السفر ليس الانتقال من مكان إلى مكان بقدر انتقال من حالة إلى أخرى، إذا سافرت وعدتَ كما كنت دون أن تكتشف شيئاً في ذاتك أو تعلمت شيئاً جديداً أضاف لخبرتك في الحياة ففي الحقيقة أنت لم تسافر، دائماً أبحث عن الأماكن المختلفة عن البيئة التي تربيت بها، ومصر غنية بالتنوع الثقافي، فعلى الرغم من سفري إلى سيوة وكاترين والفيوم والكثير من المدن المصرية كانت النوبة حلم الطفولة الذي تأخر كثيراً، أهل النوبة بالنسبة لي هم أهل الطيبة والأصالة والمعدن الغالي.
وبتخطيط بسيط وبدون شركة سياحة سافرت إلى أسوان وقضيت أربعة أيام في غرب سهيل بالنوبة، على بعد خطوات من محطة السكة الحديد أوقفت رجلاً وسألته عن مواصلات غرب سهيل، أخبرني "امشي قليلاً وستجدينها على البحر"، راجعت الخريطة في عقلي لم أجد أي بحر في أسوان، فسألت فتاتين كانتا تسيران أمامي، فأجابتا بنفس الإجابة.. على البحر، سألتهما هل تقصدان النيل؟!، ضحكتا وأخبراني أنهم اعتادوا أن يقولوا عليه "بحر"!
قضيت أول يوم في القرية لاحظت أن البيوت الملونة والزاهية والمرسوم على جدرانها هي إما بيوت استضافة أو بيوت التماسيح لجذب الزوار، أما باقي البيوت فهي عادية تشبه أي بيت في أي قرية، ألوان باهتة من ضوء الشمس، السيدات في القرية يجلسن أمام منازلهن، والأطفال يلعبون في الشارع، الأطفال دائماً روحهم حلوة، لكن في النوبة أحلى.
الأكل جزء من ثقافة المكان؛ لذلك أي مكان أقوم بزيارته أجرب أكله، طلبت وجبة غداء في أحد بيوت الاستضافة، بلغتني السيدة فيه أنه كان يجب عليَّ أن أبلغها قبلها بيوم، فذهبت إلى مطعم كاتو ددول على النيل مباشرة تفاجأت أن أغلب الأكل في قائمة الطعام إما بيتزا أو بانيه أو كفتة، أكل عادي جداً، بحثت عن أكلة نوبية وكانت وجبة الكينج "طاجن خشيد باللحمة"، الحقيقة الطاجن طعمه ممتاز، لحمة بالبصل والجزر وأنواع خضار لم أتعرف عليها كلها، وعندما سألت عن مكوناته أخبرني "دي خلطة سرية!"، والسلطة كان عليها صوص طعمه لذيذ جداً، والملوخية طعمها قريب جداً من الطريقة التي تطهى بها في القاهرة لكن خشنة، أما الأرز فهو أقل من العادي، وأيضاً لا تنسَ أن تتعرف على التوابل في أسوان كثيرة جداً ومتنوعة.
في اليوم التالي استيقظت تقريباً في السادسة صباحاً، وفي السابعة كنت خارج الفندق، كانت المحلات في السوق مازالت مغلقة، وحركة الناس قليلة جداً، إلى أن قابلت شاباً سألته عن مكان مواصلات المدينة، رحب بي وأوضح لي الطريق، شكرته، وقبل أن أمشي قال لي: "إكا دولي"، توقعتها ترحيباً أيضاً فقلت له: "تسلم الله يخليك"، ضحك على ردي وأخبرني "إكا دولي معناها بحبك بالنوبي"! في نفس اليوم كنت راكبة التوك توك أو الجعران، كما يطلق عليه هناك، والسائق حاول أن يعلمني بعض الكلمات النوبية، وكانت أول كلمة "إكا دولي"، ونفس الموقف تكرر مع المراكبي وأنا في طريقي إلى مقابر النبلاء وجزيرة النباتات، على قدر ما المكان هناك أمان جداً، إلا أنه "ما يمنعش إنك ممكن تتعرض لبعض المضايقات".
عند معبد فيلة تعرفت على اثنين من السياح من الأرجنتين؛ شاب وصديقته، واتفقنا نأخذ مركباً سوياً، ليس هذا فحسب بل قاموا بالفصال مع المراكبي وخفضوا السعر أيضاً، وبعد خمس دقائق من تعارفنا سألتني صديقته "AILEN": "كيف تسافرين وحدك؟ أعلم أن العادات والتقاليد المصرية تمنع الفتيات من السفر وحدها"، أوضحت لها أن الموضوع ليس مرفوضاً تماماً، لكن يحتاج لبعض الوقت لإقناع الأهل في أول وثاني مرة، وبعد ذلك يصبح الأمر سهلاً، وقبل أن أنتهي من الكلام معها نظر لي المراكبي وسألني: "إنتي إزاي مسافرة لوحدك؟"، لكن لا أنكر أن لهجته كانت بها خوف وكأني ابنته، الحقيقة هذا أكثر سؤال وجّه إليَّ هناك، طبيعي أن أمر بوقت أخاف فيه وأتردد، لكن سريعاً أدرك أن العمر فرصة واحدة من الغباء أن نضيعه في الخوف والتردد.
نعتقد أنه عندما نسافر نكتشف المكان الذي نسافر إليه، لكن الحقيقة أننا نكتشف أنفسنا أولاً، قضيت حوالي ساعتين مع أيلن وصديقها، وقبل أن نفترق بنصف ساعة أخبرتني أنهم لا يؤمنون بأي دين، ظللت أتحدث معها بنفس الابتسامة ولم يتغير شعوري الداخلي تجاهها، اكتشفت أنني أملك بداخلي مساحة كبيرة لتقبل الآخر بكل اختلافاته.
"البحاروة قلوبهم مش صافية"، خلال الأيام القليلة التي أقمتها هناك لم يمر يوم دون أن أسمع هذه الجملة، من أول عم عمر بائع التوابل إلى عبدالجليل المراكبي وغيرهما الكثير، كل منهم يحكي تجربته السيئة مع البحاروة أو القاهريين بشكل خاص، لكن بعد ما علمت أن النوبيين قبائل وكل قبيلة ترى أنها أفضل من الأخرى، وأيضاً يعتبرون أنفسهم أصحاب البلد أكثر من الأسوانيين، وفي المقابل عندما تعاملت مع الأسوانين أخبروني أن التعامل مع النوبيين صعب.
في آخر يوم جلست مع الحاج شمس النوبي، صاحب فندق أشري نارتي، الذي أقمت به، ظل يمجد في طباع النوبيين على حساب الأسوانيين، وعندما أخبرته أنه خلال الأيام القليلة التي أقمتها هنا رأيت أشخاصاً طيبة وأصيلة، لكن أيضاً تعاملت مع أشخاص استغلالية جداً، وهنا مثل أي مكان به الجيد والسيئ، فكان رده على كلامي: "الحقيقة لم نعد كما كنا، بل أصبح كل شخص يقول نفسي.. نفسي"، ولأني في الأساس نشأت وتربيت في الريف، فأقدر أقول إن أهل النوبة وأسوان لا يختلفون كثيراً عن أي قرية مصرية، لكن الطبيعة هناك ساحرة والنيل عظيم.
الأماكن كالأشخاص لا تحمل لهم انطباعاً مسبقاً مبنياً على ما سمعته حولهم، بل تعرف عليهم أولاً، واترك الانطباع يولد بداخلك، نتيجة ما رأيته وجربته بنفسك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.