يدرس الطلاب في الهند منذُ سِنٍ صغيرة أن إسهام بلادهم الكبير في الرياضيات هو اكتشاف الرقم الصعب وهو الصفر.
ففي القرن الخامس، استخدم عالم رياضيات هندي الرقم صفر في نظام القيمة المكانية على أساس عشري، وهو إنجازٌ دائماً ما احتفل به المواطنون الهنود بفخر.
والآن، أراد فريق صغير وطموح من العلماء الهنود والأجانب، يُدعى "مشروع الصفر" أن يتعمَّق بشكلٍ أكبر. فخلال العام الماضي، باتوا يطرحون السؤال: ما الذي جعل اختراع الصفر في الهند ممكناً؟
فالمبادرة هي مزيج من البحث الأكاديمي والفخر الثقافي، الذي يتزامن مع موجةٍ جديدة من الوطنية المُفرطة بين الهنود، والتي أخذت في التصاعد منذ أن تولى ناريندرا مودي، الرجل الهندوسي القومي، السلطة كرئيسٍ للوزراء في 2014. فالهنود يسترجعون تراثهم، واعتنقوا ممارسة اليوجا، ويروجون للغة السنسكريتية القديمة، ويشترون منتجات عشبية تقليدية، ويحتفلون بإنجازات في التاريخ التي أحياناً ما يبالغون فيها، وفقاً لما ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية.
وفي حَدثٍ مدته 3 أيام الهدف منه تحريك الأفكار، يُسمى "مُخيم الصفر"، الذي سيُقام في أبريل/نيسان في مدينة نيودلهي. سيأخذ فيه العديد من العلماء مخزوناً مما هو معروف بالفعل عن أصل الصفر وإجراء بحث جديد لمعرفة ماهية التقاليد الفلسفية التي من المحتمل أن تكون قد قادت الهنود لاستنتاج هذا المفهوم.
وذكر الموقع الإلكتروني الخاص بالمجموعة أن المُهمة "هي محاولة لتسويةِ كل الجدل المستمر في أنحاء العالم على نحو حاسم حول متى، وأين، ولماذا اختُرِعَ الرقم صفر".
دور العرب والمسلمين في اختراع الصفر
يقول المسلمون إنهم من اخترع الصفر، وتحديداً العالم الفارسي الخوارزمي، فقد عمل العالم المسلم الخوارزمي في ضوء الخلافة العربيّة العباسية على فهم طريقة استخدام الهنود للأرقام، ومن خلال بحثه نشر في كتابه أن التمثيل الرقمي الصحيح هو استخدام الأرقام التسعة من 1 حتى 9 لإعطاء قيمة، أما الرقم صفر فهو عبارة عن نقطة لا قيمة لها، لكن يمكن استخدامها في الأرقام لعدم حصول اللبس في خانات العشرات والآحاد، كما أن الخوارزمي هو من بيّن أن الصفر على اليسار لا قيمة له، ولكن لو كان على اليمين فيكون له دور في زيادة قيمة العدد.
قال روبندر ساشديف، رئيس مؤسسة Imagindia التعليمية، وهي شركة ضغط سياسي تعمل على ترويج صورة الهند وتدعم المشروع، إن "المشروع سيعزِّز "مُخيلة الهند وصورتها".
وكان أصل الصفر موضع نقاش دائم؛ لأن هناك ثقافات أخرى مثل شعب المايا الذي يدَّعي أنه قد سَبق له استخدام الصفر.
وأضاف دينيش سينج، أستاذ الرياضيات في جامعة دلهي عضو الجمعية الهندية لتاريخ الرياضيات: "العثور على مصدر الصفر أشبه بالعثور على مصدر النيل. فلا أحد يعرف بالضبط متى وكيف ظهر الرقم صفر". وهو لا تربطه علاقة "بمشروع الصفر".
ويقول العلماء المشاركون في "مشروع الصفر": "إن مربط الفرس يكمن في الخطابات الفلسفية القديمة للهندوسية والبوذية عن مفاهيم "الفراغ" و"الخلاء" التي بدأت قبل قرون من ظهور رقم الصفر الرياضي.
وتؤكد أنيت فان دير هوك، العالمة الهولندية في الدراسات الهندية والمنسِّقة في "مشروع الصفر"، أنه "بالرغم من ظهور الصفر في أماكنٍ مختلفة وفي أشكالٍ مختلفة، فإن الفضل يرجع إلى الهنود في تعريفه إلى العالم. ولكن الصفر لم يظهر فجأة. فقد توصلنا إلى الفكرة الثقافية للاشيء أو الفراغ في الفلسفة، والفنون، والهندسة منذ وقتٍ سابق. ونحن نريد أن نتتبع خطاها منذ أطول وقت ممكن، بحثاً عن الجسور التي بين الرياضيات والفلسفة. فما العقلية الفلسفية التي هُيئت هذه الأرض الخصبة لمثل هذا الاختراع؟".
دور مخيم الصفر
وفي "مخيَّم الصفر" سيضع علماء الرياضيات، والفلاسفة، وعلماء الفيزياء الفلكية، وعلماء الآثار، وعلماء جمع القطع النقدية أسئلة بحثية لعلماء الدكتوراه، ودراسة المخطوطات، والعملات، والألواح الحجرية، والأختام. ويأملون أن هذا البحث سيسهم في إنتاج الكتب، وإثراء الكتب المدرسية، وتوفير فرص لأبحاث الدكتوراه.
ويقول ساندر ساروكاي، أستاذ الفلسفة في المعهد الوطني للدراسات المتقدمة في مدينة بنغالور الهندية، "إن عقيدة "السونياتا" أو "الفراغ" هي واحدة من أعمق الإسهامات الفلسفية من قِبل الهند".
ويوضح أن "العلاقة المُحتَمَلَة بين هذا المفهوم ورقم الصفر الرياضي أمرٌ مثير للاهتمام أيضاً، ونأمل أن مثل هذا العمل سيجذب المزيد من الطلاب لدراسة وبحث هذه التقاليد الفلسفية والرياضية، الأمر الذي من سخرية القدر لاقى إهمالاً من الهنود أنفسهم".
فالنصوص البوذية الفلسفية التي ترجع إلى القرن الثالث الميلادي تحتوي على آياتٍ مُفصَّلة عن الفراغ أو "السونياتا" في اللغة السنسكريتية.
وعلاوة على ذلك، استخدم شعب المايا "شكلاً صدفياً" يشبه صدفة السلحفاة الفارغة لوصف الصفر قبل الحقبة العامة (وهي طريقة ترقيم التقويم اليولياني)، ولكن يقول المؤرخون الهنود إنها لم تبدُ أنها أثرت على نُظم الترقيم العالمية. ونقل التجار العرب الذين صادفوا الصفر في الهند إلى الغرب.
لكن الأمر واسع الانتشار في الكتب المدرسية في الهند أن أريابهاتا، وهو عالم في الرياضيات والفلك، استخدم في القرن الخامس الصفر كماسكٍ للمكان وفي الحلول الحسابية للعثور على الجذور التربيعية والجذور التكعيبية فى أطروحاته السنسكريتية.
وخلال العام الماضي، نُصِبَ تمثالٌ نصفي لأريابهاتا من البرونز في مكتب اليونسكو في باريس أثناء مؤتمرٍ عن الصفر.
لطالما كان الأصل الهندي لرقم الصفر وللنظام العشري مصدرَ فخرٍ قومي، حتى أنه خُلِّدَ في أغنية بوليوودية في 1970 مازالت تُنشَد في المناسبات العامة.
إلا أن الخبراء يقولون إن كثيراً من المعرفة التقليدية الهندية القديمة شفوية، ما يجعل من الصعب تحديد تاريخ ظهور أصل الصفر.
ويقول راماسابرامانين، خبير الرياضيات الهندية القديمة في المعهد الهندي للتكنولوجيا في بومباي، إن "مستوى الدهاء الذي أظهر به أريابهاتا عدد الدورات التي تقوم بها الكواكب يشير بوضوح إلى حقيقة أن الهنود كانوا قد طوَّروا آنذاك بالفعل معرفة عملية بالصفر ونظام القيمة المكانية".
وأثناء ورشة عمل أخيرة لمشروع الصفر في نيودلهي، قال إن عالم هندي استخدم الكلمة "سونيا"، والتي تعني صفراً باللغة السنسكريتية، إضافة إلى التعبير عن عملية حسابية في نصٍّ يرجع إلى القرن الأول قبل الميلاد.
لكن ليس الجميع متشوقون لاكتشافٍ عظيمٍ جديد.
وقال سينج: "ستكون مهمةً شاقةً، وستستلزم الكثير من المال. فمخطوطاتنا القديمة متفرِّقة في كل مكان، حتى من المحتمل أن يكون بعضها خارج البلاد. سيكون عليهم أن يقوموا بجهود متضافرة لحل شفرات المخطوطات وتأريخها وترتيب تسلسلها. لكنني أشك في أنهم سيصلون إلى أي شيء نهائي".
هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة The Washington Post الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.