قال رئيس قوة الإطفاء في قبرص المخضرم ماركوس ترانغولاس: "رأينا حالات وفيات، وعاصَرنا الكثير من الأشياء، لكن لم نرَ أبداً أي شيء مماثل. فإلى الآن، وجدنا جثتين في حقيبتين ملقاتين في بحيرة، وكلاهما متحللتان على نحوٍ سيئ. من الصعب على العقل البشري استيعاب ذلك". إذ وجهت اتهامات لقائد عسكري قاتل متسلسل بارتكابه لتلك الجرائم.
وقالت صحيفة The Guardian البريطانية، إنه على مدار ثلاثة أسابيع، تستمر الأعمال الشنيعة لمرتكبها الذي أعلن نفسه قاتلاً متسلسلاً في إرسال موجات من الصدمة عبر جزيرة قبرص.
ونظراً لأنَّ ترانغولاس يشرف على وحدة الكوارث الخاصة التي تتولى عملية البحث عن الضحايا في بحيرتين صناعيتين تقعان على مسافة نحو 32 كيلومتراً من العاصمة القبرصية، يتمحور عمله حول الاكتشافات التي شهدت، في غضون أيام، استقالة وزير العدل وتغيير رئيس الشرطة وتنظيم وقفات ليلية احتجاجية. وقال ترانغولاس، في تصريح لصحيفة The Guardian البريطانية: "على غرار الجميع، نحن مصدومون ولدينا أسئلة".
قائد عسكري وراء "اصطياد" العاملات المنزليات
ولم يحدث أن وقع أي حدث خلال السنوات الأخيرة وأفسد السلام الهادئ لجزيرة قبرص مثلما فعل مقتل 7 أجنبيات -خمس نساء وفتاتان- واللاتي قوبل اختفاؤهن في البداية بالتجاهل.
ولولا اكتشاف إحدى الجثامين بالمصادفة في مهواة منجم أغرقتها الأمطار، ربما لم تكن الشرطة لتشن التحقيق الذي أفضى إلى اعتقال قائد عسكري يوناني قبرصي الذي، أكدت الشرطة، أنه اعترف بتصيُّد النساء اللواتي يعملن في وظائف منزلية قليلة الأجر في إقرار كتبه يدوياً من 10 صفحات.
وبفضل هذه الإفادة، اكتشف المحققون منذ ذلك الوقت 5 جثث، من بينها ماري روز تيبرسيو، وهي فلبينية في الثامنة والثلاثين من عمرها، التي عثر راكبو دراجات على جثمانها في منجم مهجور في 14 أبريل/نيسان الماضي، بينما كانوا يمرون في الطرقات الطينية للريف القبرصي.
وتتركز جهود البحث على البحيرات، التي أقر ضابط الحرس الوطني نيكوس ميتاكاسس، البالغ من العمر 35 عاماً، أنه ألقى جثامين 4 من الضحايا فيها.
وتمكَّن غواصون محترفون الأسبوع الماضي، باستخدام كاميرا آلية، من استخراج حقيبة مُثقلة بحجر خرساني، تحوي رُفات جسد بشري أُلقِي في المياه الموحلة لبحيرة حمراء، وهي جزء من منجم كالكوبايرايت توقف عن العمل.
ويعد هذا الاكتشاف الثاني من نوعه خلال أسبوع، وهو ما يدفع المواطنين القبارصة المذعورين للمطالبة بالحصول على إجابات.
والشرطة في قبرص تواجه اتهامات بالتقصير
وانتشرت اتهامات بقصور الشرطة على نطاق واسع، وتردد أنَّ "العنصرية الراسخة" هي سبب تأخير محاولات القبض على القاتل الجماعي.
ومنذ عام 1974، حين أصبحت الجزيرة مسرحاً لخلافات إثنية عنيفة تطورت إلى انقلاب دفع تركيا إلى غزو الجزيرة، وجد القبارصة ملاذاً في أسلوب حياة هادئ لدرجة لافتة ويخلو من الجرائم المتشددة.
وأفقدت جسامة الجرائم والاستخفاف المزعوم للمشتبه به الناس توازنهم، وتركتهم، ومنهم الناشطون تحديداً، يواجهون حقائق مزعجة حول طريقة معاملة العمالة الأجنبية في جزيرة تعتمد على السياحة حيث يأتي جميع العاملين بالخدمة المنزلية من جنوب شرق آسيا أو شبه القارة الهندية.
وانتقلت الضحيات، منهن 4 فلبينيات، إلى الدولة التي تقع على ساحل البحر المتوسط للقيام بأعمال منزلية. ويُعتقد أنَّ الضحية الأولى، ليفيا فلورنتينا بونيا، وهي رومانية في السادسة والثلاثين من عمرها، قتلت مع ابنتها إيلينا ذات الثماني سنوات في سبتمبر/أيلول 2016.
والعنصرية أيضاً!
وحين أُبلِغ ضابط شرطة باختفاء ماري روز تيبرسيو، قال الضابط، حسبما ذكر اتحاد العمالة المنزلية في قبرص، إنه "أكبر من أن يشغل باله بسيدة فلبينية".
ومع تسليط الضوء على جسامة عمليات القتل، أثار إدراك أنَّ القاتل المتسلسل كان واحد منهم شعوراً بالاستياء، وفي الوقت نفسه التعاطف مع الضحايا الذين تجاهلتهم غالبية أفراد الشرطة.
من جانبه، قال دوروس بوليكاربو، الذي يرأس مجموعة Kisa لدعم المهاجرين واللاجئين، "من المحزن وقوع مثل هذه المأساة، لكن حدث بالتأكيد تغير في الطريقة التي ينظر بها الإعلام والمجتمع للعمال المنزليين المهاجرين. ولا يوجد شك في أنَّ هؤلاء الأشخاص يعملون في ظروف تعرضهم للاستغلال المُفرط. ولا يتمتعون بنفس الحقوق الممنوحة للقبارصة".
وركز المحتجون على اللامبالاة التي أبدتها الشرطة تجاه هذه الحوادث، مع نزولهم إلى شوارع العاصمة نيقوسيا مجدداً هذا الأسبوع. ويتساءل كثيرٌ منهم كيف نجح المشتبه في الإفلات من العقاب لمدة 3 سنوات تقريباً.
ومع تولي قائد الشرطة الجديد كايبروس مايكلايدس، منصبه هذا الأسبوع، أقرَّ بالغضب الشعبي المشتعل، واعتذر لعائلات الضحايا. وسَلَمَ بأنَّ قوات الشرطة "فشلت في حماية أرواح بريئة عزلاء لاقت الموت بطريقة بشعة ومأساوية".
وتواجه صعوبات في التحقيق بالقضية
وكشفت الأدلة التي جُمِعَت منذ فضح عمليات القتل عن وجود نمط من فشل الشرطة في متابعة القضايا.
إذ غالباً ما كان يزعم الضباط أنَّ الضحيات فررن إلى الشطر الشمالي من الجزيرة التي قسمتها الحرب، الذي تديره تركيا ويقع خارج نطاق اختصاص الجزء الجنوبي اليوناني من الجزيرة والمعترف به دولياً.
وتعهد مايكلايدس، خلال مراسم سادتها أجواء كئيبة وحضرها الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس، "سأفعل كل ما بوسع إنسان فعله.. للتعويض عما حدث واستعادة ثقة المجتمع في الشرطة وأفرادها.
وتعتقد الشرطة أنَّ ميتاكاساس استدرج ضحياته عبر مواقع المواعدة الإلكترونية والمجموعات المجتمعية غير الرسمية التي تدعم المهاجرات العاملات في الخدمة المنزلية.
وعلى الرغم من أنه لم تُوجَه له تهم رسمية، جدَّدت الشرطة حبسه الاحتياطي لعدة مرات، في الوقت الذي تتعامل فيه مع "فيض من المعلومات" حول أنشطته وتبني قضية ذات حُجّة قوية ضده.
ما جعلها تستعين بخبراء من شرطة سكوتلاند يارد
إلى جانب ذلك، سافر فريق خماسي من أبرز خبراء شرطة سكوتلاند يارد البريطانية المتخصصين في مثل هذه الجرائم، إلى قبرص للمساعدة في كشف حقائق أولى قضايا القتل المتسلسل التي تشهدها الجزيرة.
ولم يستبعد المحققون البريطانيون، الذين يشاركون في استجواب الضابط المتهم، ارتكابه عمليات قتل أخرى.
ويعمل في قبرص، الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي التي تقع في أقصى حدوده الشرقية، 30 ألف عامل خدمة منزلية مسجل، من بينهم عدد لا يُستهان به من الفلبينيين الذين يعملون لدى الطبقة المتوسطة القبرصية. وتتلقى هذه العمالة 400 يورو شهرياً، أي أقل بكثير من الحد الأدنى للأجور.
ومن بين الجثامين الخمسة التي وجدت حتى اليوم، عُثر على 3 منها عارية ومُقيَّدة وملفوفة في أغطية سرير.
وتقول السلطات إنَّ من بينهن الفلبينيتان اللتان استخرِجت جثتاهما من مهواة المنجم من حيث بدأت المأساة تنكشف، إضافة إلى سيدة يُعتقد أنها نيبالية وعُثر على جثتها في حقل رماية عسكري بعد اقتياد المحققين للموقع.
وتعتقد الشرطة أنَّ الحقيبتين المسترجعتين حتى الآن من البحيرة الحمراء تحتويان على رُفات بونيا وابنتها. فيما لم يُعثَر بعد على حقيبة ثالثة يُعتقَد أنها تحوي على جثة ماريكار فالتيس أريكيولا، وهي امرأة فلبينية تبلغ من العمر 31 عاماً، فُقِدت في ديسمبر/كانون الأول 2017.
في انتظار العثور على باقي ضحايا قاتل متسلسل
وقال ترانغولاس، مدير قوة الإطفاء، إنَّ البحث ما زال جارياً للعثور على طفلة أخرى؛ هي سييرا غريز سوكاليوك، البالغة من العمر ست سنوات، والتي فُقدَت مع والدتها ماري روز في مايو/أيار 2018. ويُعتقَد أنَّ جثمانها أُلقي في بحيرة ثانية أقرب إلى المناجم.
وما يعرقل جهود البحث عن ضحايا قاتل متسلسل هو ضعف الرؤية في مياه البحيرات، الذي يعد ناتجاً عرضياً لسنوات من أنشطة التعدين في المنطقة، على الرغم من أنَّ الغواصين استخدموا طوال الأيام الأخيرة معدات مسح متخصصة.
وأوضح ترانغولاس: "نحن نتحدث عن اتضاح الرؤية لمسافة تقل عن 5 إلى 10 سنتيمترات لأنَّ المياه موحلة وملوثة جداً ومليئة بالمواد الكيميائية".
ويقضي ترانغولاس "كل لحظة يقظة" في الإشراف على عملية البحث في البحيرات. ويقول: "أيام السبت والأحد والعطلات وأيام الأعياد نقضيها هنا، ومثل أي شخص آخر نشعر بالصدمة أيضاً".
وأضاف: "نحن محترفون لكننا ذرفنا دموعاً، ووصلت المشاعر لذروتها حين طفت الحقائب إلى السطح، ورأينا ما رأينا".