ينفض أنثوني مانتشينيللي منشفة حلاقة مرحباً بزبونه التالي، فيُجلسه على كرسي الحلاقة في محله Fantastic Cuts، الصالون الكائن في مركز تجاري لا اسم له على بُعد ساعة بالسيارة شمال مدينة نيويورك.
يجلس جون أورورك على الكرسي ويقول لمانتشينيللي: "القصة المعتادة يا صاحبي" فيما يتناول معلم الحلاقة مقصاً ويبدأ بقص طبقات شعر زبونه.
يقول أورورك ذو الـ56 عاماً، من نيويورك: "لا أدَعُ أحداً غيره يلمس شعري، فهذا الرجل يعمل في الحلاقة منذ قرن" .
بدأ بالحلاقة منذ كان عمره 11 عاماً
الواقع أن أورورك بالغ قليلاً في تعبيره، فقد زاد من خبرة مانتشينيللي 3 سنوات. فمانتشينيللي بلغ 107 وهو في هذه المهنة منذ كان يبلغ 11 عاماً من العمر، أيام كان وورن هاردينغ في البيت الأبيض، وما زال مانتشينيللي يعمل بدوام كامل مدة 5 أيام في الأسبوع، يبدأ في الـ12 ظهراً ولا ينتهي قبل 8 مساء، بحسب ما ذكرت صحيفة The New York Times الأميركية.
ودخل موسوعة غينيس كأكبر حلاق
في عام 2007 عندما لم يكن قد تجاوز الـ97 من العمر، كرمته مؤسسة غينيس للأرقام القياسية بإقراره أكبر حلاق في العالم على رأس عمله عمراً، ومن حينها والثناء يتوالى وينهال من كل جانب: من المجموعات المدنية المحلية ومن المسؤولين المنتخبين، ومن شركات الحلاقة، كل هؤلاء يباركون له على الـ100 عام، والـ101، والـ102، وهلمّ جراً.
ويستمر مانتشينيللي في جعل كل تلك الجوائز تتقادم.
عصر ذات يوم كانت مكبرات صوت الموسيقى تصدح في المحل بلحن هيب هوب، فقال أورورك مازحاً: "إنه معتاد على جهاز الحاكي الصوتي".
ومانتشينيللي ذو قوام ممشوق ويد ثابتة وله رأس ملأه الشعر الأبيض كالثلج. يقضي معظم نهاره واقفاً على قدميه منتعلاً حذاءه الأسود الجلدي المهترئ القديم.
بعض الزبائن يرتعبون عندما يعرفون سِنّه
تقول جين دينيزا صاحبة المحل: "يدخل الزبائن علينا ويرتعبون عندما يكتشفون عمره".
وتمضي فتقول: "لا يتغيب عن العمل لمرض أبداً. لديَّ شباب يعانون مشاكل في الركبة والظهر، أما هو فيمضي ويستمر، وينجز من قصات الشعر عدداً يفوق ما ينجزه شاب في الـ20، فالشبان يجلسون ويحملقون في هواتفهم، يكتبون رسائل أو ما شابه، أما هو فدائماً على رأس عمله".
وعندما سألناه السؤال الذي سُئل للمرة المليون عن عمره الطويل، ما كان جوابه إلا أنه على الدوام يقدم عملاً مُرضياً في يومه، وأنه لم يدخن قط أو يفرط في الشرب.
بيد أنه يخبرنا أن طول العمر ليس صفة تجري في عروق العائلة مجرى الدم، كما أنه لم يكن قط من عشاق الرياضة والتمارين، أما عن نظامه الغذائي فيقول: "أتناول السباغيتي الرفيعة كي لا أسمن".
وما زالت أسنان مانتشينيللي تزيّن فمه كلها، ولا يتناول أي دواء يومياً، كما أنه لم يحتج يوماً لنظارة، ويداه اللتان يقص بهما شعر الزبائن ما زالتا ثابتتين قويتين.
حتى الطبيب عجز عن فك لغزه
يقول لنا: "أذهب إلى الطبيب فقط؛ لأن الناس يخبرونني بضرورة ذلك، ولكن حتى الطبيب عجز عن فك لغزي، فأنا أقول له إنني لا أعاني آلاماً ولا أوجاعاً ولا شيء أبداً. أبداً ما من شيء يؤلمني".
من أحد الأسباب التي تدفعه للاستمرار في العمل، حسبما قال، أن العمل يساعده على الانشغال والتفاؤل والحيوية بعد وفاة زوجته كارميلا عن عمر ناهز 70 عاماً منذ 14 سنة. وهو يزور قبرها كل يوم قبل دوام العمل.
يعيش مانتشينيللي وحيداً مسافة لا تبعد كثيراً عن صالون الحلاقة في نيو ويندسور. يقود سيارته إلى العمل، ويطبخ لنفسه ويشاهد التلفزيون، وهو من أشد متابعي المصارعة الحرة، وهو عصامي جداً يعتمد على نفسه، ولا يطلب أي مساعدة عندما يشذب الشجيرات التي أمام فناء بيته.
ابنه بوب مانتشينييلي له من العمر 81 عاماً. يقول عن أبيه: "إنه حتى لا يسمح لأحد أن يكنس الشعر الذي قصه" ويخبرنا أيضاً أن أباه يقص شعره هو.
وتقول السيدة دينيزا: "يتسوق بنفسه، ويغسل ثيابه بنفسه، ويدفع فواتيره لنفسه. أمر جنوني، إنه حاضر الذهن وفي خير حال".
وتأقلم مع اختلاف موديلات القصات على مر السنين
وتكمل قائلة: "نسمع كل البشر يتساءلون أي دواء آخذ؟ أي كريم من مستحضرات مضادات التجاعيد أستعمل؟ أما هو فماضٍ في طريقه دون أي من هذه الأشياء".
ومع تغيّر قصات الشعر عبر عقود من الزمن تأقلم مانتشينيللي وتكّيف. يقول: "أقصها كلها، شعر طويل، شعر قصير، أيما كانت الموضة. شعر منكوش كثّ، أو مثل Buster Brown، أو غرة شعر مستقيمة، أو شعر أجعد".
بعض زبائنه لم ينقطعوا عن الحلاقة عنده طيلة أكثر من 50 عاماً، قص لهم فيها شعرَهم مئات المرات.
يقول مانتشينيللي: "لديَّ زبائن قصصت شعرهم وشعر آبائهم وأجدادهم وآباء أجدادهم، أي 4 أجيال". جدير بالذكر أن مانتشينيللي نفسه لديه 6 أحفاد لأحفاده.
يقول ابنه بوب مانتيشنيللي: "بعض زبائنه الطاعنين سناً يساعدهم في كرسيهم، ويقول لابن الـ80 منهم: (اسمع، عندما تصبح في سني…) وهم يولعون بسماعه يتحدث هكذا".
أحد زبائنه عمره 20 عاماً
جين سوليفان حلاقة تعمل على الكرسي المجاور لكرسي مانتشينيللي، لا تتجاوز من العمر 20 عاماً.
تقول: "مذهل حقاً إنه ما زال يعمل بدوام كامل. أيام نهاية الأسبوع تكون منهكة حتى الجنون أحياناً، فحتى أنا أهلك من الوقوف على قدمي، أما هو فيستمر".
يقول مانتشينيللي إنه من مواليد 1911 قرب نابولي الإيطالية، وإنه هاجر وعائلته عندما كان في الـ8 من العمر؛ ليلتحقوا بقريب لهم في نيوبيرغ بنيويورك. كان هو أحد 8 إخوة، "لم يبقَ منهم سواي" وقد بدأ بمزاولة العمل بعمر الـ11 في محل حلاقة قريب، ومع بلوغه 12 عاماً صار حلاقاً ماهراً وترك المدرسة الثانوية ليتفرغ للحلاقة تفرغاً تاماً.
يقول إن قَصَّة الشعر في تلك الأيام كانت لا تكلف إلا 25 سنتاً، أما الآن فقَصَّة الشعر من أنامل المعلم مانتشينيللي تكلف 19 دولاراً أميركياً.
لكنه ما عاد يمارس الأساليب والتقنيات الطبية التي تعلمها قديماً من الحلاقين القدامى ككيّ الدمامل والحجامة بكؤوس الهواء المسخنة واستعمال العلق طبياً لامتصاص الانتفاخات المتورمة وعلاج ارتفاع ضغط الدم.
يحتفظ في أحد أدراج الصالون "تحسباً لانقطاع الكهرباء" بمقص يدوي كان يستخدمه قبل اختراع ماكينات الحلاقة الكهربائية.
ويقع الاختيار دائماً على مانتشينيللي لمنصب القائد الأكبر (غراند مارشال) في الاحتفال السنوي بالمحاربين القدماء في بلدة نيو ويندسور، حيث هو دوماً المرشح المفضل لتكريم جهوده الحربية؛ لأنه جندي مخضرم قاتل في الحرب العالمية الثانية، وهو فخور بـ75 عاماً من العضوية في رابطة المحاربين القدماء التي ينتسب إليها ويشرب فيها مشروبه المفضل: الويسكي الحامض.
أما في عيد ميلاده، فيغلق الصالون أبوابه أمام الزبائن ويقيم حفلة يتبرع السوبر ماركت المحلي بطعامها وشرابها. أما بقية أيامه فتسير على نفس الروتين ولا يتخللها سوى استفسارات بعض الصحافيين الذين يبحثون عن هذا الحلاق ذي الأكثر من قرن من العمر.
التقارير الصحافية التي أشادت به ومدحت عمله جذبت أنظار وفضول الكثيرين إليه من كل أصقاع العالم الذين أتوه ليقصّ شعرهم، منهم الممثل بن جزارة الذي أتاه قبل 10 سنوات من مانهاتن بغية قَصَّة شعر، بعد توصية وتزكية من صديق، حسبما قال مانتشينيللي.
صاحبة الصالون، السيدة دينيزا، وظَّفت مانتشينيللي لديها قبل عدة سنوات بعدما عمد محل حلاقة آخر إلى تخفيض ساعات عمله. في البدء تغاضى موظف الاستقبال لديها عن طلب توظيفه بسبب العمر، لكن مانتشينيللي عاود التقدم للوظيفة من جديد وأدهش دينيزا بقدرته على قص الشعر.
تقول: "الآن أشعر أنني أنا من يعمل لديه، فأنا أتلقى ألف تليفون وتليفون من أناس يتصلون من كل أنحاء العالم، جميعهم سمعوا به ويودون زيارته".
الزبون التالي الذي يجلس على الكرسي هو زبون آخر مواظب على التردد إلى المحل، اسمه جو ميرفي وعمره 46 عاماً. يتذكر أنه قصّ شعره في عيد ميلاد مانتشينيللي الـ100 في محل عمله السابق.
يختم ميرفي بتذكّر تلك الذكرى، فيما مانتشينيللي يُنهي الحلاقة بمسح رقبته بالمنشفة وبـ "نعيماً"، "أراد الشباب في المحل أخذه إلى مكان به بنات احتفالاً بعيده، لكن أنثوني قال لهم: مستحيل، ماذا تحاولون أن تفعلوا؟ تريدون قتلي؟!".