تَوّج رئيس غامبيا منذ خمس سنواتٍ، الشابة فاتو جالو، البالغة من العمر 18 عاماً، بلقب أكبر مسابقة ملكة جمال في البلاد، موجهاً كلمةً إليها وإلى المتسابقات الأخريات، قال فيها: "لا تتعجلن في الزواج، ولكن استخدمن المنحة الدراسية التي فزتن بها في المسابقة لتحقيق أحلامكن".
لكن الرئيس يحيى جامع، وفق ما ذكرته صحيفة The New York Times الأمريكية، بدأ بعد مدة وجيزة في استدعاء الفائزة بالمسابقة إلى القصر الرئاسي بغامبيا، ليطلب منها في نهاية الأمر الزواج به. فقالت: "لا".
قالت فاتو: "اعتقدت أنها مزحةٌ. لقد كنت ساذجةً. لم أكن أعلم أنه بتلك الوحشية". وأوضحت أنه حين استدعاها مرةً أخرى إلى ما اعتقدت أنه مناسبةٌ رمضانيةٌ، اغتصبها.
أضافت فاتو: "صدمني واقع أن هذه صارت هويتي الجديدة. أنا مجرد هذه الفتاة التي سوف يتصل بها الرئيس لتحضر إليه ويغتصبها. كل ما أردت أن أكونه، وكل الفرص والأسباب التي جعلتني ألتحق بهذه المسابقة في المقام الأول، كل ذلك أُلقي في القمامة".
رئيس غامبيا.. 22 عاماً من السلطة والقمع والتعذيب
خلال فترة حكمه التي امتدت 22 عاماً، حكم خلالها جامع، عن طريق إرهاب الدولة الصغيرة الواقعة غرب إفريقيا التي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، تعرض الأشخاص الذين اعتبرهم أعداءه للتعذيب والقتل. واعتُقل المتظاهرون والصحفيون وضُربوا، وانقطعت أخبار كثيرين انقطاعاً تاماً. ا
تُّهم فريق اغتيالاته بقتل عشرات من المهاجرين فيأثناء محاولتهم الإبحار إلى أوروبا، بحسب تصريحات الناجين من المذبحة. وأخضع مرضى الإيدز لما سماه علاجاً تجريبياً إعجازياً، عن طريق فرك الجسم بالأعشاب وموزة. وقد قضى بعضهم نحبه.
لم يُحاسَب جامع، ذو الـ54 عاماً، على أيٍّ من أفعاله. سمح له قادة دول غرب إفريقيا بالفرار إلى غينيا الاستوائية عام 2017، بعد خسارته للانتخابات، التي رفض أن يتقبل نتيجتها ستة أسابيع. وأخذ معه سيارتين من طراز الرولز رويس وسيارةً من طراز مرسيدس-بنز، ونشر صوراً له على وسائل التواصل الاجتماعي في أثناء احتفاله بكعكة عيد ميلادٍ وهو يرتشف الشمبانيا.
"فاتو" أول من تتهم يحيى جامع بالاعتداء الجنسي
يجمع الآن المدافعين عن حقوق الإنسان تقارير وروايات من الشهود مباشرة حول إساءاته، كي يمثُل أمام المحكمة. شاركت فاتو، المعروفة في غامبيا باسم "توفاه"، قصتها في أثناء إحدى المقابلات. وهي أول من تتهم الرئيس علناً بالاعتداء الجنسي، في الوقت الذي تخوض فيه غامبيا عملية المحاسبة ضد الإرث الرهيب الذي تركه لها نظام "جامع".
قال ريد برودي، المحامي في منظمة هيومان رايتس ووتش والذي يقود حملةً من الدعاوى القضائية ضد جامع، كما فعل مع الديكتاتور التشادي حسين حبري، الذي أُدين عام 2016 بارتكابه جرائم ضد الإنسانية: "هذا غيضٌ من فيض بربرية هذا النظام. السؤال الأكبر هنا هو: هل سيُفلت هذا الرجل بأفعاله، أم سيستطيعون الإمساك به ومحاسبته على كل ما فعله من سوءٍ؟".
شكّل رئيس غامبيا الحالي، أداما بارو، لجنةً لتقصي الحقائق والمصالحة وتقديم التعويضات، بهدف كتابة سجلٍّ بالأعمال الوحشية. وتضمنت لائحة الشهادات جنوداً حكوميين متهمين بالضرب والقتل، وتضمنت أيضاً ضحايا الانتهاكات.
وقال بابا غاله جالو، السكرتير التنفيذي للجنة، والذي لا تربطه صلة بفاتو جالو: "نأمل في النهاية أن نعزز المصالحة القومية والإصلاح. ولنضمن أننا لن نحظى أبداً في هذه البلاد بديكتاتوريةٍ أو تفاقمٍ لانتهاكات حقوق الإنسان".
ولم يستجب لدعوات المصالحة التي أطلقت في البلاد
لم يستجب "جامع" للجهود المبذولة من أجل الوصول إليه عن طريق السلطات الحكومية في غينيا الاستوائية أو عن طريق داعميه في غامبيا، إذ لا يزال له أتباعٌ هناك.
أحد هؤلاء الأتباع رفض مطالبته بالرد على ذلك الاتهام، قائلاً إن طرح سؤالٍ كهذا على "شخصيةٍ مثله هو أسوأ أشكال عدم الاحترام".
أولت عملية المصالحة في غامبيا اهتماماً كبيراً للنساء اللاتي تعرضن للضرب أو العنف الجنسي على أيدي ضباط أمن "جامع"، أو اللاتي عانين الفقر بعد أن احتُجز أزواجهن. وفي العام الماضي، جمعت سلاسل استماعٍ إلى النساء فقط بعض الضحايا معاً، ليتشاركن تجاربهن المأساوية ويتشجعن على التحدث.
وقد حصلت فاتو، التي تبلغ من العمر الآن 23 عاماً، على حق اللجوء إلى كندا عام 2015، ووُضعت في جدول استماع اللجنة، لتُدلي بشهادتها في أثناء جلسات الاستماع الخاصة بالعنف الجسدي، في وقتٍ لاحقٍ من العام الحالي.
قالت فاتو في إحدى المقابلات: "جزءٌ مما أراده هو كسري وإرغامي على السكوت. أريده أن يسمع صوتي عالياً وبوضوح. لن يستطيع كتم صوتي".
رغم ما اقترفه من "جرائم" في حق الفتيات
منذ خمس سنواتٍ، عندما استدعى "جامع" فاتو للمرة الأولى إلى القصر الرئاسي، كانت مراهقةً ولم تكن على وعيٍ بحجم الاتهامات الموجهة إلى الرئيس.
قالت: "لكي أعرف تلك المعلومات، كان يجب أن أتصل بشبكة الإنترنت، لم أكن حتى أملك هاتفاً في أغلب سنوات دراستي الثانوية. لم أكن على قدرٍ كافٍ من الذكاء السياسي عندما كنت مراهقة".
أخبرها "جامع" وقتها بأنه يُريد أن يتحدث إليها عن مشروعها الخاص بمسابقة الجمال؛ وهو برنامج درامي للطلاب حول القضاء على الفقر. عرض عليها بعد ذلك أن تعمل واحدة من موظفي البروتوكول في مكتبه، الذين يؤدون أعمال السكرتارية بالقصر الرئاسي. قالت له حينها إنها تبلغ من العمر 18 عاماً فقط، وإنها لا تشعر بأنها مؤهلةٌ للعمل في مكتب الرئيس.
وفي وقتٍ لاحقٍ، أوردت تقارير نقلتها وسائل إعلام المغتربين الغامبيين، أن جامع كان يستغل "فتيات البروتوكول" اللاتي يعملن له، باعتبارهن هدايا جنسية.
جمع المحامون في منظمة هيومان رايتس ووتش والمحكمة الجنائية الدولية، ومجموعةٌ تدعم ضحايا الجرائم، شهادة سيدتين من اللاتي عملن سابقاً موظفات بروتوكولٍ، واللتين قالتا إن ممارسة الجنس مع الرئيس كانت جزءاً من العمل. قالت إحدى السيدتين في شهادتها، وقد رفضت التعريف بنفسها، لخوفها من انتقام داعمي جامع، إنها عندما كانت تبلغ من العمر 23 عاماً، تلقت الأموال والهدايا لممارسة الجنس معه، وإنه أخبرها بأنها إن رفضت فسوف يقطع الدعم المادي الذي يُقدمه لأسرتها.
وصرح أحد الموظفين الحكوميين المقربين من جامع في مقابلةٍ، بأن عديداً من النساء العاملات في مكتب البروتوكول شكون له من أن الرئيس يلمسهن بطريقةٍ غير لائقةٍ أو يطلب منهن ممارسة الجنس. وقال إنه في عام 2015 طلب من جامع أن يتوقف، فهدده بالقتل، وأرسل ضباط الأمن إلى منزله. وأضاف كذلك أنه رأى فاتو بالقصر الرئاسي في أثناء الليل.
يُذكر أن هذا الموظف، الذي طلب عدم ذكر اسمه علناً لأنه لا يزال خائفاً على حياته، قد فرَّ من البلاد.
مستغلاً فقر بعضهن وحاجة عائلاتهن
قالت فاتو إنه بعد اللقاء الأول لها مع الرئيس، رتَّب مع الشركة القومية للمياه لتركيب مضخات المياه في منزل عائلتها، الذي لم يكن به مياهٌ جاريةٌ. ليصل بعدها إلى المنزل أثاثٌ جديدٌ. ثم عُرض أقاربها المرضى على الأطباء.
وقد دعاها الرئيس لمزيدٍ من الاجتماعات في القصر الرئاسي. وكانت هناك بعض التكهنات في وسائل الإعلام حول كونها "تُواعد" جامع، الذي كان متزوجاً.
وقالت كذلك إنه خلال اجتماعٍ آخر بقصر غامبيا الرئاسي، وفي أثناء مراجعتها والرئيس ميزانية مشروعها، طلب منها "جامع" الزواج. وقالت إنها أوضحت أنها تريد أن تدرس قبل أن تتزوج.
قالت فاتو: "طلب مني أن أفكر في الأمر، لم أفهم ما يعنيه ذلك، واحتجت وقتاً لفهمه".
استُدعيت الفتاة بعدها بوقتٍ قصيرٍ إلى القصر الرئاسي، إلى ما اعتقدت أنه مناسبةٌ تخص مسابقة الجمال، للمساعدة مع المتسابقات الأخريات في استقبال شهر رمضان. طُلب منها أن تضع التاج الخاص بها. ارتدت عباءةً تقليديةً للمسلمات مع حجابٍ وركبت السيارة المرسلة من أجلها.
وقالت إنهم عندما وصلوا، عبر السائق الحديقة التي يجري فيها إعداد البرنامج الخاص باحتفالات رمضان. وأوصلها إلى مسكن الرئيس، حيث أخبروها حينئذٍ بأن تنتظر حارس الأمن ليأخذ هاتفها وحقيبتها.
فهو كان يعامل الفتيات كما لو أنهن "جوارٍ"
وصل جامع بعد دقائق، مرتدياً بنطلوناً فضفاضاً وقميصاً قصير الأكمام، مثلما يرتدي الرجال تحت الرداء التقليدي.
قالت فاتو: "سقط قلبي في قدميَّ حرفياً"، لرؤيته يرتدي ملابسه الداخلية. وأوضحت أنه حيَّاها بحدةٍ، وهو يقول: "تعلمين أنني لا ترفضني امرأةٌ أبداً".
سحبها جامع من يدها وقادها إلى غرفةٍ مجاورةٍ، كانت تحتوي على سريرٍ. دفعها إلى كرسيٍّ، قالت إنه بدأ يتحدث إليها عن مدى كونها عديمة الاحترام. بدأ بتمزيق عباءتها. وحينها شرعت في البكاء.
قالت فاتو إنه رفع الرداء وسحب حقنةً من جيبه وحقنها بها في ذراعها. تتذكر الفتاة ما حدث، قائلة إنه كان يتعرق، ودفعها لتجلس على ركبتيها.
عندما استيقظت، قالت إنها وجدت بنطالها ملقياً على الأرض وجامع يجلس على كرسيٍّ في ركن الغرفة.
قالت: "خرجت من هناك وأنا أتعثر حرفياً"، لتستقل بعد ذلك السيارة نفسها التي أحضرتها. وقالت إنها كانت خائفةً من إخبار والديها أو أي أحدٍ بما حدث.
بعد نحو خمسة أيامٍ، قالت فاتو إنها ارتدت حجاباً ساتراً -لم يبدُ منها سوى عينيها- وأخذت أموالاً من والدتها لتذهب إلى السوق، لتشتري بعض البقالة. وبدلاً من ذلك، فرَّت عبر الحدود لتصل إلى السنغال، وهناك ذهبت إلى العاصمة داكار.
قبل أن تتمكن ملكة الجمال من الهرب واللجوء إلى كندا
وبمساعدة قريبٍ لها في إنجلترا، تواصلت فاتو مع بعض منظمات الإغاثة في داكار. ولم تؤكد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هناك أية تفاصيل، ولكنها قالت إن الفتاة وُضعت فوراً ضمن قائمة الساعين للحصول على اللجوء والإقامة في كندا.
قالت فاتو إنها تعلم أن التصريح بقصتها أمام الجميع قد يجلب العار لها و لأسرتها. وهذا ما جعلها تُمسك عن الإفصاح كل تلك الأعوام. حتى إنها لم تخبر أمها بما حدث لها إلا مؤخراً.
في حين قالت آوا ساهو، والدة فاتو: "على جامع أن يدفع جزاء ما فعله طوال حياته عاجلاً أو آجلاً".
تخضع فاتو للتأهيل النفسي. وقد درست في الجامعة لتصبح أخصائيةً اجتماعيةً، مستمدةً الإلهام من أولئك الذين ساعدوها في كندا. وعملت ممثلة خدمة عملاءٍ بإحدى شركات الهواتف في تورونتو، من أجل أن تدفع نفقات تعليمها، وهي تعمل الآن متطوعةً في مأوىً للنساء مرةً في الشهر.
وقالت: "لست خائفةً من الكلام. في النهاية، يُصبح الصمت مرهقاً وأكثر تدميراً من عواقب الكلام".