

تسببت الأمطار السخية في عزل العاصمة، بعدما تحطمت طرق كاملة كانت تربطها مع باقي المحافظات، وفقدت الأقاليم كل اتصالاتها مع الحكومة، طرق الإسكندرية والفيوم والسويس وبورسعيد والصعيد تقطعت، وانقطعت الصلة بين جميع محافظات الوجه القبلي في مصر، وحصلت انهيارات بالطريق الزراعي بين القاهرة والشرقية، الحركة الديناميكية للمديريات أصابها الشلل، وقعت أضرار متكاملة لشبكات المياه والصرف والكهرباء، التي فشلت في مواجهة الأزمة بسبب هشاشة البنية التحتية، انخلعت بعض قضبان السكك الحديد وانقلبت قطارات وخرجت عن مساراتها، غير الأعطال الكثيرة التي عانت منها الشركة الوطنية لتشغيل المترو، وهناك فيديوهات عن تلك الكارثة، ومتاح بعضها على اليوتيوب.

الساعة اقتربت من السابعة صباحاً، يوم الأربعاء 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1994م، عندما وقع اﻻنفجار، وسمعه وأحس به أغلب سكان الوجه القبلي، وفجأة اندلعت النار فغطت قرية درنكة بالكامل، في ثوانٍ تحولت مئات البيوت التي خُسفت بها الأرض لكتلة جهنمية من اللهب، وصلت ألسنتها لحدود السماء، مئات الأمتار من النار والدخان الأسود رآها كل أهالي الصعيد، في مشهد مرعب قريب من أفلام نهاية العالم، ولكن هاهنا الواقع أكثر رعباً من الخيال، بحر عظيم من الطمي والمياه السوداء والبنية، طوفان غامق متلاطم الأمواج يبعثر بقايا جدران منحولة ومتآكلة، خراب كامل الدسم، جثث طافية هنا وهناك مثل الأسماك المسمومة، كل هذا بجانب النار المتأججة السارحة فوق السطح، سيارات منقلبة ومتفسخة، وعربات لقطارات مقسومة، وتخرج منها أعمدة دخان أسود قاتم، شجر ساجد، وجرارات حرث نائمة على ظهورها، وبهائم نافقة، واختلطت الجثث البشرية والحيوانية المتفحمة، مع موسيقى تصويرية متوجسة من الريح التي تصفر بدمدمة موحشة، كما تصفر بين شواهد القبور أو أشد وحشة.

حقيقة كتالوج الموت كان متنوعاً جداً، لم يفرق بين الضحايا، أطفال ونساء وشباب وشيوخ، وسواء في بيوتهم أو في الشوارع لم ينجُ أحد من مئات المنازل المنكوبة، الواقعة في منطقة منخفضة على أطراف القرية، المئات من الضيوف قضوا الليلة في الفرح ولم يخرجوا أحياء، أكلت النار العروسين والمعازيم، إبادة جماعية كاملة تعرضت لها العائلات، لم يبقَ أحد منهم على قيد الحياة، فيشهد ولو بمعلومة واحدة حول من مات أو من نجا، فقد كان جحيم النار كفيلاً بتفحم مئات الجثث، وبعد أيام اكتشفوا أن الرمال التي حملتها السيول دفنت كل ما تبقى من أطلال البيوت المحروقة والغارقة، بكل ما ومن فيها، تحت طبقة صلبة وسميكة تزيد على مترين، يعني من أفلت من الغرق ونجا من النار رُدم عليه حياً تحت الرمل والطمي.

استمرت موجة الأمطار ما بين متوسطة وغزيرة لمدة 3 أيام متتالية، وتعرضت محافظات الدقهلية والقليوبية وسوهاج وقنا لأمطار عنيفة في الأيام التالية، وخرجت تقارير حكومية تفيد بأن هناك أكثر من 600 مواطن ماتوا في أسيوط وحدها، ولكن التقارير الخارجية التابعة لمنظمات حقوقية وطبية مستقلة قالت  غير ذلك، خاصة مع محو قرية درنكة من سجل الأحياء، يعني الرقم الحقيقي أضعاف أضعاف هذا الرقم، وهذا بالإضافة إلى أن الأمطار تسببت في انهيار آلاف المنازل في أسيوط، وغرق أكثر من 70 نجعاً وكفراً في سوهاج، أي أن هذه الكارثة الطبيعية خلفت ضحايا بالآﻻف حرفياً.

بعد حوالي أسبوع من الكارثة استطاعوا بشق الأنفس انتشال حوالي 600 أو 700 من رفات الجثث المتفحمة أو بقاياها، شحنوها وكدسوها في عنابر بدروم المستشفى العام في أسيوط، لأن ثلاجات حفظ الموتى لم تكفِهم، فأطلقت منظمة الصحة العالمية تحذيرات صحية من مخاطر تفشي الكوليرا نتيجة بقاء الجثث في العراء، فكان الحل السريع هو اللجوء لمقبرة جماعية للضحايا، وقد وقّع الأهالي على إقرارات بالتعرف على الجثث، كي يستطيعوا استخراج شهادات الوفاة وتسهيل إجراءات التعويض.

في صباح يوم الجمعة الثانية حضر مبارك بطائرته وقام بجولة هوائية فوق قرية درنكة، رأى الوضع المأساوي الذي خلّفته الكارثة العنيفة، لكن الطائرة لم تستطع أن تهبط لظروف فنية كما صرح رئيس الجمهورية، ولكن بعد أشهر رجع مبارك مرة ثانية لقرية درنكة، حتى يقوم بتوزيع البيوت المجانية التي أمر بإقامتها في منطقة قريبة، أطلق عليها "درنكة الجديدة"، تسلمها الأهالي القلائل الذين تبقوا من شعب درنكة الأصلي.

تلك الكارثة انتهت وتركت البلاد شبه دولة تقريباً، وبناء عليها قامت الحكومة على مدار سنين بإعادة تأسيس البنية التحتية التي دُمرت، أي أن الدولة أنشأت دولة جديدة بمعنى أدق، خاصة أن هذه المصيبة التي حصلت كانت بعد أقل من سنتين من كارثة زلزال 92 الشهير، فتراكمت المآسي بشكل مبالغ فيه، واستمرت الحكومات المتعاقبة وإعلامها التكتم على الحقيقة، بما فيها من بشاعة، ولم يتفوه أي شخص بكلمة عن هذه المصيبة في أي مناسبة طول الـ26 عاماً اﻵنفة، وبالصدفة البحتة جاءت عبارة عابرة على لسان وزير الإعلام "أسامة هيكل"، حتى يصحو الماضي الأليم بكل أوجاعه.

أحمد الكراني هو حاصل على بكالوريوس تجارة عام 2009، ودبلوم إدارة الأعمال، صدرت له رواية "الإمام الهارب" عن دار "اكتب" عام 2018، وكانت في قائمة الأكثر مبيعاً في معرض الكتاب 2019، صدرت له رواية "فارس" عن دار "تشكيل" في معرض الكتاب 2020، وصلت روايته "أبناء الزيتون" -اسم مؤقت- لقائمة مسابقة الطيب صالح للإبداع الكتابي في دورتها العاشرة..

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد الكراني
كاتب وروائي وقاص
حاصل على بكالوريوس تجارة عام 2009، ودبلوم إدارة الأعمال، صدرت له رواية "الإمام الهارب" عن دار "اكتب" عام 2018، وكانت في قائمة الأكثر مبيعاً في معرض الكتاب 2019، صدرت له رواية "فارس" عن دار "تشكيل" في معرض الكتاب 2020، وصلت روايته "أبناء الزيتون" -اسم مؤقت- لقائمة مسابقة الطيب صالح للإبداع الكتابي في دورتها العاشرة..
تحميل المزيد