خارج ورشة متهالكة غارقة في نشارة الخشب، يشكِّل فاروق بهلوان مروحة سفن نحاسية، منكفئاً عليها من أجل إضفاء التعديلات الصغيرة النهائية، إنه واحد من آخر صناع القوارب في سوريا.
يتوقف بهلوان كل بضع دقائق من أجل تدوير المعدن، ويضيِّق عينيه ليرى أين ستتوقف المروحة في النهاية.
وحين تتوقف الشفرة المحفور عليها رقم ثلاثة في المكان نفسه الذي بدأت منه، يعني هذا أن المروحة صارت متوازنة تماماً وجاهزة لتركيبها في قاربٍ من قواربه، حسب ما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
خرج من رحم أمه يصنع القوارب
"طوال حياتي، منذ كنتُ صبياً، أصنع القوارب هنا"، هكذا يقول بهلوان.
وداعبه ابن أخيه محمد بهلوان، بينما يثبت سطحاً مصبوغاً على الهيكل المضلع لقاربٍ آخر، قائلاً إن فاروق خرج من رحم أمه يصنع القوارب.
ثم أشار محمد بيديه إلى صفِّ من المنازل المتواضعة المدهونة بالأبيض، حيثُ يعيش كلاهما، في جزيرة أرواد السورية.
إنهم يعيشون في الجزيرة الوحيدة المأهولة في سوريا التي كان يحيطها يوماً جدار فينيقي
هذه المساحة الصغيرة من ساحل جزيرة أرواد، الجزيرة الوحيدة المأهولة بالسكان في سوريا، هي حوضٌ لبناء السفن، توجد فيه سفنٌ خشبية في مراحل متنوعة من البناء.
يتردد في كل يوم صدى طَرق الحبال القطنية بين ألواح العوارض الخشبية في أرجاء الجزيرة الصغيرة، إلى جانب صياح الأطفال المحبين للبحر في لعبهم.
إذ يقفزون من فوق بقايا الجدار البحري الفينيقي الذي يزعم السكان المحليون أنه كان يحيط بالجزيرة في الماضي.
ولا يوجد سيارات في أرواد ولكنها تصنع سفناً حديثة
وجزيرة أرواد، التي تبلغ مساحتها أقل من ميلٍ مربع (2.59 كيلومتر مربع)، بلا سيارات وبحفنةٍ من الدراجات البخارية، هي وجهة لرحلاتٍ تستمر يوماً واحداً يقطعها السياح السوريون ممَّن يزورون مدينة طرطوس الساحلية.
من النظرة الأولى، يبدو الأسطول الأبيض من السفن السياحية في ميناء طرطوس -التي يرفع كلٌّ منها العلم السوري- مؤلفاً من سفنٍ حديثة، لكن كلها مصنوعة على جزيرة أرواد من الخشب، وباستخدام وسائل تقليدية في معظمها.
يمارسون الحرفة منذ قرن، ولكنهم صاروا آخر صناع القوارب في سوريا
وتُعد عائلة بهلوان الممتدة، التي تصنع القوارب منذ أكثر من قرن، هي آخر عائلات أرواد المستمرة في صنع القوارب الخشبية، فهم آخر صناع القوارب في سوريا.
إذ كانت معظم العائلات على الجزيرة من صناع القوارب قبل 70 عاماً، لكنَّ تراجع القوارب الخشبية في صناعة السفن جعل عدداً أقل من سكان الجزيرة يعلِّمون أبناءهم مهاراتهم العريقة.
وشرح محمد ذلك قائلاً: "قبل عام 1950، كنَّا نصنع هنا قوارب ضخمة بالكامل بأيدينا، دون كهرباء.
فقد جاءت القوارب الحديدية
لكنَّ القوارب الحديدية صارت منتشرة، وقلَّ الطلب على القوارب الخشبية وتغيَّر كل شيء، حسبما يقول محمد.
إذ توقفت العائلات الأخرى عن تعليم أولادها مهاراتها العريقة، وبدأ بناء القوارب يحتضر هنا.
لكنَّ عائلة بهلوان هم من آخر صناع القوارب في سوريا.
"ومن أسباب ذلك أننا لطالما اشتهرنا ببناء القوارب الأفضل والأقوى"، حسب محمد.
وهم يضطرون إلى العمل في مهن أخرى ولكن لا يبتعدون عن البحر
لأعوامٍ عديدة، لم تقدم صناعة القوارب مصدر دخلٍ مستدام لكثيرين.
لذا يعمل الكثير من أبناء عائلة بهلوان في مهنٍ عادية في البحر، غالباً على سفن الحاويات أو في البحرية السورية، ويعملون على صنع القوارب الخشبية في إجازاتهم على الشاطئ.
ويظل الطلب على قوارب أرواد الخشبية متواضعاً، لكنَّ عائلة بهلوان يكون لديها في أي وقتٍ بين 18 إلى 20 قارباً قيد الصنع.
والحرب الأهلية السورية بريئة من أزمتهم
الانخفاض في الطلب مؤخراً لا علاقة له بالحرب الأهلية الدائرة في سوريا، بقدر ما هو مرتبط بالتلوث الذي أدى إلى انخفاض كبيرٍ في المخزون السمكي بالمياه المحلية.
إذ قال محمد: "لا نعمل بالمعدل نفسه الذي كنا نعمل به منذ 10 أعوامٍ أو 15 عاماً مضت.
فالناس على ساحلنا يحبون الصيد، وكل شابٍّ كان يرغب في قاربٍ، لكنَّ هذا تغير لأن هناك القليل من الأسماك هنا الآن، وليس الأمر كالسابق، وتراجع الصيد تراجعاً هائلاً".
فالمتفجرات هي التي قضت على الأسماك في البحر
يعزو محمد نقص المخزون السمكي إلى التلوث، ومياه الصرف الصحي، والمواد الكيميائية المستخدمة في معالجة المياه، والنفايات الكيميائية من المصانع على البر.
ولكن الأسوأ هو الاستخدام المتزايد للمتفجرات في الصيد.
فهذه الوسيلة المدمرة المتمثلة في إلقاء قنابل يدوية الصنع في البحر تقتل كل ما في مداها، من أجل زيادة الأسماك في عملية الصيد، قد أصبحت رائجة في عدة بلدان في إفريقيا والشرق الأوسط.
وفي هذه الأسواق تُباع سفنهم بأضعاف ثمنها في سوريا
مازال آخر صناع القوارب في سوريا يجدون زبائن رغم كل هذه المشكلات.
تظل السوق الرئيسية لقوارب أرواد هي الساحل السوري، حيث تُباع القوارب الأصغر بالتجزئة بسعر 5 آلاف دولار تقريباً.
لكنَّ الكثير منها يذهب إلى لبنان، وحفنة منها إلى أوروبا. والأسعار الدولية تزيد على ضعف الأسعار المحلية، إذ تتضمن ضرائب التصدير، ونسبةً من المبيعات تذهب إلى الحكومة السورية.
وقال محمد: "نبيع القارب في لبنان مقابل 9 آلاف دولار، ويبيعه المشتري بنحو 15 ألف دولار، ونبيع أيضاً في المعتاد القوارب لقبرص مقابل 10 آلاف دولار، وهو مازال سعراً منخفضاً جداً بالنسبة لهم".
وأغلى قاربٍ صنعته عائلة بهلوان مؤخراً كان مركبة طولها 14 متراً، بكابينة مبطنة بالخشب ومطبخٍ وحمام، وبيعت مقابل 50 ألف دولار.
إنهم آخر من يصنع القوارب بهذه الطريقة التقليدية
برشاقةٍ يقفز محمد فوق آلات لقطع الخشب من سبعينات القرن الماضي، جالباً قطعة من الخشب، تشبه قوساً عملاقاً.
وهذا هو القالب الوحيد الذي يستخدمه صناع القوارب في أرواد، ويبنون عليه الضلع الأساسي من عارضة السفينة.
يقول محمد وهو يرسم علامات رشيقة باستخدام القلم الرصاص: "هذا قالبنا الوحيد، ويمكن استخدامه في أي مركبة بأي حجم، وبه نقيس المسافات والمواضع وأعداد المسامير".
وأكمل محمد وهو ينقر طرف رأسه ليظهر مخزن مخططات القوارب، إن باقي أجزاء القوارب تُصنع بالمقاربة بالنظر، والمهارات والمعرفة المنقولة عبر أجيال من صناع القوارب في أرواد.
ولا تنتج الجزيرة قارباً مماثلاً للآخر.
ويُضيف محمد: "نحن من بين آخر صناع القوارب الذين يعملون بهذه الطريقة في العالم بأسره. صحيحٌ أنَّ لبنان يصنع قوارب خشبية مشابهة، لكنَّ صناعها لديهم قوالب لكل جزءٍ من أجزاء المركبة، ويعجزون عن بناء القوارب دونها.
وهم يعيشون في عزلة فكهرباء الدولة وصلتهم عام 2000
وقد تسبَّب موقع أرواد، التي تبعد ميلين (3.22 كيلومتر) عن البر السوري بمحاذاة مساحةٍ متعرجة من البحر الأبيض المتوسط، في إبعادها عن موجة الحداثة.
فمع أنَّ المولدات الكهربية وصلت الجزيرة في عام 1964، ظلَّ سكان الجزيرة يفعلون كل شيء بأيديهم حتى عام 1970.
ولم تُزوَّد جزيرة أرواد بالكهرباء من البر السوري حتى عام 2000.
ويبدو أن آخر صناع القوارب في سوريا يفضلون هذه العزلة.
وهكذا نجحوا في تخطي العقوبات التي فُرضت لأسباب ليس لهم علاقة بها
"إن عملت وحدي دون أي تشتيت، يمكنني بناء قارب من البداية إلى النهاية في أربعة أشهر"، هكذا يقول فاروق.
ويضيف: محركات Lister البريطانية هي الأفضل، لكن في سوريا هناك القليل جداً من المحركات البريطانية، لذا نعتمد اعتماداً رئيسياً على محركات Volvo السويدية أو Yamaha اليابانية.
وأردف قائلاً "كان الوضع أفضل سابقاً، حين كان يمكننا جلب المزيد من المحركات البريطانية".
فالعقوبات الغربية، التي فرضت قبل سبعة أعوام على النظام السوري تعرقل حياة المواطن السوري العادي.
إذ تحظر تصدير منتجات أوروبية إلى سوريا.
لكنَّ الشعب السوري واسع الحيلة مجتهد بطبعه، حسب وصف تقرير الموقع البريطاني.
ولذا لديه طرق للالتفاف حول أي عقبة للوصول إلى ما ينقصه، بدءا من ألواح الشيكولاتة المقلدة إلى أكواد اختراق تطبيقات الهواتف المحجوبة التي لا يعمل أغلبها في سوريا. وليس آخر صناع القوارب في سوريا باستثناء من هذا، فهم يحصلون على مستلزماتهم الناقصة بطرق عدة.
ويشرح فردٌ آخر من عائلة بهلوان لم يكشف عن اسمه مايفعلونه قائلاً: "لقد رفضت أوروبا شحن أي شيء إلى سوريا منذ اندلاع الحرب، لذا نطلب أجزاء القوارب والأغراض الأخرى التي نحتاج إليها على أنَّها متجهة إلى بيروت.
وحين تصل الشحنة إلى المياه اللبنانية، تُرسل مباشرة إلينا. وأضاف أنَّ أرواد مكانٌ في البحر، لا تنطبق عليه قواعد "البر".
وقد شيدوا سفينة فينيقية، فهم ورثتهم المباشرون
مع أن مساحة أرواد لا تتجاوز كيلومترين، تحظى بتاريخٍ غني. إذ كانت في السابق مركزاً بحرياً قوياً للفينيقيين.
وذُكِر بحارة الجزيرة في الإنجيل، وسيطرت عليها قوى إقليمية متعددة على مر التاريخ، من بينهم الصليبيون، إذ كانت أرواد من آخر معاقلهم في الشرق الأوسط.
وعاش الفينيقيون في المناطق الساحلية من لبنان وسوريا المعاصرة وأجزاء أخرى من البحر المتوسط بين عام 1500 قبل الميلاد و300 قبل الميلاد.
سفينة "فينيقيا" ترسو في ميناء طرطوس بعد سنتين من انطلاق رحلتهاوصلت سفينة فينيقيا يوم السبت إلى ميناء طرطوس بعد نحو…
Gepostet von شباب صبايا جزيرة ارواد am Samstag, 3. August 2013
وبين عامي 2007 و2008، وظَّف البريطاني فيليب بيل -مدير صندوق City سابقاً- آخر صناع قوارب في سوريا هؤلاء، لصنع نسخةٍ من مركبة فينيقية لحساب مشروعٍ يقوده.
وقد أبحر فيليب بيل بالسفينة مسافة 20 ألف ميل (32.19 كيلومتر) في أنحاء إفريقيا.
وبُنِيَت المركبة التي حملت اسم فينيقيا وكانت أحادية الشراع بطولٍ بلغ 20 متراً ووزنٍ بلغ 50 طناً، وفقاً لتصميماتٍ مستمدة من حطام المركبات الفينيقية والحفريات.
الرئيس بشار ممتاز، ولكن المشكلة في المجلس المحلي لطرطوس
هذا الجزء من سوريا، رغم بعده عن الحرب الأهلية الدائرة، لم يكُن أبداً خارج سيطرة الحكومة السورية، ويظل تأثيرها ظاهراً في سياق حياة الجزيرة اليومية.
يقف وليد، مالك مقهى يبلغ من العمر 42 عاماً، بفخر من أجل التقاط صورة أمام لافتة للرئيس بشار الأسد تزين الحوائط الصفراء لمقهاه الذي امتلكه لسبعة أعوام.
وقال وليد مقبلاً أنامل يديه "بشار ممتاز. لقد كان الوضع في سوريا صعباً جداً في الأعوام السبعة الأخيرة، لكنَّه يتحسن باستمرار الآن، وستنتهي الحرب إن شاء الله بعد شهرين".
لكنَّ بعض سكان أرواد يشعرون بالانفصال عن البر السوري، ويقولون إنهم مختلفون عن السوريين الآخرين، بل يتحدثون لهجةً مختلفة أقرب إلى اللبنانية.
وأشار أحد الرجال إلى الكميات الكبيرة من القمامة المصطفة على شواطئ الجزيرة، قائلاً إنها نتيجة النزاع المستمر مع مجلس طرطوس المحلي.
وتقع مدينة طرطوس، التي تضم قاعدة بحرية روسية،في غرب البلاد على الساحل السوري، وهي مدينة مجاورة لمحافظة اللاذقية التي تنحدر عائلة الأسد منها، وتعد المعقل الأبرز للطائفة العلوية، وقد بقيت المنطقة بمنأى عن الدمار الذي شهدته باقي المدن السورية.
وقال محمد: "لا مشكلة لدينا مع الحكومة السورية ونؤدي واجبنا الوطني، لكن يجب أن نكون أحراراً. نحن نعمل باجتهاد، لكننا أبناء البحر، ولا نقدر على الحياة أو العمل على البر مدةً طويلة. أنا كالسمكة، أختنق إن لم يحيطني البحر من كل جانب"، فهم القوم الذين يفخرون بأنهم آخر صناع القوارب في سوريا.