يسود اعتقاد في الأوساط العلمية أن أي دراسة منفردة، نادراً ما تقدم نتيجةً نهائياً. لكن رغم ذلك، من الصعب جداً على الصحافيين المعنيين بمجال العلوم، مقاومة جاذبية نشر الدراسات العلمية دون انتظار تمحيصها، على اعتبار أن النتائج العلمية الجديدة الجريئة تصنع عناوين مثيرة ومغرية.
موقع Vox الأميركي، ضرب مثالاً بتقريرٍ نشرته هيئة الإذاعة البريطانية BBC يزعم أن تناول 7 خضروات وفواكه يومياً ينقذ الحياة. بالمقابل، تقول دراسة أخرى أن تناول أكثر 5 خضر وفواكه لا أثر له على الصحة! فأي الدراستين صحيح؟
يقول Vox إن المشكلة الأساسية ليست بالضرورة أن هذه الأبحاث غير مدروسة بطريقة جيدة (حتى وإن كانت بعضها فعلا كذلك)، بل تكمن المشكلة في كون أن كل تقرير عن هذه التجارب العلمية لا يقدم في حقيقة الأمر سوى لمحة جزئية ناقصة عن كيفية سير البحوث العلمية.
ما يحدث عادةً هو أن مخبراً ما يتوصل إلى نتيجة معينة، ثم يحاول مختبر آخر تكرارها على نحو مثالي. وتتواصل عملية مسح كل شيء، ثم معاودة التجربة. لكن في نهاية المطاف يحتاج الأمر إلى مراجعة تُحلل فيها مجمل الأدلة – بشأن المسألة محل الدراسة – للتوصل إلى نتيجة قطعية. وبذلك تكون هذه المراجعة أقرب إلى الإجابة الصحيحة، مقارنة بأي دراسة منفردة.
دراسة عن الصحافيين
واكتشف باحثون تابعون لمجلة PLOS One العلمية مؤخراً، أن الصحافيين عادةً ما يقتصرون على نشر البحوث الأولية، ويغضون الطرف عن المراجعات التي تصدر لاحقاً.
كما سلطت الدراسة الضوء على أمر أكثر أهمية، حيث كشفت أن الصحافيين "يخفون عن الجمهور عندما يتضح لهم أن دراسة ما قد لا تكون صحيحة" – رغم أن من ما يقرب من نصف الدراسات التي ينشرها الصحافيون تدحضها لاحقاً دراسات المتابعة!
قد يحتاج الأمر إلى إجراء العديد من البحوث للإجابة على سؤال بسيط مثل "هل النظام الغذائي الذي يتضمن لحم البقر، يزيد من احتمال الإصابة بالسرطان أم يقللها؟".
إذا نظرنا إلى مختلف البحوث وتنوعها، نجد أن بعضها يحث على تناول هذه اللحوم باعتبارها تقي من الإصابة بالسرطان، في حين تحذر بحوث أخرى من تناولها، بسبب زيادة احتمال الإصابة بالسرطان.
للتعمق في الأمر، جمع القائمون على دراسة PLOS One قاعدة بيانات ضخمة من الدراسات، وتلك المتابعة لها، والمراجعات الفوقية على تلك المتابعات. ثم بحثوا في قاعدة بيانات صحيفة Dow Jones Factiva، لمعرفة عدد المرات التي تم فيها تغطية كل نوع من أنواع هذه الدراسات.
واكتشفوا أن احتمال تغطية الدراسات الأولية يزيد حوالي 5 مرات عن تغطية دراسات المتابعة، بينما كان حظ المراجعات الفوقية شبه غائب!
كما أثار انتباههم، تلك الجاذبية المفرطة لدى الصحافيين واندفاعهم نحو نشر التقارير عن الدراسات التي تتمخض عن نتائج إيجابية – رغم أن الدراسات التي تقدم نتائج سلبية لا تقل أهميةً -، ومن بين 1475 موضوعاً صحافياً في مجموعة البيانات، 75 مادة فقط تعرضت لنتائج سلبية.
إلى جانب ذلك، يبدو أن الصحافيين يتحمسون للكتابة حول الدراسات المرتبطة بخيارات نمط الحياة؛ مثل إتباع نظام غذائي أو ممارسة رياضية (وخاصة تلك التي تنشر في المجلات المرموقة). في المقابل، لا تحظى الدراسات التي لا صلة لها بنمط الحياة – كمشاكل الدماغ أو الوراثة – إلا بالقليل من الاهتمام أو التجاهل من قبل الصحافيين.
واستخلص الباحثون أن سبب هذه "التغطية التفضيلية" يعود لقابلية القراء وحماسهم على اتخاذ إجراءات مباشرة في كل ما يتعلق بخياراتهم في حياتهم اليومية.
نصف الدراسات خاطئة
وتوصل تحليل المجلة العلمية إلى أن 48.7 % فقط من أصل 156 دراسة نشرت في الصحف، حصلت لاحقاً على تأكيد يوثق نتائجها من مراجعات فوقية.
حتى وإن انجر الصحافيون وراء تغطية الدراسات المعنية بنمط الحياة، مثل إتباع نظام غذائي أو ممارسة رياضة، فكل المؤشرات تبيّن أن مثل هذه الدراسات هي الأقل احتمالاً لتوثيق من المراجعة الفوقية (مقابل الدراسات الأكثر تعقيداً).
وأوردت خلاصة البحث، "أظهرت دراستنا أن العديد من النتائج الطبية، التي نقلتها الصحف، دحضتها دراسات لاحقة، ويعود ذلك جزئياً إلى تفضيل الصحف تغطية الدراسات الأولية (الإيجابية) بدلاً من تغطية الملاحظات العلمية اللاحقة، وسيما تلك التقارير التي تنقل نتائج سلبية. وتشير دراستنا أيضاً أن معظم الصحافيين من الصحافة العامة لا يعرفون أو يفضلون عدم التعامل مع المستويات المرتفعة من الغموض الكامن في الدراسات الطبية المبكرة".
لماذا يهتم الصحافيون بالدراسات المنفردة؟
1- يحتاج الصحافيون إلى عناوين مغرية تحوي دروساً بسيطة يمكن للقارئ استيعابها ومن الأفضل أن تكون مثيرة.
2- الخطأ لا يتحمله الصحافيون وحدهم، عادة ما تفضل المطابع الجامعية نشر الدراسة المنفردة المثيرة مقارنةً بنشر إصدارات المراجعات الفوقية.
3- غالبا ما تدعم البحوث العلمية أو الإصدارات الصحافية الهالة الإعلامية حول النتائج الأولية. ويلاحظ زيادة استخدام المفردات الإيجابية في عناوين وملخصات الأبحاث في المجلات المتخصصة بالترويج للأعمال الطبية.
من هنا، اقترح الباحثون في PLOS One بعض النصائح لمساعدة الصحافيين في تغطية وقائع دراسات جديدة. أول هذه النصائح، ربط اتصال هاتفي بالباحثين لمعرفة ما إذا كانت نتائج دراستهم أولية، وإذا كان الأمر كذلك، يجب عليهم إبلاغ قرائهم بأن هذا الاكتشاف لا يزال مؤقتا ويتطلب التصديق عليه من قبل دراسات لاحقة.
ينبغي ملاحظة أيضاً أن دراسة PLOS One يعتريها هي نفسها بعض العيوب، مثل اقتصارها على مواضيع الصحف، بينما المنظومة الإعلامية المعنية بمجال العلوم أكبر بكثير من مجرد الصحف.
بدورها، أوضحت ايستيل دوماس ماليت، المسؤولة الرئيسية عن الدراسة أن نتائج دراستها تستند فقط إلى عينة صغيرة من البحوث العلمية، ومن ثم لا يمكن إسقاط هذه النتائج على مجالات أخرى مثل الفيزياء والكيمياء.
واقتصرت الدراسة فقط على المقالات الإخبارية المنشورة في غضون شهر واحد من نشر البحوث العلمية التي استشهدت بها.
هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Vox.com. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.