خلال إجرائه بحثاً للحصول على درجة الدكتوراه عن تأثير الحرب السوفيتية في أفغانستان، أجرى مارك غالوتي الباحث في معهد العلاقات الدولية بالعاصمة التشيكية براغ، مقابلات مع محاربين روس قُدامى شاركوا في ذلك الصراع الذي نشأ في آخر أيام من عمر الاتحاد السوفييتي عام 1988.
يقول غالوتي: "كلما استطعت، كنت أقابل هؤلاء المحاربين بعد مدةٍ وجيزة من عودتهم إلى وطنهم، ثم التقيتهم مرةً أخرى بعدما أمضوا عاماً في الحياة المدنية لرؤية مدى تكيُّفهم"، بحسب ما نقلته صحيفة The Guardian البريطانية.
وكان معظم هؤلاء لدى عودتهم غير مؤهلين للحياة الجديدة، ومصدومين، وغاضبين؛ إمَّا مُثقلين برواياتٍ من الرعب والفشل، أو منعزلين وسط حالةٍ من اللامبالاة أو التذمُّر.
بيد أنَّ معظمهم بعد مرور عامٍ فعلوا ما يفعله الناس عادةً في ظروفٍ كهذه: تأقلموا وتعاملوا مع الأمر. ثم صارت الكوابيس أقل تواتراً وأصبحت الذكريات أقل وضوحاً، لكن كان هناك من لم يستطع المضي قدماً أو لم يرغب في ذلك. وأصبح بعض هؤلاء الشبان المتضررين من جرَّاء الحرب مفعمين برغبةٍ في الإثارة وخوض المغامرات، أو مجرَّد أشخاصٍ عاجزين عن تحمُّل روتين الحياة اليومية.
كان أحد الرجال الذين تعرَّفت عليهم آنذاك يُدعى فولوديا. لقد كان نحيلاً قوياً وحاداً عابساً ذا طبيعةٍ هشةٍ وخطرة لدرجة أنني كنت أسير على الجانب الآخر من الطريق لتجنُّب مقابلته في العموم، وكان قنَّاصاً في الحرب. أمَّا المُحارب الآخر الذي تعرَّفت عليه فكان يتحمَّل فولوديا، لكنَّه لم يبدُ قط مرتاحاً معه ولا للحديث عنه.
كان فولوديا مُبذِّراً جداً في وقتٍ كان فيه معظم الناس يعيشون على الكفاف بالقرب من حافة الفقر، وغالباً ما كانوا يعيشون مع والديهم ويعملون في وظائف متعددة لكسب قوت يومهم. بيد أنَّ كل ذلك كان منطقياً حين علمت لاحقاً أنَّه كان معروفاً في دوائر الجريمة الروسية بـ"القاتل المأجور".
مع انهيار قيم وأساسات الحياة السوفيتية وسقوطها، كانت الجريمة المُنظَّمة تخرج من بين الأنقاض ولم تعُد تابعةً لرؤساء الحزب الشيوعي الفاسدين وأثرياء السوق السوداء. فمع صعود الجريمة المنظَّمة، كانت تجمع جيلاً جديداً من المُجنَّدين بما في ذلك قُدامى المحاربين المتضررين وخائبي الأمل الذين شاركوا في حرب الاتحاد السوفيتي الأخيرة. كان بعضهم حُرَّاساً شخصيين وبعضهم كانوا مُهرِّبين، أو سارقين بالإكراه أو قَتَلة مثل فولوديا.
لم أعرف قط مصير فولوديا، ربما انتهى به المطاف ضحيةً لحروب العصابات في تسعينيات القرن الماضي التي انطوت على تفجيراتٍ بسيارات مُفخَّخة وإطلاق الرصاص من السيارات وطعناً بالسكاكين في عتمة الليل.
أيام مجد العصابات الروسية
شَهِد ذلك العقد ظهور تقاليد تذكارية هائلة: إذ كان رجال العصابات القتلى يُدفنون بجنائز مهيبة على غرار فيلم الأب الروحي، مع سيارات ليموزين سوداء تسير على طرقٍ مفروشة بورود بيضاء، ومقابر مُزيِّنة بشواهد ضخمة.
كانت هذه المراسم الباهظة للغاية والمبهرجة إلى حدٍ مثير للدهشة (إذ كانت أقصى تكلفةٍ لها تبلغ 250 ألف دولار في الوقت الذي كان فيه متوسط الأجر يقترب من دولارٍ واحد في اليوم) تُظهِر الغنائم التي نهبها هؤلاء الأشخاص على مرِّ حياتهم الإجرامية، والتي شملت سيارات من طراز مرسيدس وبزَّات مُصمَّمة حسب الطلب وسلاسل ذهبية ثقيلة. ما زلت أتساءل عمَّا إذ كنت سأمر يوماً ما على إحدى المقابر المُفضَّلة لدى عصابات موسكو وأرى قبر فولوديا.
ومع ذلك، فالفضل يرجع إلى فولوديا ومن على شاكلته في أنَّني أصبحت أحد أوائل الباحثين الغربيين الذين حذَّروا من صعود الجريمة المُنظَّمة في روسيا وعواقبها بعدما كان العالم يتجاهل وجودها سلفاً ما عدا بضعة استثناءات جديرة بالذكر.
كانت تسعينيات القرن الماضي هي أيام مجد العصابات الروسية؛ فمنذ ذلك الحين أُفسحت العصابات في الشوارع المجال في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنظامٍ يقوم على حكم اللصوص.
انتهت حروب العصابات واستقر الاقتصاد، وبالرغم من نظام العقوبات الحالية التي فُرِضت في فترة الحرب الباردة التي أعقبت أزمة القرم، صارت موسكو الآن مُزدانةً بمقاهي ستاربكس ورموز العولمة الأخرى كأي عاصمة أوروبية.
في الأعوام التي أعقبت مقابلة فولوديا، درست عالم العصابات الروسية بصفتي باحثاً ومستشاراً حكومياً (بما في ذلك فترة عمل مع وزارة الخارجية البريطانية)، ومستشار أعمال، ومصدراً شُرَطياً في بعض الأحيان. لقد شهدت صعود هذا العالم، ثم تغيُّره التام، إن لم يكن سقوطه، لقد رأيته يخضع لترويضٍ متزايد من جانب نخبة سياسية أشرس بطريقتها الخاصة من رؤساء العصابات القدامى. وبالرغم من ذلك، ما أزال أرى أمامي صورة ذلك المُسلَّح ذي الجسد المليء بندوب إصابات الحروب، الذي صار فجأةً ضحيةً ومجرماً في الموجة الجديدة للعصابات الروسية، وهذه استعارةٌ عن مجتمعٍ سيغرق في دوامةٍ شبه مطلقة من الفساد والعنف والجريمة.
جثة عارية مجهولة
في عام 1974، جُرِفت جُثةٌ عارية إلى ساحل مدينة ستيرلنا الروسية التي كانت تقع جنوبي غرب مدينة لينينغراد (المعروفة حالياً بسان بطرسبرغ). وكانت الجثة طافيةً في خليج فنلندا على مدار أسبوعين في مشهدٍ مُزعِج. وكان سبب الوفاة واضحاً في ظل وجود عدة جروحٍ ناجمة عن طعنات في بطن القتيل. ومع ذلك، لم تكن هناك أي أدلةٍ تقليدية لتحديد هويته بسبب عدم وجود بصمات أو ملابس، فضلاً عن أنَّ وجهه كان منتفخاً ومليئاً بالكدمات وشبه متآكل.
ولم يكن هناك أي إخطارٍ للشرطة بأنَّه من المفقودين. ومع ذلك، عُرِفَت هويته في غضون يومين، لأنَّ جسده كان مليئاً بوشومٍ تتضمَّن كلمة vor الروسية التي تعني "لص"، لكنَّها مصطلحٌ عام كذلك يشير إلى الأعضاء المحترفين في عالم العصابات السوفيتية. يُذكَر أنَّ معظم الوشوم ظلَّت غير قابلةً للتمييز، فاستدعت الشرطة خبيراً في قراءتها.
وتمكَّن الخبير في غضون ساعةٍ من فك شفراتها: فوشم الظبي القافز على صدره كان يرمز إلى أنَّه قضى مدةً في أحد معسكرات العمل الشمالية، بينما كان يرمز وشم السكين الملفوف بسلاسل على ساعده الأيمن إلى أنَّه ارتكب اعتداءً عنيفاً (لكنَّه ليس جريمة قتل) حين كان في السجن، أمَّا الصلبان المرسومة على ثلاثةٍ من مفاصل أصابعه، فكانت ترمز إلى أنَّه قضى ثلاث عقوباتٍ بالسجن منفصلة.
ولعل أكثر الوشوم دلالةً كان وشم الحبل الملفوف حول مرساة على الجزء العلوي من ذراعه، وكان من الواضح أنَّ رسمة أسلاك شائكة محيطة بها قد أضيفت إليها لاحقاً، ويرمز هذا الوشم إلى أنَّ صاحبه من قدامى المحاربين البحريين قضى حكماً بالسجن لارتكابه جريمةً في أثناء فترة خدمته.
ومع توافر هذه التفاصيل، حدَّدت الشرطة هوية القتيل بسرعةٍ نسبية وتبيَّن أنَّه ماتفي لودوتشنيك أو "ماتفي الملَّاح" الذي كان ضابطاً سابقاً في البحرية وضَرَب أحد المُجنَّدين البحريين حتى الموت قبل 20 عاماً من ذلك. ثم أصبح ماتفي عضواً أساسياً في عالم العصابات بمدينة فولوغدا الروسية. لكنَّ الشرطة لم تعرف قط سبب وجود ماتفي في مدينة لينينغراد أو سبب وفاته. بيد أنَّ السرعة التي حُدِّدت بها هويته لم تُظهِر فقط اللغة البصرية الخاصة التي يستخدمها عالم العصابات السوفيتية، بل أظهرت كذلك عالمية هذه اللغة. لقد أظهرت الوشوم فوراً التزامه بالحياة الإجرامية، وسَرَدت سيرته الذاتية أيضاً.
يعود تاريخ ثقافة عصابات الجريمة المنظمة الروسية إلى السنوات الأولى من حقبة الإمبراطورية الروسية، لكنَّها خضعت لإعادة تشكيل جذرية في معسكرات الاعتقال السوفيتي التي ظهرت في عهد جوزيف ستالين الزعيم الأسبق للاتحاد السوفيتي بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي. فبادئ ذي بدء، رفض المجرمون الامتثال لعالم القوانين رفضاً قاطعاً، ورسموا الوشوم بوضوح على أجسادهم كإشارةٍ إلى التحدي. كانت لديهم لغتهم وعاداتهم وقياداتهم الخاصة. وبمرور الوقت، فقدت هذه العصابات هيمنتها لكنَّها لم تختفِ تماماً. وفي روسيا بعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي، امتزجت مع النخبة الجديدة. فاختفت الوشوم، أو بالأحرى خُبِّئت تحت القمصان البيضاء المموَّجة التي كانت ترتديها سلالةٌ جشعة جديدة من رجال الأعمال المجرمين وأصحاب السلطة.
في تسعينيات القرن الماضي، كان كل شيء جاهزاً للسرقة، واستولى اللصوص الجدد استيلاءً تاماً على كل شيء. إذ خضعت أصول الدولة للخصخصة واضطُرَّت الشركات إلى دفع ثمن الحماية، ومع سقوط الستار الحديدي، انتشرت العصابات الروسية في جميع أنحاء العالم.
لقد كانت عصابات الجريمة المُنظَّمة الروسية جزءاً من أسلوب الحياة لدرجة أنَّها كانت بطريقتها الخاصة انعكاساً للتغيُّرات التي مرت بها روسيا في القرن العشرين. لقد بدأت الجريمة المنظمة فعلياً في تحقيق مكاسب هائلة في روسيا لدرجة أنَّها نفسها أصبجت أكثر تنظيماً. ومنذ استعادة السلطة المركزية في عهد بوتين منذ بداية الألفية الجديدة، تأقلمت العصابات الجديدة مع الوضع مرةً أخرى، وتجنَّبت جذب الانتباه إليها لدرجة أنَّها تعمل لمصلحة الدولة حين يتوجَّب عليها ذلك.
لا شكَّ أنَّ التحدي الذي تُشكِّله عصابات الجريمة المنظمة الروسية هائلٌ، ليس في روسيا فقط، بل في جميع أنحاء العالم. فهي تُهرِّب مخدراتٍ وأشخاصاً ومتمردين مُسلَّحين وأفراد عصابات، وتؤدي جميع أنواع الخدمات الإجرامية من غسيل الأموال إلى اختراق الحواسيب في شتى أنحاء العالم. في ظل كل هذه الأسباب، ما تزال الكثير من دول العالم موافقة على غسل أموال رجال هذه العصابات وبيع شقق باهظة الثمن لهم، بل ويُسرُّها ذلك.
هل تدير العصابات روسيا؟
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تُدير العصابات روسيا؟ لا بالطبع، فقد قابلت العديد من ضباط الشرطة والقضاة الروس المُخلصين الملتزمين بمكافحة هذه العصابات. بيد أنَّ العديد من الشركات والساسة يستخدمون وسائل تفيد عالم العصابات أكثر مما تفيد الممارسات القانونية.
فالدولة تستعين بقراصنة وعصاباتٍ مُسلَّحة لخوض معاركها (وهناك إشاراتٌ إلى أنَّ الحكومة الروسية استعانت بمجرمين في محاولة اغتيال الجاسوس المزدوج سيرغي سكريبال التي وقعت في بلدة ساليسبري البريطانية الشهر الجاري مارس/آذار). ويمكنكم كذلك سماع أغاني ومصطلحات عامية خاصة بعصابات الجريمة المُنظَّمة. حتى لأنَّ بوتين يستخدمها من وقتٍ لآخر لإعادة تأكيد أوراق اعتماد كمواطنٍ على درايةٍ بخبايا الشارع الروسي. ربما لا يكون السؤال الفعلي هو إلى أي مدى استطاعت الدولة ترويض أفراد العصابات، بل إلى أي مدى أصبحت قيم عصابات الجريمة المُنظَّمة وممارساتها تُشكِّل روسيا الحديثة.
وصف العديد من المعلقين روسيا بأنَّها "دولة مافيا". وصحيحٌ أنَّها كُنية جذَّابة، ولكن ما معناها الفعلي؟ يرى خوسيه غريندا غونزاليس النائب العام الإسباني الذي يُعَد بمثابة سوطٍ خاص للعصابات الروسية في بلاده أنَّ هذه الصفة تعني أنَّ الكرملين لا يخضع لسيطرة المجرمين، بل يُحرِّك العصابات خُفيةً كالدُمى. لكنَّ الحقيقة أكثر تعقيداً من ذلك؛ فالكرملين لا يُسيطر على عصابات الجريمة المُنظَّمة في روسيا ولا يخضع لسيطرتها. بل تزدهر الجريمة المُنظَّمة في عهد بوتين لأنَّ نظامه يعد تربةً خصبة لهذه العصابات.
فمستوى الفساد في روسيا عالٍ جداً، مما يوفِّر بيئةً ملائمةً للجريمة المُنظَّمة. ولا يقتصر الأمر على المجرمين المحترفين الذين يستغلون الفرص التي توفرها الرأسمالية الروسية الوحشية، بل يستغل موظفو الدولة كذلك الفرص الإجرامية السانحة أمامهم بانتظامٍ على نحوٍ متزايد. ففي عام 2016، داهمت الشرطة شقة العقيد دميتري زاخارتشينكو الذي كان نائب رئيس أحد أقسام مكافحة الفساد التابعة لقوة الشرطة. ووجدت الشرطة مبلغ 123 مليون دولار نقداً، وهذه كميةٌ هائلة من النقود لدرجة أنَّها دفعت المحققين إلى إيقاف التفتيش حتى وجدوا صندوقاً كبيراً بما يكفي لجمعها كلها. وافتُرِض أنَّ الأموال لم تكن كلها ملكه، بل يبدو أنَّه كان صاحب صندوق مالي مشترك لعصابةٍ من الطامعين أو "المستذئبين" كما يُعرَف أفراد الشرطة المتورطون في عصابات الجريمة المنظمة.
جديرٌ بالذكر أنَّ بوتين اعترف علانيةً مراراً وتكراراً بأنَّ الفساد منتشر على نطاق واسع. ومع ذلك، فبعد 18 عاماً من حكمه، لم نشهد دليلاً كافياً على أنَّه ينوي أكثر من مجرِّد إظهار عزيمته على مكافحة الفساد علناً، وتطهيرٍ دوري لمسؤولين يُعدون بمثابة كبش فداء يمكن التخلُّص منه.
عادةً ما تدور العلاقة بين النخبة ورجال العصابات حول علاقات ذات منفعة متبادلة، لكنَّ هذه العلاقات يمكن أن تنهار أيضاً بطرق مذهلة. ولعل قضية سعيد أميروف أبرز مثالٍ على ذلك، فمنذ عام 1998، كان أميروف يدير مدينة محج قلعة عاصمة جمهورية داغستان الشمالية القوقازية باعتبارها إقطاعيته السياسية الإجرامية الخاصة. لقد تطلَّب التحكُّم في ما يمكن القول أنَّها أعند مدينة في داغستان -التي كانت في حد ذاتها أعند جمهورية في الاتحاد السوفيتي- شخصاً ذا قدراتٍ خاصة. لقد كان أميروف يبدو شخصاً أبدياً بكل معنى الكلمة؛ إذ نجا من اثنتي عشرة محاولة اغتيال على الأقل، من بينها إحدى المحاولات في عام 1993 أعجزته وأقعدته على كرسي متحرك بعد إصابته برصاصةٍ استقرت في عموده الفقري، وهجوم صاروخي على مكاتبه في عام 1998. وكان استمراره في منصبه السياسي يبدو أبدياً كذلك، على الرغم من انتشار مزاعم بوحشيته وفساده وارتباطه بجرائم؛ لقد كان راسخاً في منصبه لدرجة أنَّ فتره حكمه شهدت تولِّي أربعة زعماء رئاسة داغستان، وثلاثة رؤساء روس.
على مرِّ 15 عاماً، كانت موسكو سعيدةً بما يكفي للسماح لأميروف ببناء إقطاعيته لأنَّه على الأقل حافظ على انضباطها، ولم يُشكِّل تهديداً صريحاً على مركز السلطة. وحين قرَّرت الدولة في النهاية التحرُّك ضده في عام 2013، كان عليها أن تُفكِّر في قاعدة سلطته المحلية؛ إذ كان اعتقاله أشبه بغارةٍ في منطقةٍ مُعادية قادتها قواتٌ خاصة تابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي استدعتها السلطات آنذاك من خارج الجمهورية مدعومةً بمركباتٍ مُدرَّعة ومروحياتٍ حربية. وكان القلق من نفوذ أميروف على السلطات المحلية بالغاً لدرجة أنَّه نُقِل فوراً إلى سجنٍ في موسكو مع 10 متهمين آخرين.
ولكن لماذا انقلبت موسكو على أميروف؟ يبدو أنَّه دخل في صراعٍ مع لجنة التحقيق الفيدرالية الروسية -التي يستخدمها بوتين لملاحقة أعدائه وقمعهم- بسبب تورُّطه في مقتل أحد رؤسائها الإقليميين عام 2011. لذا لم يكن الأمر متعلقاً بتحقيق العدالة بقدر ما كان متعلقاً بمعاقبة أميروف. حُكِم على أميروف بالسجن لمدة 10 سنوات في مستعمرةٍ عقابية ذات إجراءات أمنية في غاية الشدة، وجُرِّد من جوائزه التي منحته الدولة إيَّاها (ومن المصادفة العجيبة أنَّ بعض هذه الجوائز حصل عليها من جهاز الأمن الفيدرالي الروسي نفسه). كان ذلك أمراً غير مسبوق لأحد رجال الكرملين الأقوياء السابقين، وتحذيراً لغيره من رجال النخبة المحلية الفاسدة. وتحوَّلت المميزات نفسها التي جعلت أميروف وكيلاً محلياً رائعاً -مثل مهارته في إدارة سياسات جمهورية داغستان المُعقَّدة وقسوته وشبكة علاقاته التي تمتد عبر عالم العصابات وعالم القانون كذلك وفساده واسع النطاق وطموحه الاستحوذاي لنفسه وأسرته- إلى عيوب.
العصابات في عهد روسيا الحديثة
ولا شك أنَّ الدولة الروسية الحديثة أقوى بكثير مما كانت عليه في التسعينيات، وغيورةٌ على سلطتها السياسية. لذا تميل العصابات التي تزدهر في روسيا الحديثة إلى ممارسة أنشطتها بالتعاون مع الدولة وليس العمل ضدها. بعبارةٍ أخرى، اعمل وفقاً لرغبة الكرملين وسيغُض الكرملين الطرف عنك، أما إذا لم تفعل ذلك، سيُذكرونك بأنَّ الدولة هي أكبر عصابةٍ في البلاد.
إنَّ السمة الرئيسية للجريمة المنظمة في روسيا حاليَّاً هي عمق ترابطها مع الاقتصاد القانوني. فالتفريق بين الأموال المكتسبة بطرق شرعية والمكتسبة بطرق غير شرعية في روسيا يُعَد مهمة مستحيلة.
في التسعينيات على وجه التحديد، كان من شبه المستحيل كسب أموال طائلة بدون التورُّط في ممارساتٍ مُحاطة بشبهات أخلاقية في أحسن الأحوال، أو غير قانونية تماماً في أسوأ الأحوال.
وفي تلك الفترة، كان القتل وسيلةً شائعة بدرجةٍ مُحبطة لحل النزاعات التجارية. لكنَّ الدور العلني للعصابات في معظم أوجه الاقتصاد يشهد تراجعاً.
وصحيحٌ أنَّ الاستيلاء على الأصول والشركات بالإكراه البدني أو القانوني لا يزال مشكلةً خطرة، لكنَّه صار يعتمد على العنف بدرجةٍ أقل من اعتماده عليه في الماضي. إذ قال أحد رجال الأعمال الذين يعيشون في بريطانيا إنَّه اضطُّر إلى السفر إلى موسكو فجأةً في مرتين منفصلتين بسبب محاولات سرقة أحد ممتلكاته.
في المرة الأولى، ظهر بلطجيةٌ عند الباب وشقوا طريقهم تحت عيني حارس الأمن. واضطر رجل الأعمال إلى طلب عون الشرطة المحلية لطردهم. وفي المرة الثانية، جاء اللصوص متنكرين في هيئة محامين ومحققين حاملين وثائق تزعم أنَّ الممتلكات صارت بحوزتهم تسديداً لديون (غير موجودة). وبينما استغرق التلخُّص من البلطجية ساعات، وتطلَّب رشوةً مناسبة إلى رئيس الشرطة على حد ظنِّي، يستغرق التعامل مع الطعن القانوني أسابيع، ودفع مبالغ كبيرة مقابل رسوم قانونية وإغراءات غير شرعية.
وهذا لا يجعل رجال الأعمال المجرمين الجدد من حماة القانون؛ فهُم يرغبون في وجود درجة من القابلية للتنبؤ داخل النظام، ويرغبون أيضاً في وجود في جهازٍ حكومي مُخصَّص للحفاظ على حقوق الملكية كذلك كونهم أصبحوا من الأثرياء أصحاب الأملاك الآن. بيد أنَّهم على درايةٍ جيدةٍ كذلك بأنَّ وجود قوة شرطة نزيهة تؤدي عملها بكفاءة، وسلطةٍ قضائية ملتزمة غير قابلة للفساد قد يُشكِّل تهديداً خطراً عليهم. ولذلك، لديهم مصلحةٌ قوية في الحفاظ على الوضع الراهن المعيب.
وتماماً كما تعرَّضت اللغة الروسية لاحتلالٍ من المفردات الدارجة في الدوائر الإجرامية، أصبحت كذلك الممارسات التجارية الروسية المنتظمة تعُّج بعادات عالم العصابات ووسائله. فما يزال التجسُّس المؤسسي والرشوة واستخدام النفوذ السياسي لتغيير العقود وعرقلة المنافسين أموراً شائعة، وتواصل الربط بين عالمي الجريمة والأعمال. وبالمثل، من المُرجَّح أن يكون الجيل الجديد من رؤساء العصابات أنشط من أي وقتٍ مضى في مجالات الأعمال الشرعية و"الرمادية".
شراء الخدمات من أجهزة حكومية
لا شكَّ أن اقتصاداً خفياً واسع النطاق كالاقتصاد الخفي في روسيا يخلق منظومةً مُعقَّدة من مجالات الخدمات والأسواق المتخصصة. ففي التسعينيات، كانت الحاجة الأولى والأوضح إلى البلطجية والسارقين بالإكراه. ومع ظهور أغراض أكثر تعقيداً، لا سيما الاغتيالات، بدأت عصابات الجريمة المنظمة تنتقي رياضيين وممارسي فنون قتالية -فالعديد من أفراد العصابات الأولى جاءوا من أنديةٍ رياضية مثل رافعي الأثقال والمصارعين الذين كوَّنوا عصابة ليوبيرتسي في موسكو- أو أفراداً حاليين وسابقين في الشرطة أو الجيش.
وكان ألكسندر سولونيك سيئ الذكر (المُلقَّب بـ"الإسكندر الأكبر" أو "سوبر قاتل") جندياً سابقاً وعضواً سابقاً في شرطة مكافحة الشغب قبل أن يصبح قاتلاً مأجوراً متخصصاً في اغتيال رجال العصابات المحميين بحراسةٍ مشددة. إذ اعترف لاحقاً بارتكابه ثلاث جرائم قتل على هذه الشاكلة. وأصبح أشبه بأسطورةٍ؛ ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى قصة محاولة هروبه من أحد مراكز الشرطة عام 1994، حيث قتل سبعةً من ضباط الأمن قبل أن يُقهَر في نهاية المطاف، وفي عام 1995، كان أحد الأشخاص القلائل للغاية الذين فرُّوا من سجن ماتروسكايا تيشينا في موسكو.
وحين هرب من السجن وفر إلى اليونان -حيث بدأ يرأس العصابات عن جدارة- صار عضواً رئيسياً وليس مجرد مؤدٍ للخدمات. ومن ثمَّ، فقد وضعه المحايد، وقتلته إحدى العصابات التي ارتبط بها سابقاً.
ثم جاء اغتيال فاسيلي نوموف رئيس إحدى عصابات الجريمة المُنظَّمة عام 1997 بمثابة إحراجٍ خاص لشرطة سانت بطرسبرغ؛ إذ تبيَّن أنَّ حُرَّاسه كانوا أعضاءً في واحدةٍ من أفضل فرق التدخُّل السريع التابعة لقوة شرطة سانت بطرسبرغ، وكان عملهم لديه وظيفةً إضافية، وعلى ما يبدو أنَّهم كانوا يؤدونها بصورةٍ شرعية عبر شركةٍ وهمية. وما زلنا لا نعرف يقيناً مدى درايتهم بهوية الشخص الذي كانوا يحمونه.
وهذه مجرَّد واحدةٍ من الطرق العديدة التي يستطيع بها المجرمون شراء الخدمات من أجهزة حكومية. وتشمل الخدمات الأخرى التنصُّت على المكالمات الهاتفية عن طريق أجهزة الأمن، وخدماتٍ أقل أهميةٍ مثل رشوة أحد المسؤولين الحكوميين للحصول على حق وضع الضوء الأزرق المومض الخاص بخدمات الطوارئ على سيارتك.
فضلاً عن ذلك، فإنَّ بعض المجرمين السيبرانيين وخبراء الأمن السيبراني الذين تستأجرهم العصابات يعملون كذلك لمصلحة الحكومة. بيد أنَّ معظمهم لا يعملون لمصلحتها. ونادراً ما يُلائم المخترقين أنفسهم نموذج الجريمة المنظمة لأنَّ هياكلهم جماعيةٌ في العموم. فبدلاً من الانضمام إلى العصابات، يميلون إلى أن يكونوا مستشارين خارجيين، ومأجورين لتأدية وظائف محددة.
جديرٌ بالذكر أنَّ التعقيد المتزايد للعمليات الإجرامية، ولا سيما تحوُّلها إلى جرائم غير قائمة على العنف لدوافع مالية، قد خَلَق حاجةً إلى مختصين ماليين لإدارة أموال العصابات وجرائمها الاقتصادية.
لقد أسفرت هذه الجريمة المُنظَّمة الروسية عن ظهور اقتصاد الخدمات المُعقدة الذي يخبرنا بالكثير عن حجمها وتعقيدها واستقرارها. وفي أثناء ذلك، يتوقف نشاط أفراد العصابات القُدامى بشروطهم الخاصة على الأقل. ففي الماضي، إذا كان جسمك موشوماً بوشمٍ إجرامي شعرت العصابات بأنَّك لا تستحقه، كنت لتصبح مهدداً بإزالة هذه القطعة من جلدك كرهاً بسكين، هذا إن كنت محظوظاً. أمَّا الآن، فلا أحد يكترث، وكل ما عليك هو دفع بعض الأموال لرسم الوشوم على جسدك.
لقد كانت الجريمة في الماضي شيئاً يُميِّز الناس ويجعلهم بمعزلٍ عن بقية المجتمع، أما الآن، فقد صارت مُجرد طريق آخر نحو القوة والازدهار داخل هذا المجتمع، وفقدت العادات التي كانت موجودةً لإبقاء ثقافة أفراد عصابات الجريمة المُنظَّمة منفصلةً ومختلفة معناها وقيمتها.
اشتكى أحد أفراد العصابات يوماً ما بمرارةٍ قائلاً: "لقد أُصبنا بعدوى من بقيتكم، وها نحن نموت"، لكنَّ العدوى سارت في الاتجاهين. فالعديد من مبادئ التنظيم والتشغيل في روسيا الحديثة تحذو حذو العالم الخفي. ربما لم يختفِ هؤلاء المجرمون، بل صار الجميع من المجرمين حالياً؛ فانتصر عالم المجرمين في نهاية المطاف.