يستعد العلماء حالياً لتطوير "نماذج أدمغة مصغرة" تمت هندستها جينياً بطريقة تجعلها تحتوي على الحمض النووي للإنسان البدائي، في محاولة غير مسبوقة لفهم ما الذي يجعل البشر يختلفون عن أقرب السلالات إليهم. وخلال الأشهر القليلة القادمة، سيتم تنشئة بقع صغيرة من النسيج الدماغي، المعروف باسم "المستنبتتات"، انطلاقاً من خلايا جذعية بشرية تم تعديلها لتحتوي على العديد من الجينات الخاصة بالإنسان البدائي حسب صحيفة The Guardian البريطانية.
والمستنبتتات Organoids هي بقع نسيجية صغيرة ثلاثية الأبعاد ذات تنظيم ذاتي مستمدة من الخلايا الجذعية. ويمكن توجيهها لإنتاج أنواع معينة من الخلايا أو عضو معين لكن هذه التقنيات ليست متقدمة حتى الآن، والخلايا الجذعية هي أصل الخلايا وهي خلايا غير متخصصة ولكن يمكنها أن تتمايز إلى خلايا متخصصة، مع تميزها بقدرتها على الانقسام لتجدد نفسها باستمرار، وتحاول الأبحاث الطبية الحديثة الاستفادة منها لعلاج الكثير من الأمراض مثل أمراض الكلى والكبد والجهاز العصبي.
نماذج الأدمغة المصغرة
في الحقيقة، لا تعتبر هذه الخلايا المخية، التي ستكون بحجم حبة العدس، قادرة على التفكير أو الإحساس، إلا أنها ستجسد البعض من الآليات الأساسية الموجودة في دماغ الإنسان البالغ. وسوف تبين للمرة الأولى ما إذا كانت هناك فوارق حقيقية بين التركيبة البيولوجية لدماغ الإنسان البدائي وتلك الخاصة بالإنسان الحديث.
يأمل علماء الجينات في أن المقارنة، بين بيولوجيا "إنسان ما قبل التاريخ" وبيولوجيا الإنسان الحديث، ستساعدهم على فهم ما يجعل الكائنات البشرية الحالية مميزة مقارنة بغيرها.
الإنسان البدائي نياندرتال لم يكن همجياً
الإنسان البدائي أو نياندرتال هو أحد أنواع جنس هومو الذي استوطن أوروبا وأجزاء من غرب آسيا وآسيا الوسطى. وتعود آثار نياندرتال البيئية التي وجدت في أوروبا لحوالي 350,000 سنة مضت.
وانقرض إنسان نياندرتال في أوروبا قبل حوالي 24,000 سنة مضت. وعاش أيضاً في الشرق الأوسط.
ويعتقد العلماء بأن أجسامهم القصيرة والممتلئة والقوية هي من أهم أسباب بقائهم في العصر الجليدي. وبمراجعة الأدوات المكتشفة معهم عرفوا بأنهم صيادون ماهرون ويتغذون على صيدهم في جماعات وفرق، واستطاع الإنسان البدائي الكلام لكن بطريقة مبسطة.
في هذا الصدد، أفاد البروفيسور، سفانتي بابو، ومدير قسم الدراسات الجينية في معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان التطوري في مدينة لايبزيغ الألمانية، الذي تجري فيه هذه التجارب حالياً، أن "الإنسان البدائي هو أقرب الأجناس إلى الإنسان الحديث. وإذا كنا نريد تعريف أنفسنا كمجموعة أو كفصيلة، فإن البدائيين هم من يجب علينا مقارنة أنفسنا بهم".
وكان البروفيسور بابو قد أشرف سابقاً على دراسة المجموع المورثي (الجينوم) للإنسان البدائي. وفي الوقت الحاضر، يركز مختبره على إعادة سمات الإنسان البدائي إلى الحياة، من خلال مجموعة من تقنيات التعديل الجيني المعقدة.
وفي وقت سابق، شهد هذا المختبر زرع جينات الإنسان البدائي الخاصة بتطور عظم القحف في أجسام فئران، كما تم أيضاً زرع الجينات الخاصة بالألم في بيض الضفادع، حتى تتم معرفة ما إذا كان الإنسان البدائي يمتلك قدرة مختلفة على تحمل الألم.
أما الآن، فيصب العلماء داخل هذا المختبر اهتمامهم على الدماغ البشري، حيث قال بابو: "في الوقت الراهن، نحن بصدد النظر فيما إذا كان بإمكاننا إيجاد فروق أساسية في كيفية عمل وظائف خلايا الأعصاب. وقد يشكل ما سنتوصل إليه حجر الأساس لفهم سبب الاختلاف العقلي للإنسان".
وتأتي هذه الأبحاث في وقت بدأت تتبدد فيه الاعتقادات السائدة بأن الإنسان البدائي كان همجياً وعدائياً، خاصة في ظل ظهور أدلة جديدة على أن ذلك الإنسان كان يقوم بدفن الموتى، ويمارس فن النحت في الكهوف، فضلاً عن أنه كان يمتلك دماغاً أكبر من دماغ الإنسان في الوقت الحالي.
لماذا افترقنا إذن؟
انقسم الإنسان الحديث وأسلافه البدائيون إلى خطيْن منفصليْن قبل حوالي 400 ألف سنة، حيث بقي أسلافنا في إفريقيا واتجه الإنسان البدائي نحو أوروبا. وتظهر الحفريات حدوث عملية هجرة ضخمة للإنسان الحديث خارج إفريقيا، قبل حوالي 60 ألف سنة، وهو ما أدى لالتقاء السلالتين وجهاً لوجه مرة أخرى.
وقد أدى اكتشاف أن الإنسان البدائي اختلط وتكاثر مع الإنسان الحديث، وأنه كان يمتلك دماغاً أكثر تطوراً مما ظننا، إلى الاعتقاد بأن السلالتين يجب دمجهما في جنس بشري واحد. ولكن البروفيسور بابو وعلماء آخرون لا يتفقون مع هذا الرأي، حيث قال: "نعم، هناك أدلة متزايدة على أن الإنسان البدائي، وخاصة في فترة نهاية تاريخه، أنجز بعض أنواع الفن. ولكن، بكل واقعية، أعتقد أنهم مارسوا بعض الفن، ولكنه لم يكن متطوراً ولا أرى فيه أي معنى".
واليوم، تغيب الأدلة التي تحيل إلى أن الإنسان البدائي خرج لاستكشاف محيطات العالم، وهو ما فعله الإنسان الحديث، قبل حوالي 100 ألف سنة على الأقل، وهي خطوة قد يكون لها ارتباط كبير بمميزاته العقلية وقدرته على ابتكار وصناعة القوارب.
شيفرة الحياة في الحمض النووي
في القبو، وتحت مكتب البروفيسور بابو، يعكف العلماء حالياً على استخراج الحمض النووي (وهو شيفرة الحياة) من حفريات إنسان وحيوان العصور القديمة، التي تم العثور عليها في مواقع جيولوجية في مختلف أنحاء العالم.
ويعتمد نجاح الفريق على توخي أقصى درجات الحذر والانتباه، تجنباً لحدوث أي تلوث إشعاعي. ويعود السبب في ذلك إلى أن كمية صغيرة للغاية من الغبار الذي يسبح في الهواء بجانب نافذة المختبر، يمكن أن تحتوي على كمية حمض نووي تفوق تلك التي تم استخراجها من عظام الإنسان البدائي، والتي لا يتجاوز وزنها بضعة مليغرامات.
ويقوم الباحثون كل يوم بأخذ حمام للتعقيم، وارتداء ملابس خاصة تشبه بزات رجال الفضاء، قبل دخول الغرف التي يتم الحفاظ عليها معقمة بفضل الأشعة فوق البنفسجية ونظام تصفية هواء متطور للغاية. تجدر الإشارة إلى أنه تحت هذه الظروف الدقيقة ذاتها، تمكن في سنة 2010 فريق البروفيسور بابو من إعادة تشكيل شفرة الجينوم للإنسان البدائي، انطلاقاً من عينات تعرضت لتلف شديد، تم استخراجها من أربع نساء عشن في أوروبا قبل عشرات آلاف السنين.
أجدادنا تزاوجوا مع الإنسان البدائي
وقد أظهر هذا الجينوم المستخرج أن الإنسان البدائي أو "نياندرتال" تزاوج مع أسلافنا. وقد استمرت هذه العملية لدرجة جعلت كل من لا ينحدرون من القارة الإفريقية اليوم، يحملون في جيناتهم خصائص الإنسان البدائي بنسبة تتراوح بين 1 و4 بالمائة. وبما أن الناس اكتسبوا جينات مختلفة نسبياً، فإن ثلث المجموعات الموروثية للإنسان البدائي، لا تزال تنتقل من شخص إلى آخر في الإنسان الحديث.
في المقابل، هناك بعض الخصائص الجينية التي انقرضت، وهي بالتحديد خصائص وراثية كثيرة كان قد اكتسبها الإنسان البدائي ولم تنتقل إلى الأجيال اللاحقة. وقد يعود السبب في ذلك إلى أنها كانت المتسببة في مشاكل على مستوى الصحة، والخصوبة، والعقل والمظهر الجسماني. وقد قال بابو: "نريد أن نعرف ما إذا كان من بين هذه الخصائص التي اضمحلت، شيء ما خفيّ يميّزنا عن الإنسان البدائي. هل هناك أي أساس بيولوجي يفسر توجه الإنسان الحديث للتكاثر بالملايين ثم المليارات، والانتشار في كافة أنحاء العالم وإنشاء ثقافة خاصة به؟"
ومن غير المؤكد ما إذا كان المصيران المختلفان لكلتا الفصيلتيْن الإنسانيتيْن مرتبطان بفوارق معرفية، إلا أن البروفيسور بابو أشار إلى أنه يميل للإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. وتركز هذه الأبحاث التي يتم العمل عليها الآن، على الفوارق بين ثلاثة جينات، توصف بأنها مصيرية لتطور الدماغ. ومن خلال استعمال تقنية كريسبر للتعديل الجيني، تم إجراء تغييرات للخلايا الجذعية للإنسان من أجل جعلها أقرب لتلك الخاصة بالإنسان البدائي.
ومن ثم، يتم تحويل الخلايا الجذعية إلى خلايا عصبية من خلال استعمال محفزات كيميائية، لجعل هذه الخلايا قادرة على الاقتراب من بعضها بشكل عفوي وإعادة تنظيم نفسها في بنيات مصغرة تشبه الدماغ، وتبدأ في النمو ليبلغ حجمها بضعة مليمترات. لكن، يحيل غياب أي مؤثرات حسية إلى أن آلية العمل الداخلي في هذه الخلايا تبقى عشوائية وتختلف من أنبوب اختبار إلى آخر.
من جانبه، أوضح غراي كامب، المشرف على مجموعة من الباحثين في المعهد الذين يقومون بالتجارب على الأعضاء المصغرة أن "التجربة تبدأ بإنماء الخلية وتركها لمدة تسعة أشهر لترى ماذا سيحصل بعد ذلك. في الواقع، أنت لا تحصل على دماغ بشري مكتمل الشكل، ولكنك ترى أن العديد من أجزائه تشبه أجزاء الدماغ. بعد ذلك، يمكنك إجراء دراسات عليها حول نقاط التشابك العصبي والنشاط الكهربائي والفروقات في التطور الدماغي المبكر".
وسيقوم العلماء بمقارنة الخلايا المطابقة للإنسان البدائي، مع خلايا الإنسان الحديث، من أجل تقييم سرعة انقسام الخلايا الجذعية، وتطورها وتنظيمها في شكل بنية دماغية ثلاثية الأبعاد، وما إذا كانت هذه الخلايا الدماغية تتواصل فيما بينها بشكل مختلف، حسب صحيفة Telegraph البريطانية.
لماذا تعمل أدمغتنا بشكل مختلف عن دماغ الإنسان البدائي؟
قال البروفيسور بابو إن "النتيجة التي نحلم بها هي أن التغيرات الجينية ستؤدي إلى نمو عصبي أكثر طولاً وأكثر تفرعاً. ومن المتوقع أن يمثل ذلك الأساس البيولوجي للإجابة عن السؤال: لماذا تعمل أدمغتنا بشكل مختلف عن دماغ الإنسان البدائي؟". ولن تؤدي هذه الأبحاث إلى معرفة من الأذكى من بين الإنسانيْن، إلا أنها ستقدم إشارات حول الفوارق في القدرة على التخطيط، والمهارة الاجتماعية واللغة.
وينظر المختبر أيضاً في كيفية تأثير جينات الإنسان البدائي، الموجودة عادة في الحمض النووي لأشخاص ذوي أصول أوروبية وآسيوية، على نمو الدماغ. ومن خلال تنمية هذه الأعضاء المصغرة، انطلاقاً من خلايا أخذت من أشخاص أحياء، ومراقبة نشاط جينات الإنسان البدائي، يمكن لفريق الباحثين أن يرى ما إذا كان تطور دماغ الشخص يتأثر بشكل فعلي بخصائص أسلافه من الإنسان البدائي.
في هذا الإطار، قال غاري كامب: "يمكننا إعادة زرع دماغك البدائي، حيث يمكننا مراقبته وإعادة إحياء بعض الوظائف المرتبطة بالجينات البدائية في الإنسان الحديث".
كيف تتم تنمية بنية دماغ الإنسان البدائي
1- يتم تعديل الخلايا الجذعية البشرية، وهي خلايا لديها القدرة على التطور إلى العديد من أنواع الخلايا المختلفة في الجسم، وراثياً في المختبر.
2- يستهدف هذا التعديل ثلاثة جينات مرتبطة بالنمو العصبي.
3- بالاعتماد على تركيبة غنية بالبروتينات، يتم تحفيز الخلايا الجذعية على التطور لتصبح خلايا عصبية.
4- على مدى أشهر، تظهر الخلايا الدماغية التي تسمى "أورغانويدز". بعد ذلك، يمكن مقارنة الخلايا الخاصة بالإنسان البدائي بخلايا بالإنسان الحديث، لتحديد نقاط التشابه والاختلاف.
أسئلة أخلاقية وتكنولوجية كبيرة
تجدر الإشارة إلى أن فريق الباحثين في مدينة لايبزيغ الألمانية، ليس أول فريق يفكر في إعادة إحياء بيولوجيا الإنسان البدائي، نظراً لأن جورج تشورش، البروفيسور في جامعة هارفارد، كان قد طرح إمكانية إنجاب رضيع مستنسخ من الإنسان البدائي، إذا كانت هناك امرأة مستعدة لخوض هذه التجربة والخضوع للتلقيح الاصطناعي في رحمها.
في المقابل، يعارض البروفيسور بابو هذا السيناريو، الذي لا يعتبر أن ذلك مرفوض من الناحية الأخلاقية فحسب، بل مستحيل أيضاً في ظل التكنولوجيا المتوفرة اليوم. ولا تسمح هذه التكنولوجيا إلا بعدد محدود من التغيرات الجينية في كل مرة، في حين أن زراعة نسيج الإنسان البدائي بشكل كامل تستوجب 30 ألف عملية تغيير جيني.
ولا يخفي البروفسور بابو شعوره بالإحباط بسبب الأفكار الحالمة للدكتور تشورش، حيث قال: "إن أشخاصاً مثل تشورش يجعلونني أبدو متحفظاً