لعل أكثر ما يميز مصطلح القتل المتسلسل، أو القتلة المتسلسلين هو ارتباطهم لسبب ما بالولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث نشأ المصطلح بالأساس في منتصف السبعينات، بواسطة أحد مكاتب التحليل النفسي داخل المباحث الفيدرالية الأمريكية.
ولأن أمريكا تحظى بنصيب الأسد من القتلة المتسلسلين، فإن بدايات تسجيل التاريخ الحديث للقتل المتسلسل جاءت من نصيب الطبيب الأمريكي هنري هوارد هولمز، الذي اعتبرته أمريكا أول قاتل متسلسل في تاريخها.
بدايات أول قاتل متسلسل في تاريخ أمريكا.. التورط المبكر في المتاعب
ولد هنري هوارد هولمز H. H. Holmes، وكان اسمه الحقيقي (هيرمان ويبستر مادجت)، عام 1861، في ولاية نيو هامبشاير لأبوين متشددين، ولكنه لم يُظهر أي ميول غريبة أو شاذة في طفولته، وإنما على العكس عانى من تنمّر أقرانه أثناء الدراسة الابتدائية، لاحقاً كان قد اعترف أنه أُجبر من قبل المتنمرين على لمس أحد الهياكل العظمية وهو في الثامنة من عمره، وهو ما كان بمثابة نوع من التخويف والإهانة.
في سن 17 عاماً صار هولمز شغوفاً بشيئين؛ الفتيات وتشريح الجسم البشري، وقرر أن يدرس الطب، ولكنه تورَّط في علاقة غير شرعية مع فتاة في مثل عمره، ولما حملت منه قرَّرت أسرته التعامل مع الأمر بالتستر عليه، وتربية طفله الذي وُلد وأبوه لا يزال في عمر 18 عاماً. وبعدما ضمن هولمز خروجه من مأزقه ذهب ليدرس أكثر شيء أثار اهتمامه، وهو الطب.
وفي عام 1881 حصل على شهادة الدكتوراه في الطب البشري من جامعة ولاية ميتشيغان، وبدأ الاهتمام بشكل كبير بما كان ينقصه منذ طفولته، ألا وهو المال، مهما كانت الوسائل للحصول عليه.
الاحتيال قبل القتل
بدأ هنري هوارد هولمز مسيرته الإجرامية بقلب سليم، أثناء دراسته الطب عندما قرر أن يسرق الجثث من مشرحة كلية الطب ليبيعها لطلاب الطب في جامعات أخرى، بخلاف علاقاته النسائية المتعددة، وتهربه من التزاماته المادية، بخلاف الاحتيال على شركات التأمين على الحياة، باستغلال جثث مجهولة الهوية ومشوهة لتحصيل أموال تعويضات.
في عام 1887 بدأ مسيرته الأولى نحو جرائمه الكبرى، عندما قرر الانتقال -كعادة المحتالين- للعيش في ولاية شيكاغو بصحبة زوجة جديدة ثرية -بهدف الاحتيال على أموالها- تعرف عليها بينما كان لا يزال متزوجاً من زوجته الأولى، وقرر بدء عمله الخاص بافتتاح متجر للأدوية، مستغلاً شهادته في الطب.
بعدها بأشهر قليلة اختفت زوجته الجديدة تماماً، وبحسب ما قاله هولمز فإنها عادت لموطنها في ولاية كاليفورنيا للعيش مع عائلتها، وبدأ هولمز في الاستدانة من المصارف بضمان متجره، وبدأ في الاحتيال على شركات التأمين لتحصيل مبالغ التعويضات، بعد تزييف حوادث تخريب ممتلكاته بنفسه.
قلعة القتل المريبة
في الأعوام التالية اهتمّ هولمز بتوظيف النساء الشابات للعمل لديه في متجر الأدوية بولاية شيكاغو، بهدف استغلالهن في علاقات عاطفية، ولكن الأمور اتجهت إلى رغبات أكثر شذوذا، قتل هنري هولمز ثلاث نساء يعملن لديه، بهدف الحصول على جثثهن -قال لاحقاً إنه كان بغرض التعذيب- بعد أن قام إما بتخديرهن أو تسميمهن.
في السنوات التالية استقرّ ذهن هولمز على العقارات وتطويرها وبيعها، وجذب انتباهه أحد المباني الضخمة قبالة متجره، والذي أطلق عليه السكان المحليون (القلعة)، نظراً لمساحته الشاسعة، فابتاعه بضمانات وهمية بهدف تحويله إلى فندق، وبدأ في استئجار عدد من مقاولي البناء لتجهيز المبنى.
لكن الأمر هنا بدأ ياخد منحى أكثر غرابة، فقد كان هنري هولمز يستأجر مقاولاً بعينه لإعداد جزء واحد فقط في المبنى، ثم يستأجر آخر لبناء جزء آخر في المبنى، والسبب في هذا هو رغبته في ألا يعرف أي شخص أسرار المخطط الكامل للفندق الذي قام هو نفسه بتصميمات غريبة فيه، عبارة عن أبواب وأقبية سرية، وغرف سحرية لها مداخل مخفية في الجدران، وقد كان الهدف واضحاً، وهو تسهيل عمليات قتل وإخفاء ضحاياه.
27 ضحية.. والجريمة الأخيرة
ظل هنري هولمز عدة سنوات، استدرج فيها أكثر من 20 ضحية، كان أغلبهن من النساء اللاتي رغبن في العمل لديه أو في الإقامة في فندقه المريب.
في عام 1894 وفي أثناء تحضيره لجريمة احتيال جديدة بمعاونة أحد شركائه يدعى (بين بيتزل)، اختلف الشريكان، وقرر هولمز قتل بيتزل بعد تخديره، ثم احتال على أرملته بتحصيل مبلغ التأمين على حياته وفرَّ هارباً من شيكاغو إلى ولاية بوسطن، وكان وقتها اسمه قد احتل قوائم أكثر المطلوب القبض عليهم بسبب جرائم الاحتيال.
وفي عام 1895 اعتقل هنري هوارد هولمز، بعدما اتُّهم بسرقة حصان من مزرعة في ولاية بوسطن، وأودع السجن تمهيداً لمحاكمته، وبعدما داهمت الشرطة الفندق الذي يملكه اكتشفت بقايا ما يزيد عن 20 ضحية مخبّأة في القبو، بخلاف اكتشاف العديد من الغرف السرية والسراديب السحرية التي استغلها هولمز في تشويش ضحاياه، من خلال توجيههن إلى أماكن خفية ليسهل قتلهن.
اعترف بعد ذلك هولمز بقتل 27 ضحية، وحوكم، وحكم عليه بالإعدام شنقاً؛ ولكن للغرابة حاول المحتال بداخله الحصول على ربح أخير، فقام ببيع اعترافاته وقصته كاملة إلى إحدى الصحف الشهيرة آنذاك، وهي صحيفة (راندولف هيرست)، لقاء مبلغ 7500 دولار عام 1896. وقال فيها اعترافه الشهير: "لقد ولدت والشيطان بداخلي، جذبني فعل الشر كما يجذب فعل الخير الأشخاص الطيبين".
أُعدم هولمز عام 1896، وكانت أمنيته الأخيرة قبل الإعدام هي دفن جثته في قالب أسمنتي لكي لا يُمثل أحد بجثته كما فعل هو طيلة حياته.