ذهبت المحررة في صحيفة Guardian B2B البريطانية، للقاء ريتش لي واحتساء القهوة بصحبته في مدينة غلوشستر يوم الجمعة، وهو يوم عطلته. وهو يوم عطلة لجميع العاملين في شركته في الواقع، لأن شركة Radioactive PR، وهي الشركة التي يترأسها لي، الذي يبلغ من العمر 30 عاماً، تبنَّت نظام العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع.
شركات بريطانية تتحول إلى 4 أيام عمل
تعد الشركة واحدة من حفنة من الشركات في المملكة المتحدة التي تتبنى هذا النظام: ولا يزال الموظفون يتقاضون نفس رواتبهم السابقة التي كانوا يتقاضونها نظير العمل لمدة خمسة أيام، ولكنهم أصبحوا يعملون لمدة أربعة أيام فحسب، بحسب ما ذكرت صحيفة The Guardian البريطانية.
بدأت الشركة بتجربة هذا النظام لمدة ستة أسابيع ووجدوا أنهم أنجزوا نفس القدر من العمل، بل وهناك مؤشرات على النمو.
يقول لي إن مفتاح نجاح المشروع هو مدى سعادة موظفيه في الوقت الحالي. يقول: "هناك طريقتان لجني المال في مجال عملي، الاحتفاظ بالعملاء والحصول على عملاء جدد. ولا يمكن للموظفين البائسين والمرهقين القيام بأي منهما".
حل جيد لمشكلة نقص الإنتاجية
ويروج البعض لفكرة أن العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع باعتباره الحل لـ"مشكلة الإنتاجية" في بريطانيا. يعمل البريطانيون أطول عدد من الساعات في أوروبا: يأخذ الموظف البريطاني العادي استراحة غداء لمدة 34 دقيقة فقط ويعمل 10 ساعات عمل إضافي كل أسبوع (وعلى الأغلب يكون عملاً غير مدفوع الأجر).
ومع ذلك، تتراجع الإنتاجية في المملكة المتحدة بشكل خطير بالمقارنة مع جيراننا الأوروبيين، الذين يعملون لمدة عدد أقل من الساعات. وأصبح من غير القانوني في فرنسا مؤخراً أن يُضطر الموظفون إلى الرد على رسائل البريد الإلكتروني خارج ساعات العمل، والموظف الفرنسي العادي ينتج بحلول نهاية يوم الخميس أكثر مما ينتجه نظيره في المملكة المتحدة خلال أسبوع كامل.
ممارسات العمل التقليدية تؤثر سلباً على الموظفين
لقد أثَّرت ممارسات العمل البريطانية على صحة المواطنين وسعادتهم. وقد أُوقف أكثر من نصف مليون موظف في المملكة المتحدة عن العمل العام الماضي بسبب الإجهاد أو القلق المرتبطين بالعمل. وهذا العدد يساوي 12.5 مليون يوم عمل، وبينما يصعب تحديد التكلفة المالية لهذا الأمر، فهناك دراسة أجريت عام 2014 قدَّرت تلك التكلفة بنحو 4.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
علاوة على ذلك، فإن طبيعة العمل نفسها تتغير. إذ سيؤثر العمل الآلي والذكاء الاصطناعي تأثيراً كبيراً على سوق العمل، بينما تصبح فرص العمل المحفوف بالمخاطر هي الأكثر شيوعاً.
يحدد المبدأ التوجيهي الخاص بساعات العمل في الاتحاد الأوروبي 48 ساعة عمل في الأسبوع. وبريطانيا هي العضو الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي يسمح للموظفين بمخالفة هذا المبدأ والعمل لساعات أطول، وهي ممارسة قالت عنها نقابات العمال إنها ليست سوى "إساءة معاملة على نطاق واسع".
حان وقت التغيير
وبالنسبة إلى الناشطين، فقد حان الآن وقت التغيير. إذ إنَّ هناك فرصة وحاجة لذلك، فيما يتعلق بالصحة والسعادة والأعمال التجارية. ومن بين الذين دعوا إلى العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع، حزب الخضر البريطاني وفرانسيس أوغرادي، السكرتيرة العامة لمؤتمر النقابات.
تُحاجج أوغرادي بأنّ الشركات التي تمكنت من زيادة أرباحها نتيجة لاستخدام الآلات، يجب أن تقاسم هذا النجاح مع الموظفين في شكل تخفيض ساعات العمل. إذ تقول: "لقد حان الوقت لمشاركة الثروة المكتسبة من التكنولوجيا الجديدة، وعدم السماح لمن هم في القمة بالاستيلاء عليها لأنفسهم".
وفي شركة Radioactive، يقول لي إنّ التحول إلى نظام العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع كان بسيطاً إلى درجة مدهشة، على الرغم من وجود بعض التضحيات: مثل تقليل مدة استراحة الغداء لتصبح 45 دقيقة والإجازة السنوية بنسبة 20%.
بالنسبة لأنغراد بلانيلز، التي تعمل في شركة Radioactive، فإن النظام الجديد جعل من السهل عليها الاستعداد لولادة طفلها الأول. "قد يقول البعض إنّ العمل لمدة أربعة أيام يعني إنجاز كافة مهام العمل في وقت أقل، ولكن الشركة عينت بعض الموظفين الجدد للحفاظ على المستوى المنخفض من الإجهاد. وعلى أي حال، ما دمت تحصل على النتائج المطلوبة، فماذا يهم؟".
النساء أكثر استفادة
ويعتقد البعض أنَّ العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع سيكون له أبلغ الأثر على النساء بصفة خاصة، بالنظر إلى مسؤوليات الرعاية والعمل المنزلي غير المدفوع الأجر التي تضطلع بهما النساء غالباً. وعلى الأقل، سيوفر هذا النظام يوماً مدفوع الأجر للعناية بالأطفال. تقول بلانيلز: "لقد قلل هذا النظام شعوري بالتوتر من مسألة عودتي إلى العمل بعد إجازة الوضع".
هل تستطيعين العودة إلى نظام العمل خمسة أيام في الأسبوع؟ تجيب قائلة: "بصراحة، لا أعتقد أنني أستطيع ذلك. هل أخبرتك عن الأعداد الكبيرة من السير الذاتية التي تلقيناها منذ أن اكتشف الناس أننا نعمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع"؟
ساعات عمل أقل.. تجربة رائعة
إن العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع لا يعني العمل لمدة 40 ساعة على مدار أربعة أيام، مثلما لا يعني اتباع نظام النوبات. ولكنه يعني العمل لمدة تتراوح من 28 إلى 32 ساعة في الأسبوع، ولكن لقاء نفس الأجر عن العمل بدوام كامل لمدة 35 إلى 40 ساعة في الأسبوع.
في إدنبرة، عاصمة إسكتلندا، يعمل الموظفون في شركة Administrate للتكنولوجيا لمدة أربعة أيام في الأسبوع كذلك، رغم أن الشركة تظل مفتوحة خمسة أيام، إذ يعمل بعض الأشخاص من الإثنين إلى الخميس بينما يعمل آخرون من يوم الثلاثاء إلى يوم الجمعة.
وقد أدخلت شركة Administrate نظام العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع عام 2015. يقول جون بيبلز، الرئيس التنفيذي للشركة: "لقد كانت تجربة، أردنا أن نعرف: هل سنحقق أرباحاً مادية أعلى إذا استثمرنا في موظفينا، مما نحققه عند إنفاق أقل قدر من المال"؟
وقد عوَّضت الكفاءة ساعات العمل المفقودة. يقول بيبلز: "في الكثير من شركات التكنولوجيا، يُهدر الوقت في الاجتماعات المطولة، أو شرب البيرة في الساعة الأخيرة من العمل. ولكن ماذا لو عملنا بجد لمدة 32 ساعة في الأسبوع ولم نتوقف عن العمل مطلقاً"؟ تحرص شركة Administrate على عقد اجتماعات قصيرة وتشجيع تقوية الروابط بين أفراد فريق العمل في أماكن محددة (على سبيل المثال، يجتمع أفراد الفريق بانتظام لتناول طعام الغداء معاً).
لكن النظام الجديد لم يقنع الجميع
تتفق أغلب الأدلة العلمية على أن ساعات العمل القليلة تزيد من إنتاجيتنا. لكنّ فكرة العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع لم تُقنع الجميع. ومن هؤلاء، مارك برايس، الذي عمل مديراً إدارياً لشركة Waitrose ونائباً لمدير شركة John Lewis Partnership، وشغل منصب وزير التجارة والاستثمار في عهد ديفيد كاميرون.
لا يعتقد برايس أنّه يمكن إدخال نظام العمل لمدة أربعة أيام في الأسبوع إلى القطاع العام، حيث تعمل العديد من الوظائف بنظام النوبات التي تغطي أيام الأسبوع بأكمله. ويقول: "إذا كان على كل شخص في القطاع العام أن يعمل 28 ساعة في الأسبوع بدلاً من 35 ساعة، فسوف يتعين عليك زيادة فاتورة الأجور بنسبة 20٪ لتغطية ذلك. مما يعني أن ترتفع الضرائب. ولا أتوقع أن هناك رغبة كبيرة لذلك".
وما يقلق برايس كذلك هو الشعور السائد وراء تلك الخطوة، والذي يقول إنه، عند البعض، "ممارسة العمل لمدة أقل تعني أنه ليس جيداً". ويشير إلى عبارة "التوازن بين العمل والحياة"، والتي تعني "ضمنياً أن الحياة لا تتمثل في العمل"، ويحاجج بأنه بدلاً من التركيز على كمية العمل الذي نقوم به، علينا أن نركز على جودته.
يقول: "يجب أن نفكر في شعور السعادة والانشغال في مكان العمل، أعلم أنّ هناك الكثير من العمل الممل الروتيني الذي سيكون من الرائع أن تتولاه أجهزة الحاسب. ولكن تتبقى الأعمال الأخرى المشجِّعة، والسؤال هو كيف نوفر هذه النوعية من الوظائف في المستقبل".
النظام الجديد يثير تساؤلات جوهرية
ولكن في لُبّ هذه المناقشة تكمن بعض الأسئلة المعقدة: ما هو العمل؟ هل هناك فرق بين العمل الجيد والعمل السيئ، ولماذا يتقاضى من يعملون في بعض المجالات أجوراً جيدة، بينما يتقاضى العاملون في مجال آخر أجوراً أقل؟ تزداد المسافات بين مقار أعمال الناس ومنازلهم في المملكة المتحدة بسبب ارتفاع أسعار المنازل في مراكز المدن، وأصبح من الشائع بشكل متزايد أن يجيب الناس على رسائل البريد الإلكتروني أثناء وجودهم في وسائل المواصلات التي تقلهم إلى العمل. هل يجب احتساب هذا الوقت ضمن مجموع ساعات العمل؟
أيدن هاربر هو مؤسس حملة 4 Day Week (أربعة أيام عمل في الأسبوع). وهو يرنو إلى أن يعمل جميع الموظفين في العالم عدداً أقل من الأيام في الأسبوع، سواء بفرض تشريع أو من خلال المفاوضات النقابية.
بين المقصر والمثقل بالعمل
يقول هاربر: "في المملكة المتحدة، لدينا أعداد متزايدة من الأشخاص المثقلين بالعمل، لكنْ لدينا أيضاً أعداد متزايدة من الأشخاص المقصرين في العمل، أي أولئك الموظفون الذين يشكلون عبئاً على الاقتصاد. لذا فإن السؤال المطروح هو ما إذا كان من الممكن أن يساعد إعادة توزيع زمن، وحجم العمل، في التغلب على ذلك".
ويضيف: "وهناك سؤال أكبر حول ما هو الغرض من الاقتصاد. من المؤكد أن الغرض من الاقتصاد هو توفير حياة كريمة، وتوفير أساس مادي يمكنّك من إيجاد مسكن، والحصول على تعليم وما إلى ذلك. ولكن هناك شيئاً لا يوفره لنا اقتصادنا وهو الوقت وهذا ما نحتاجه. ينبغي ألا تكون المرحلة التالية في التنمية الاقتصادية هي توليد المزيد من العمل، ولكن تهيئة الظروف التي توفر لنا حياة كريمة".
يشير هاربر إلى الدور الذي يؤديه الناشطون والموظفون العاديون في الدفع من أجل التغيير الإيجابي. كان نظام العمل لمدة خمسة أيام في الأسبوع في حد ذاته نتاج المفاوضات التي أجرتها النقابات في أوائل القرن العشرين، بعد أن لاحظوا التقدم التكنولوجي في المصانع، تفاوضوا على ضرورة وجود عطلة رسمية في نهاية الأسبوع بدلاً من الاكتفاء بعطلة يوم الأحد.
هل حان الوقت لإعادة التقييم؟
بالنسبة لبيبلز، فإن الوقت مناسب لإعادة التقييم. إذ يقول: "يختلف النشاط التجاري اليوم عما كان عليه قبل 30 عاماً، عندما لم أكن قادراً على إرسال رسالة بريد إلكتروني، أو أن أتسوق عبر الإنترنت، وأستخدم الفاكس. لماذا مازلنا نعمل بنفس الطريقة إذن؟
في غلوشستر، يحرص لي على الانتهاء من عمله مبكراً والاستمتاع ببقية يومه. يقول لي: "معظم الشركات في المملكة المتحدة مثل شركتي، صغيرة إلى حد ما، يعمل بها من واحد إلى 10 موظفين وتعمل في مجال الخدمات. لذلك جُلّ ما أردت قوله هو: لمَ لا نجرب هذا النظام"؟