يهتم علم الجينات بدراسة الوراثة على أسس علمية، والمقصود بالوراثة هنا هي العملية البيولوجية التي يَنقل من خلالها الآباءُ جيناتٍ محددة إلى أبنائهم، عبر الأجيال المتتابعة، إذ يرث كلُّ طفلٍ جيناتٍ وراثيةً من كل من والديه، وتعبر هذه الجينات بدورها عن صفات معينة.
بعض هذه الصفات قد تكون جسدية كالطول، ونوع الشعر، ولون البشرة ولون العين، أما بعضها الآخر فقد يحمل خطورةَ الإصابة ببعض الأمراض والاضطرابات، التي تنتقل من الوالدين إلى سلالتهم عبر الأجيال.
وهنا سنستعرض أبرز الأمراض التي قد تنتقل بالوراثة، وأيضاً أبرز أدوار الجينات في علاج الأمراض المستعصية.
التقدم في السن
يتدخل في عملية التقدم في العمر والشيخوخة مزيج مختلط من العوامل الوراثية وغير الوراثية، فقد أظهرت الدراسات أن نسبة 25% من التباين في طول العمر البشري نتيجة لعوامل وراثية.
كما نتج عن الأبحاث حول الأساس الجيني والجزيئي الذي تتأثر به عملية الشيخوخة تحديد جينات وظيفتها الحفاظ على الخلية، وعمليات التمثيل الغذائي الأساسية بها، بجانب دورها في إظهار العوامل الوراثية الرئيسية، التي تؤثر على وجود فروق فردية في النمط الظاهري للشيخوخة لدى كل فرد.
ومن بين العديد من التغيرات المصاحبة للتقدم في السن، والتي يعود جزء منها إلى العوامل الفردية لكل شخص، ونمط الحياة المتبع، تلعب الجينات جزءاً ليس بهين في ذلك، وتحظى دراسة خصائص الجينات باهتمامِ العديدِ من الباحثين، الذين لاحظوا أن التعديلات الجينية لا تؤثر فقط على عملية الشيخوخة ككيف، بل على النوعية كذلك، ما إذا كانت تسير بطريقة صحية متواترة، أم بطريقة مرضية متسارعة؟
علاوةً على وجود مواقع مميزة على طول الحمض النووي للجينوم البشري، يتمكن العلماء من خلالها من تحديد العمر الزمني لكل فرد، وتقدير العمر البيولوجي لأنسجة الجسم بدقة، بالإضافة إلى التنبؤ بأسباب الوفاة.
محاولات إبطاء الموت
يسعى العلماء لخداع الموت أو إبطائه لبضع سنوات، أو ربما عقود، من خلال تطوير تقنيات بمساعدة البيانات المتاحة عن الجينوم البشري، إذ يطمح عالم الجينات الأميركي الرائد كريغ فنتر، الذي كان من أوائل العلماء الذين قاموا بجمع الجينوم البشري في ترتيب متسلسل، أن يذهب إلى أبعد مما حققه مشروع الجينوم البشري، من رسم خرائط للمتشابهات السائدة في الحمض النووي، وبدأ في العمل على البحث وتسجيل الفروق الفردية في الحمض النووي الخاص بكل شخص.
وتهدف فكرة "فنتر" إلى رؤية جميع الترتيبات الوراثية الممكنة؛ من أجل فهم أفضل لسبب الوفاة عند كل فرد، وبالتالي تمكننا في المستقبل من تطوير نمط الحياة لكل فرد حسب احتياجاته وظروفه الصحية، الأمر الذي ينتج عنه حياة أطول وزيادة متوسط عمر الإنسان.
وقد تمكَّن "فنتر" حتى الآن من ترتيب الحمض النووي الخاص بـ40 ألف شخص، ويرغب في الاستمرار في جمع وإضافة المزيد من المعلومات.
علاج الأمراض المستعصية
لم يتمكن العلماء في السابق من إجراء أية تعديلات على الحمض النووي الموجود في أنسجة العين والمخ والقلب والكبد، والآن تأتي هذه التقنية الجديدة لتتيح لهم القيام بذلك لأول مرة، التي يمكن أن تؤدي إلى اكتشاف علاجات جديدة لمجموعة من الأمراض المرتبطة بعملية الشيخوخة.
إذ اكتشف العلماء طريقةً جديدةً لتعديل الحمض النووي، يمكنها إصلاح "الجينات المعطّلة" في الدماغ، وعلاج الأمراض المستعصية، وقد يكون من شأنها أيضاً أن تُطيل عمر الإنسان.
وقد نجحت هذه الطريقة في إعادة حاسة الإبصار جزئياً عند مجموعة من الفئران العمياء؛ نتيجة إصابتها بمرض وراثي يدعى التهاب الشبكية الصباغي (Retinitis Pigmentosa)، وهو حالة يُصاب بها البشر أيضاً، إذ يُعاني منها شخص من كل 4000 في المملكة المتحدة.
وعندما لا تقوم الخلية بالانقسام مثل خلايا الدماغ، يصبح من الصعب تعديل الحمض النووي الخاص بها، لكن مع تطوير هذه التقنية أصبح من الممكن للمرة الأولى الدخول إلى الخلايا التي لا تنقسم، وإجراء التعديلات على الحمض النووي الخاص بها، وسُميت هذه التقنية بـHITI، وتستند في أساسها على تقنية تعديل الجينات الشهيرة "كريسبر- CRISPR".
هل سنشهد إحياء الموتى؟
حصلت تجربة فريدة من نوعها على موافقة من الهيئات الرقابية الصحية؛ لمعرفة ما إذا كان من الممكن تجديد خلايا أدمغة الأشخاص المتوفين سريرياً، ومُنِح الدكتور الهندي هيمانشو بنسال، رائد التجربة، والمتخصص في الهندسة الحيوية إذناً أخلاقياً يسمح له بإجراء أبحاثه على 20 مريضاً، تم الإعلان عن وفاتهم سريرياً نتيجة إصابات في جذع الدماغ؛ لاختبار ما إذا كان يمكن إعادة إحياء أجزاء في الجهاز العصبي المركزي الخاص بهم.
سيستخدم الفريق البحثي في تجربته مجموعة من العلاجات، التي تشمل حقن الدماغ بالخلايا الجذعية، ومزيج من سلاسل الأحماض الأمينية "البيبتيدات"، فضلاً عن أشعة الليزر وتقنيات تحفيز الأعصاب، التي ثبت أنها ساعدت من قبل في إيقاظ مرضى من الغيبوبة.
ويعتقد الفريق أن الخلايا الجذعية الدماغية، لها القدرة على محو تاريخها السالف، وإعادة بدء الحياة مرة أخرى من جديد، معتمدةً على الأنسجة المحيطة بها، فيما استلهم الباحثون هذه الفكرة من عملية مشابهة تحدُث في عالم الحيوان، كما في مخلوقات السالاماندر البرمائية، التي لها القدرة على أن يُعاد نمو أطراف بأكملها في جسدها من جديد.
تُعد هذه التجربة الأولى من نوعها، وتُمثل خطوةً أخرى نحو خداع عملية الموت، والهروب من المصير الحتمي الذي سيواجه البشرية جمعاء في نهاية المطاف، إذ أعلن الدكتور بنسال أنه حقق بالفعل بعض النجاح مع مريضين متوفَّيْن سريرياً في الخليج وأوروبا.
وأضاف أن الحالتين لا تزالان في درجة وعي منخفضة، لكن من يدري قد تتحسنان أكثر وتصلان إلى درجة وعي معقولة، تمكنهما من متابعة حياتهما.
وفي النهاية، تهدف دراسته إلى الوصول لفهم أعمق وأشمل حول أمراض تلف الجهاز العصبي، مثل الوفاة الدماغية التي يحدث فيها تلف دائم لجذع المخ، بالإضافة إلى الأمراض العصبية الأخرى كالزهايمر ومرض باركنسون.