في صباح ربيعي دافئ من عام 1984، ارتدى دونغ ياو هوى وصديقاه الصغيران، وو دي يو وتشانغ يوان هوا، أزياء وأحذية عسكرية، وانطلقوا في مسيرة على امتداد سور الصين العظيم.
وبحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، بدأت مسيرتهم عند لاولونغتو -أو ما يعرف بـ "رأس التنين القديم"- في ممر شنهاي، وهو ما كان يُعتقد من قبل أنه أقصى امتداد للسور ناحية الشرق، حيث يمتد إلى داخل بحر بوهاي. بدأ ثلاثتهم من هناك متجهين غرباً ناحية جبال محافظة خبي، والأراضي الصينية الشاسعة الممتدة وراءها.
أحرزوا مع غروب أول يوم تقدماً جيداً، واتَّخذوا ملجأً لهم في حصن متداعٍ، كان يقيم فيه قبل قرون من الزمان الرجال الذين وقفوا ذات يوم لدوريات الحراسة فوق السور، ربما لرصد الغزاة القادمين من الشمال.
وشرعوا هناك في تأمل الرحلة التي تنتظرهم: وهي مسيرة تستغرق 17 شهراً يقطعون خلالها 8850 كيلومتراً (5500 ميل) مما ستشكل اختباراً لتحملهم، لكنها في الوقت ذاته سوف تُدخلهم في كتب وموسوعات الأرقام القياسية لأول الأشخاص الذين ساروا على طور سور الصين العظيم كله.
لم تكن مجرد رحلة ستغير حياة الأصدقاء الثلاثة فحسب، بل كانت ستغير ثروات السور نفسه، وتساعد في المحافظة عليه والارتقاء به إلى المنزلة الموقرة التي يحظى بها اليوم.
أول بعثة على طول سور الصين العظيم
يتذكر دونغ، البالغ من العمر الآن 62 عاماً، ويقول: "كانت المرة الأولى على الإطلاق التي ينطلق فيها أشخاص في بعثة على طول سور الصين العظيم كله، ليتركوا أول آثار قدم على كامل السور. كانت رحلة بدون توقف من الصعود والهبوط".
وأوضح: "حرارة الصيف وثلوج الشتاء والمسيرات المرهقة شكَّلت جميعها تحديات، لكنها لم تكن مستعصية، لقد سرنا وسرنا فحسب، ودوَّنَّا ملاحظات حول ما شاهدناه، كانت أموراً متكررة جداً، مثل كيف يتعامل المزارعون مع مزارعهم".
في مايو/أيار 1984، كان سور الصين العظيم معروفاً خارج الصين بأنه بناء يمكن رؤيته -حسبما تقول الأسطورة- من الفضاء. غير أنه في هذا الوقت ربما كانت الأمور المتعلقة بسطح القمر معروفة أكثر من معالم السور.
بدأ العمل على بناء السور قبل 2500 عام، فيما تعود بداياته الأولى إلى عصر الربيع والخريف من التاريخ الصيني بين حوالي عامي 770 قبل الميلاد و476 قبل الميلاد. أضيفت أجزاء متنوعة إليه في العصور اللاحقة، نظراً إلى أن السلالات والفصائل المتنافسة كانت تسعى لبسط سيطرتها.
وانتهت أعمال بناء السور نهائياً في القرن الـ17 ميلادياً، والآن يمتد السور إلى أكثر من 21 ألف كيلومتر، ويشق طريقه عبر 15 محافظة، و97 بلدية، و404 مقاطعات.
وبالرغم من أن أجزاءً محددة منه جذبت السياح، من داخل الصين وخارجها، فقد كان كبيراً لدرجة أنه مع قدوم الثمانينيات -عندما كانت البلاد بصدد الخروج من اضطرابات تولي الشيوعيين الحكم في البلاد وتجاوزات الثورة الثقافية في الستينيات والسبعينيات- أُهملت أجزاءٌ كبيرة منه وانزلقت في بئر الغموض والتلف والنسيان أحياناً.
وهنا يدخل دونغ إلى جنبات القصة. فعندما كان يبلغ من العمر 25 عاماً، عمل فني كابلات كهرباء -وشاعراً- في مدينته تشنهوانغداو القريبة من ممر شنغهاي، حيث بدأ لاحقاً رحلته الملحمية.
يتذكر غودو: "تسلَّقت أبراج الطاقة، وأحياناً تلك القريبة من سور الصين العظيم. وطورت رويداً رويداً اهتماماً بالسور. من الذي بناه؟ ومتى بُني؟ ولماذا بُني؟ كنت أحمل كل هذه الأسئلة، ولكن لم يكن هناك كثير من الكتب التي يمكنك قراءتها عنه، بل إن الحكومة نفسها لم يكن لديها مثل هذه السجلات حينها".
استغرق الأمر مدة قصيرة قبل أن يتحول اهتمام دونغ إلى خطة مُصاغة. وبعد عامين من التحضيرات، شَرع دونغ مع صديقيه في رحلتهم الملحمية، التي اعتقدوا أنها سوف تستغرق ثلاثة أعوام، لكنها استُكملت في الواقع في 508 أيام فقط.
مشروع مستمر مدى الحياة على غير المتوقع
قرَّر دونغ وَوُو وتشانغ التركيز فقط على الجزء الممتد لـ8851 كيلومتراً من السور، الذي بني خلال عهد سلالة مينغ، وذلك قبل حوالي 600 عام. يعتبر هذا أكثر جزء محتفظ بهيئته القديمة، وهو الجزء الذي يشار إليه غالباً عندما نتحدث عن سور الصين العظيم اليوم.
يتذكر دونغ قائلاً: "كانت ملابس السير عبارة عن أزياء عسكرية قدّمتها إلينا القوات المتمركزة في كل منطقة، وتبرعت جمعية تسلق الجبال في الصين بحقائب الظهر، التي كانت استُخدمت خلال بعثتها إلى جبل إيفرست".
وبدلاً من العودة إلى الخريطة، تابعوا بكل بساطة طريقهم فوق السور ودوَّنوا مسارهم الخاص على الورق، إضافة إلى ملاحظاتهم المتعلقة بأحوال السور. وفي المساء، كانوا ينامون عادةً داخل بوابات وحصون السور، التي كانت منفصلة عن الهيكل الأساسي، مما أتاح لهم توثيقها هي الأخرى.
يقول دونغ: "لم نكن نعرف عندما كنا نخوض الرحلة أنها ستصير في النهاية مشروعاً مستمراً مدى الحياة".
ومع إتمام الرحلة، قضى فريق البعثة العامين التاليين في توحيد ونشر تجاربهم في كتاب بعنوان Ming Dynasty Great Wall Expedition (بعثة حول سور الصين العظيم في عهد سلالة مينغ).
لكن ما اعتقدوا أنه سيكون نهاية هوسهم بسور الصين العظيم، اتضح أنه سيكون مجرد بداية لتداعيات رحلتهم التي وصلت إلى أبعد مما كانوا يتوقعون.
يقول دونغ: "كانت لدينا خطة أخرى في الأساس لخوض رحلة على طول شاطئ البحر في الصين، الذي يصل إلى 18 ألف كيلومتر، لكن علاقتنا بسور الصين العظيم كان لا يمكن إيقافها بعد أن انطلقت".
ويضيف: "كلما تقدمت أكثر، صارت مسؤولية أكبر بالنسبة للمجتمع بدلاً من كونها مجرد مشروع لتحقيق الذات".
وبينما كانوا يحكون عن مغامراتهم، اتضح لثلاثتهم أن الإرهاق البدني لم يكن وحده ما ترك لديهم انطباعات دائمة، بل تولَّد لديهم أيضاً تأثير عاطفي لمشاهدة مدى الدمار الذي لحق بالسور، لدرجة أنهم حذَّروا السلطات.
يقول دونغ: "عندما أخبرنا المسؤولين الحاكمين قالوا: حسناً، حسناً، حسناً. ولكن في الواقع لم يأخذ أي شخص الأمر على محمل الجد".
ويضيف: "تخيَّل فقط مدى الإرهاق الذي عانيناه من السير على طول سور الصين العظيم، فما بالك بالطريقة التي بُني بها، لكننا اليوم ننحي الأمرَ جانباً، فهل المجتمع أكثر تحضّراً الآن؟ أم أكثر حماقة؟"
والآن، صار دونغ شخصيةً علميةً وقورةً، فهو الشخص الذي كرَّس أكثر من نصفِ حياته من أجل دراسة وصيانه سور الصين العظيم، لكن التفكير في حالته الخطيرة يحيي لديه حالة السخط الشبابية، التي دفعته نحو مسعاه الأساسي.
يقول دونغ: "أجل، أعترف أنني قد أكون أحياناً متهوراً وعاطفياً عندما أتحدث عن الضرر، قد يكون من الأفضل أن أتمكَّن من إبلاغ رسالتي بطريقة أكثر عقلانية ولطفاً، لكنني غير قادر على السيطرة عليها، إنني منزعج للغاية، وإنه ألمٌ نابعٌ من أعماق قلبي".
لا يخلو الألم الذي يعانيه دونغ من المبررات، نظراً إلى أن السور لا يزال يواجه تهديدات. ففي عام 2014، أبلغت منظمة Great Wall Society، التي أسسها دونغ ويشغل الآن منصب نائب رئيسها، عن أن 8.2% فقط من هيكل السور في حالة جيدة.
بعد ذلك، عام 2016، خضعت أقسام السور للفحص، عندما تبيَّن أن السكان المحليين كانوا يُغطّون الطوب الأثري بطبقة من الإسمنت.
ويحاول دونغ التفكير في هذه الأمور من منظور إيجابي، قائلاً إن حقيقة ظهور هذه المشكلات في الأخبار تشير إلى تغير طريقة التفكير في سور الصين العظيم.
وقال: "في هذه السنوات الـ35، طرأت تغييرات هائلة على الجهد المبذول لحماية السور العظيم".
وقال: "قبل أن تتطور الدولة، اعتادت كل القرى تخريب السور العظيم، ولذا لم يكن أمراً يستحق ذكره في الأخبار. واليوم، تحارب وسائل الإعلام لنشر تقارير عن هذا الأمر والناس تدينه كذلك، لقد تحسَّن الوعي العام حول حماية السور العظيم".
فني كابلات يتحول إلى "ابن السور العظيم"
ويُنسب لدونغ الكثير من الفضل في هذا بالطبع. ويُطلَق عليه هذه الأيام "ابن السور العظيم"، ويشتهر بخبرته الكبيرة فيه. وعندما زار الرئيسان الأمريكيان جورج بوش الابن وبيل كلينتون السور، كان دونغ مرشدَهما الخبير المكلف باصطحابهما.
وظهر هذا الاحترام الذي يحظى به دونغ في يوم آخر من أيام الربيع، في وقت سابق من هذا العام، عندما انضمَّ إليه فريق CNN Travel خلال زيارة إلى قسم جينشانلنغ في سور الصين العظيم، بمقاطعة خبي، على بعد حوالي ساعتين ونصف الساعة شمال شرقي بكين.
كان يرتدي قميص كاروهات بسيطاً وسروالًا قماشياً، وقد استقبلته مجموعة من المسؤولين والمديرين المحليين، قبل أن يرتدي سترة حمراء لصعود درجات السور، وصعد درجات السلم في رشاقة متقدماً المجموعة.
وقال أحد المديرين بابتسامة عريضة، قبل اطلاع الزائر المميز على سير أعمال الصيانة والحماية الدائرة على طول هذا الجزء من السور: "السيد دونغ لم يحضر هنا منذ فترة".
فيومئ الخبير الذي يرتدي نظارات برأسه في هدوء، ويلقي بعض الأسئلة بصوت خفيض من حين لآخر.
بدأ العمل على صيانة السور العظيم بشكل جدي عام 1987 -بعد ثلاث سنوات من نزهة دونغ- عندما أدرجته اليونسكو في قائمتها لمواقع التراث العالمي. ومنذ ذلك الحين، اتخذت الصين عدداً من الإجراءات للحفاظ على المعلم السياحي العالمي الشهير.
في عام 2006، على سبيل المثال، أصدر مجلس الدولة لائحة حول حماية سور الصين العظيم، لتعزيز القوانين المتعلقة بالحفاظ عليه وتنظيم الأعمال التي يخضع لها هيكله.
ومُنحت الهيئة الإدارية للآثار الثقافية سلطة حماية سور الصين العظيم بالكامل.
وفي الوقت نفسه، طُبق نظام جديد في الآونة الأخيرة، يبلغ فيه الحد الأقصى اليومي للزوار 65 ألف شخص في قسم بادالينغ الشهير من سور الصين العظيم، لزيادة متعة الزيارة ومنع تدهور حالته. وسيطَّبق أيضاً نظام تحذير من ثلاث درجات لتحذير السياح من حجم أعدادهم على السور، وكل هذه النظم آنية.
وتشمل التدابير الأخرى إزالة السوق السياحي التجاري المزدحم أسفل قسم بادالينغ. ومن المقرر أن تحل محله ساحة ثقافية عنوانها سور الصين العظيم بحلول عام 2022.
وفي بكين، سيجري إنشاء أول مركز لترميم سور الصين العظيم هذا العام، لعرض أعمال الترميم شديدة الدقة التي تبدو غير ظاهرة، والتي تجري على قسم جيانكو. وفي الوقت نفسه، عُين فريق جديد مؤلف من 463 شخصاً من سكان القرى مؤخراً لحراسة السور العظيم.
سياحة سور الصين العظيم: من الأفقر إلى الأغنى
يقول دونغ: "السياحة في سور الصين العظيم تعطي المجتمع المحلي دفعة هائلة في طريق تطورُّها".
وقال: "انظروا إلى موتينيو، وهي قرية تقع أسفل السور العظيم. كانت يوماً أفقر قرية في منطقة هوايرو، وبعد حوالي 30 عاماً من استغلالها في سياحة السور العظيم، أصبحت الآن أغنى قرية".
وأضاف: "كيف تحوَّلت من أفقر القرى إلى أغناها؟ لم تسرق وتبيع لبنة واحدة من السور العظيم، بل ما تبيعه هو ثقافة السور العظيم".
وقال: "يجب أن نطور الاقتصادات المحلية حتى يتمكَّن المزارعون المحليون من التمتع بفوائد حماية السور العظيم. وحينها لن تحتاج حتى أن تطلب منهم التوقف عن إتلاف السور أو سرقة لبناته، سيتوقفون عن ذلك من تلقاء أنفسهم".
ويضع دونغ راحة يده على الجدار البالي، ولا يزال يتأمله مثلما كان يفعل منذ 35 عاماً، ولكنه اليوم منشغل بالتفكير في مهمة أعظم من تجربته الشخصية.
يقول: "في يوم ما نبش أحدهم بعض التراب وشكَّل منه لبنات، وجاء شخص آخر وأكملها على طول الجبل وشيد سوراً، ثم عمل العديد من الأشخاص على حراسة هذا السور لمئات وآلاف السنين".
وأضاف: "السور العظيم لا يزال حياً بالتأكيد، فهو ليس مجرد سور حجري جامد، عندما تضع راحة يدك على السور، فأنت تضع يديك بأيدي أعداد لا تحصى من أسلافك على مرّ السنين".