لا بد وأنك زرتَ أحد الأطباء من قبل، وفي الأغلب راودتك تساؤلات خلال زيارتك حول نشأة الطب وتطوره. هذا ما نتناوله في هذا التقرير الذي نصحبك خلاله في رحلة؛ لنتعرف على أهم المحطات التي سار عليها قطار الطب وصولاً إلى الآن، استناداً إلى كتاب (تاريخ الطب) لـ"ويليام بانيم"، وكتاب (تاريخ الطب من فن المداواة إلى علم التشخيص) لـ"جان شارل سورنيا".
الطب المصري القديم: المحاولة الأولى
ربما البارز في مرحلة الطب المصري القديم، هو سيادة النظرة الفلسفية الدينية على المحاولات الأولى للطب. كان الطب المصري القديم من أولى المحاولات، التي حاولت تفهُّم طبيعة الأمراض وطرق الإصابة بها.
مع انتشار السحر والظواهر الخارقة لتفسير المرض في البداية، لم يكن وجود الأطباء بطبيعة الحال منعزلاً عن الكهنة والمعبد؛ حيث حاول بعض الأطباء الاستفادة من المكانة الاجتماعية والسياسية للكهنة، فسمَّى بعضهم نفسه "الطبيب الكاهن" أو "الطبيب الساحر".
وكانت هناك بعض المحاولات التي ابتعدت عن السحر، كما تُسجل بعض البرديات مثل بردية "إدوين سميث"، وبردية "ايبرز" وغيرها من البرديات، التي قدمت صورة عن العقلية الطبية السائدة في مصر الفرعونية.
قدمت بردية "إدوين سميث" المحاولات المبذولة من قبل الأطباء في مصر للخروج من عباءة السحر، فقدَّمت لنا بعض التشخيصات للأمراض، والمحاولة التجريبية الأولى للعلاج، وأنواع العلاجات في تلك الفترة.
وبرزت عدة أسماء منها الطبيب "أمحوتب"، الذي عاش في عصر الدولة القديمة، في الفترة بين عامي 2600 و2667 قبل الميلاد تحديداً. ويُعد من أبرز الأطباء في عصره؛ إذ تمكَّن من وصف أكثر من 48 إصابة من الإصابات التي تُصيب الجسم، مستخدماً كثيراً من المصطلحات التي لا تزال تُستخدم في علم التشريح والجراحة في يومنا هذا.
وقد حفظت مصر القديمة للأطباء قدراً اجتماعياً، وإن لم يكن مثل الكهنة الذين سبقوهم في المكانة، وكان لهم ولرجال الدين تأثير كبير في النظرة للمرض؛ إذ كانوا ينظرون إلى المرض على أنه إثم ارتكبه الشخص، خاصةً بعض الأمراض العصبية مثل الصرع التي كانوا يعدونها أمراضاً مقدسة، تُمثل عقاباً إلهياً يحل بالمريض نتيجة ذنوبه.
فضلاً عن هذا، كشفت لنا البرديات التي ترجع للأسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى، ظهور المحاولات الأولى للتخصص في الطب؛ حيث ظهرت تخصصات مثل طب العيون، الذي بدأ في المعبد على يد أطباء وكهنة المعبد، مثل الكاهن "كوي" كبير كهنة معبد هليوبوليس الذي ابتكر قطرة للعين، وظهرت أيضاً علاجات لأمراض مثل التهاب الملتحمة، وتشوهات الأهداب.
أبقراط: أبو الطب الحديث
جاء أبقراط بأول محاولة علمية لتفسير ظاهرة المرض، وحاول أن يضع المرض في إطار غير إطار الخطيئة، يقول متحدثاً عن الصرع: "فيما يتعلق بالمرض المدعو بالمقدس، الأمر كالتالي: يبدو لي أنه ليس بأي حال أكثر ألوهية أو قدسية من غيره، لكن ثمة سبب طبيعي له ينشأ عنه مثل غيره من العلل، وإن إضفاء الناس صفة قدسية على طبيعته ضرب من الجهل".
تتضح هنا الرؤية العلمية التي جعلت منه رائداً للطب الحديث، وإن كانت سيرته تخبرنا أنه لم يكتب كل تلك الكتب التي تُنسب إليه؛ إذ إن أبقراط الذي عاش على جزيرة "كوس" اليونانية بين عامي (460 و370 ق.م) عاش حوالي سبعين عاماً فقط، بينما مجموعة الكتب التي تُنسب إليه يتضح أنها كُتبت على مدى حوالي قرنين من الزمان بأقلام متعددة.
جُمعت كل تلك الكتب فيما يُعرف بـ(المدونة الأبُقراطية)، التي بلغت حوالي ستين كتاباً أعيدت صياغتها في فترات متباعدة حتى القرن التاسع عشر؛ لتصبح دستوراً للأطباء في تعلم أخلاقيات الطب.
ورد فيها وجوب أن يكون المريض محور اهتمام الطبيب، وعلى الرغم من أن منهج أبقراط كان علمياً، إلا أنه ركز الاهتمام على المريض وليس المرض ذاته، فالطبيب يجب أن يتواصل مع مرضاه وطبيعة حياتهم، وبيئتهم، وأراد أبقراط وتلاميذه أن يكون المريض محور الطب، وأن تكون طرق العلاج العلمية محور الاهتمام.
عصر التشريح
عصور النهضة هي منبع كل التغيرات الثورية في التاريخ، حيث بدأ تصور جديد للعلوم كجزء من الحياة اليومية. وبدأت تُطرح أسئلة عما تركه القدماء من نصوص ومعتقدات، كان من بينها تساؤلات حول تشريح الجسم البشري، ومدى إمكانية حدوث ذلك دون الانتقاص من القدسية التي منحتها العصور القديمة للجسم البشري، وكانت تمنع تشريحه.
تبرز العديد من الأسماء التي ساعدت في هذا التطور، لكن أبرزها أندرياس فيزاليوس الذي يُعد أباً لعلم التشريح. لم يقبل فيزاليوس الطريقة التي تلقّى بها الطب في باريس، وبدأ في التشريح ليصحح كثيراً من المعتقدات الخاطئة التي كانت شائعة آنذاك، ومنها أن الدماغ والجهاز العصبي هما المتحكمان في الجسم البشري، وليس القلب كما كان مُعتقداً.
لاحقًا جاء دور الإبداع الشخصي مُتمثلاً في دافنشي، ومايكل آنجلو وغيرهما من فناني عصر النهضة، الذين نقلوا لنا صوراً تُجسد أعضاء جسم الإنسان؛ كي تنتقل بعدها إلى مدارس الطب في العالم أجمع.
الطب الحديث
جاءت التغيرات التي حدثت في الطب بعد الثورة الصناعية، لتكون على قدر ما حدث من تطورات شملت دخول الصناعة في كل مناحي الحياة.
ساهمت كثير من الاكتشافات والصراعات في تحديد طبيعة تلك الحقبة، التي بدأت باكتشاف "لويس باستور" العلاقة بين البكتريا والأمراض في عام 1854؛ ليكون هذا الصراع أحد أهم الصراعات في الطب الحديث.
تلاه اكتشاف "ألكسندر فلمنج" للبنسلين في عام 1928، الذي شكل بداية اكتشاف المضادات الحيوية الحديثة؛ ليكون انتصاراً كبيراً للبشرية في صراعها ضد الأمراض، قبل أن تفقد فاعليتها فيما بعد نتيجة سوء الاستخدام وجهل البشرية.
وبينما تزداد نسب الشفاء حالياً من أمراض مثل "التهاب الكبد الفيروسي سي" وبعض أنواع السرطان، تواجه البشرية تحدياً جديداً قديماً يتمثل في صراعها مع البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.
كانت فترة الخمسينيات من القرن الماضي فترة هامة كذلك في تاريخ الطب؛ إذ اكتشف فيها العالمان "واطسون و"كريك" تركيب اللولب المزدوج للحمض النووي "DNA" في عام 1953، الذي تسبب في حصولهما على جائزة نوبل في الطب عام 1962.
تلى ذلك العديد من التطورات والاكتشافات في الطب، بحثاً عن علاجات جديدة للأمراض بمساعدة التكنولوجيا الحيوية، وتستمر حتى عصرنا الحالي، ليبرهن الطب أنه غير قابل للتوقف مهما بلغ تقدمه.