مواطنون مغاربة أحرار لكنهم سجناء في القرى والجبال، لا يقصدون الإدارات العمومية ولا يتجولون في مركز المدينة، وأغلبهم لا يتوفر على بطاقة هوية.. هذه حالة مزارعي الكيف أو القنب الهندي (الذي يتم تحويله فيما بعد إلى حشيش) في منطقة جبالة والريف شمال المغرب.
قرية "أولاد بن كدار" واحدة من القرى التي يمتهن أغلب سكانها زراعة الحشيش، فجل رجالها صادرة في حقهم مذكرات بحث بسبب زراعة الحشيش، وهناك نحو 60 ألف مزارع من الرجال والنساء في منطقة الريف وجبالة مهدَّدون بالاعتقال؛ بسبب القنب الهندي.
"منهم من يكون مريضاً ويرفض أن يُنقل إلى المستشفى؛ خوفاً من الاعتقال"، يقول يوسف أحد أبناء منطقة كتامة، المعروفة في المغرب بزراعة القنب الهندي، لـ"عربي بوست"، فبالنسبة له وغيره من شباب المنطقة، "فإن الخوف من الاعتقال يجعل معظم سكان المنطقة يعيشون كما لو أنهم سجناء".
فوبيا "المخزن" والاعتقال
نحس بثقل وبرودة الهواء الذي نتنفسه، وصلنا أخيراً إلى القرية الجبلية "أولاد كدار"، التي تقع على ارتفاع يزيد على 1000 متر على سطح الأرض في جبال الريف شمال المغرب المكسوة بأشجار اللوز والتين.
بمجرد وصولنا تحولت أنظار كل السكان صوبنا، لكن ما إن علموا بهويتنا والموضوع الذي جئنا من أجله، حتى انفض من حولنا الجمع واستل آخرون هواتفهم النقالة.. بعضهم يكلم قريباً هارباً، والآخرون يتصلون بالسلطات المحلية، "الناس هنا خائفون ولا يثقون بأحد"، يقول أحد سكان القرية الذي طالبنا ببطاقة تؤكد هويتنا، لكنها لم تشفع لنا لنيل ثقتهم؛ فبالنسبة لمزارعي الكيف، فإن أي غريب عن المنطقة قد تلتصق به صفة "المخزن" (المصطلح الذي يطلقه المغاربة على قوات الشرطة والدرك..).
في أحد الأيام، كان يوسف، الناشط الجامعي وابن المنطقة، بسيارة أجرة حين أوقفهم حاجز أمني، وبعد أن اطلع على هوياتهم قام باعتقال أب كان بصدد مرافقة ابنته إلى المدرسة؛ لأنه مبحوث عنه بسبب زراعة القنب الهندي.
بالنسبة له، هذا المشهد كثيراً ما يتكرر بالنسبة لسكان المناطق المعروفة بزراعة الكيف، فالعديد من المزارعين لا يكونون على علم بأنهم موضوع مذكرة بحث أو قد قُدمت ضدهم شكايات كيدية، "لا تستغرب أن يبلغ عنك جارك بالقرية ويتهمك بالاتجار في المخدرات، لخصومة معه قد تكون أسبابها تافهة".
"فوبيا المخزن" أو الخوف من عناصر الدرك الذي يؤرق مزارعي الكيف، يمكن أن يصل إلى درجة أنهم يرفضون الإدلاء بهوياتهم، حتى لقضاء أغراضهم الخاصة، كما يشرح لـ"عربي بوست" أحمد ابن القرية، الذي كان يشتغل في وكالة لتحويل الأموال، طلب من أحد المزارعين بطاقته الوطنية لإتمام عملية تحويل أمواله، فإذا به يصاب بحالة هستيرية كما لو أن الدرك داهمه ليقوم باعتقاله.
قرى النساء والأطفال
في السوق الأسبوعية بقرية "أولاد بن كدار"، تصطف الخيام رغم البرودة القاسية والأمطار التي حولت التربة إلى أوحال، تُعرض خضراوات طازجة وتوابل وقطاني، وحتى الثياب وتجهيزات المطابخ.. التجار والباعة رجال يلبسون جلابيب الصوف المزركشة التي تشتهر بها المناطق الجبلية المجاورة، لكن الزبائن جلهم من النساء والأطفال.
حالة هذه القرية تعيشها مختلف القرى التي يمتهن سكانها زراعة الكيف، رجالها لا يجرأون على الذهاب إلى الأسواق الأسبوعية؛ خوفاً من الاعتقال، كما يؤكد لنا أحد السكان بعربية تختلط بالريفية، لغة المنطقة التي تسكنها أغلبية أمازيغية.
هذا الوضع خلق حاجزاً من الخوف لدى السكان، فهناك قرى لا يصل رجالها إلى وسط المدينة، لا يتوفرون على بطاقات هوية ولا عقد زواج، ومحرومون من أبسط الخدمات الاجتماعية لأنهم لا يستطيعون التوجه إلى الإدارات والمؤسسات الحكومية مخافة الاعتقال. وبالنسبة للناشط الجمعوي يوسف، فإن هذا الوضع جعل المزارع يفقد الثقة بالمؤسسات وبرجل الشرطة، الذي يشكل له تهديداً دائماً بالاعتقال.
هذا الخوف من "المخزن" تنامى بشكل كبير بعد الظهير (القانون) الذي سنَّته الدولة سنة 1974 والقاضي بتجريم زراعة الكيف، "قبل هذا التاريخ كانت الأمور عادية"، يقول محمد لـ"عربي بوست"، بملامحه الريفية ذات العيون الخضراء والشعر الأشقر، أن زراعة الكيف متأصلة في بعض القرى من منطقة الريف، ففي سنة 1954 أصدرت سلطات الاحتلال الفرنسية قانوناً يمنح السكان المحليين الحق في زراعة القنب الهندي، وهو القانون الذي استمر بعد الاستقلال سنة 1956.
الدولة تستعيد أراضيها..
الصعوبة التي واجهناها في إقناع سكان المنطقة بالحديث عن معاناتهم الاجتماعية، اعتبرها عبد الإله، الموظف الخمسيني، طبيعية، فقد تصادف وجودنا مع وفاة أحدهم بأزمة قلبية خلال احتجاج السكان على السلطات المحلية، التي كانت ترغب في انتزاع أرضهم التي يزرعونها بالحشيش.
فقبل 3 أسابيع من الآن، عاشت المنطقة توترات غير مسبوقة، فقد جعل قرار وزارة الفلاحة إعادة تشجير الأراضي الغابوية التابعة للدولة، سكان المنطقة ينتفضون. ويشرح لنا أنه خلال سبعينيات القرن الماضي، وبسبب الجفاف، لجأ بعض المزارعين إلى قطع أشجار الغابة واستغلال الأرض في زراعة القنب الهندي، لكن مؤخراً عادت وزارة الفلاحة إلى المنطقة، معتمدةً على خرائط تعود لفترة الاستعمار الفرنسي والإسباني؛ لتحديد أراضي الغابات التابع للدولة، تحديد مساحة الغابات هدد مزارعي القنب الهندي بفقدان مساحات شاسعة من الأراضي التي كانوا يستغلونها، وهو ما جعلهم يحتجون.
لعنة الكيف..
العيش في حالة هروب دائم، ليس هو المشكلة الوحيدة التي يعانيها مزارعو الحشيش، فالمناطق المعروفة في المغرب بنشاط سكانها في زراعة هذه "العشبة" (كما يطلق عليها المزارعون)، أصبحت تعرف الكثير من المشاكل الاجتماعية؛ معدلات الانتحار ارتفعت، وشبابها لم تعد تكفيه السجائر المحشوة حشيشاً، لينتقل إلى إدمان المخدرات الصلبة؛ بسبب "حالة اليأس التي وصلوا إليها في ظل انعدام فرص الشغل وارتفاع معدلات البطالة ومطاردة الأمن وعدم خلق مشاريع تنموية تعوضهم عن زراعات الحشيش"، يقول يوسف بحسرة.
قرية "أولاد بن كدار"، برغم بُعدها عن مدينة تاونات (كبرى مدن مقدمة جبال الريف) بنحو 70 كم فقط، فإن بنيتها وتجهيزاتها التحتية شبه منعدمة؛ حالة الطريق الجبلية سيئة، والأشغال الآن متوقفة بسبب الأحوال الجوية، لكن أيضاً هناك تأخير كبير في إنجازها، كما يؤكد أحمد الموظف في البلدية، "على سكان المناطق الجبلية الانتظار وقتاً أطول للفرح بطريق تصلهم بالمدينة".
الوضعية السيئة التي عليها البنيات التحتية للمنطقة، هي انعكاس للوضع الاجتماعي الصعب الذي يعيشه الفلاحون ومزارعو الكيف، وحتى المساحات المزروعة من الكيف أصبحت محدودة بالنظر إلى النمو الديموغرافي الكبير الذي تعيشه المنطقة، ودخل الأُسر السنوي تقلَّص كثيراً، فهو أقل من 30 ألف درهم (3300 دولار) لأسرة مكونة من 9 أفراد، وهو أقل من الحد الأدنى للفقر كما تحدده المنظمات العالمية.
الوضع الصعب الذي يعيشه المزارعون، كان يظهر جلياً في أثناء جولتنا بين بيوت القرية المتواضعة، مرافقنا يوسف يؤكد بتشاؤم، أن المنطقة حالياً مُقبلة على انفجار اجتماعي واقتصادي، فما كان يسميه السكان، في وقت سابق، "امتيازاً" حظيت به 3 قبائل في منطقة الريف ويسمح لها بزراعة الحشيش، قد مضى إلى غير رجعة.
وعلى الرغم من مطالباتهم المتكررة بتقنين زراعة الكانابيس والاستفادة منه في الصناعات الصيدلية والطبية وحتى النسيج والألبسة، فإن مطالبهم بقيت حبيسة أرشيف مجلس النواب المغربي.
وتتعلل السلطات المغربية في محاربتها لهذه الزراعة باستغلال مافيات عالمية لهؤلاء المزارعين الذين يبيعونهم منتوجهم بثمن بخس، في حين يحولونه هم إلى حشيش عابر للقارات ينقل إلى أورربا خاصة حيث يتم بيعه بأثمنة خيالية.
ونحن منهمكون في حديثنا، قصدَنا موظف في البلدية، كان خبر حضور صحفيين إلى قريته قد وصل له سريعاً من عيون السلطة المنتشرة في كل مكان.. طلب منا التوجه بعيداً عن مقر نفوذه الترابي.. كان لزاماً علينا أن نغادر وسط نظرات سكان القرية المترددة؛ من جهة يخافون التواصل مع الأجانب الوافدين، ومن جهة أخرى يرغبون في نفي تهمة الاغتناء من الحشيش التي تلتصق بمنطقتهم..