في قبوٍ بحي هاتون غاردن بلندن، يقوم فريق إنتاج صغير بتشغيلِ فرنٍ تبلغ حرارته 2000 درجة مئوية، وهي حرارة من شأنها صهر أغلب المواد التي توضع فيه.
كل يومٍ هنا، في مصفاة "ماسترميلت" لتكرير المعادن النفيسة، تدخل الفرن موادٌ جمعتها ورش صنَّاع المجوهرات: أكياسٌ كاملة من المكانس الكهربائية، ومناديل مُبلَّلة مُستخدمة، وأوراق صنفرة، وحتى سجاجيد قديمة، على أمل أنه بعد معالجة الرماد، ستتبقى كميات من الذهب، والبلاتين، وغيرهما من المواد، تُقدَّر قيمتها بآلاف الجنيهات، بحسب تقرير لصحيفة Financial Times.
يقول غاري ويليامز، المدير في "ماسترميلت": "نقول للناس دائماً: لا تتخلصوا من أي شيء"، وكان ويليامز قد دفع الأسبوع الماضي 17 ألف جنيه إسترليني لصائغٍ كان يُخزِّن المُخلَّفات التي تنتجها ورشته، ويضيف: "كان يُخزِّن كل تلك الأشياء، ولم يكن يعرف كم تساوي من المال".
أرباح من المخلفات
وتجني مصفاة "ماسترميلت" أرباحها من العمولات التي تأخذها من قيمة تكرير تلك المخلفات والمعادن، وكذلك من فرض رسومٍ على عملية المعالجة.
ويُعتبر جزءاً من عمل ويليامز أن يُعلِم تجَّار المجوهرات بالمكافآت المالية التي يمكن أن يجنوها من تخزين كل النفايات، وإرسال الحمولة إلى أحد معامل التكرير، حيث تُصهر ويُستخلَص منها المعادن النفيسة.
معظم الصاغة أذكياء بما يكفي ليجمعوا المهملات الصلبة، المعروفة بالبرادة، والتي تَعلَق في جلود الحيوانات المفروشة تحت مقاعد وطاولات العمل، أو قصاصات الأظافر التي يقلِّمونها حين يضعون حبَّات الماس في الخواتم.
وبمجرد وزن هذه النفايات، يمكن التأكد من قيمتها بسهولة، ولدى "ماسترميلت" تطبيقٌ يمكن تحميله؛ كي يطَّلِع الصاغة دورياً على الأسعار المتغيِّرة.
لكن تلك المعادن النفيسة التي لا يرونها تدرّ قدراً مذهلاً من المال، وتنتج عن العمليات الضرورية لصوغ المجوهرات يدوياً أو آلياً، مثل التجليخ والملء والتلميع، سُحب مجهرية من الغبار النفيس في الهواء، ويهبط هذا الغبار في أي مكانٍ، وقد يعلق في الملابس والأحذية.
ويقول ويليامز: "ذهبنا إلى ورشةٍ في برمنغهام، ووجدنا أمام المبنى مباشرةً بساطاً كبيراً مفروشاً على الأرض بمساحة 4 أقدام مربعة. كل من يدخل أو يخرج من المبنى يسير على هذا البساط، وظلَّ الأمر كذلك 7 أو 8 سنوات".
ويضيف ويليامز: "لم يعتقدوا أن البساط يساوي شيئاً؛ إذ لم يكن داخل الورشة نفسها، لكنهم على أية حال سمحوا لي بأخذه، كنسنا القاذورات والعوالق، وعالجناها، واستخرجنا منها ما يساوي بضع آلافٍ من الجنيهات الإسترلينية". وصادف معمل "ماسترميلت" مفاجأةً أخرى حين عالَجَ زوجاً من أغطية المقاعد المكسوَّة بغبار البلاتين؛ إذ دفع المعمل 3 آلاف جنيه إسترليني للصائغ.
لدى ويليامز الكثير من القصص عن استخلاص المعادن النفيسة، والمفاجآت القيِّمة التي يجدها خلال ذلك، لكن أغلب هذه القصص تظل سراً بين العاملين في هذه الصناعة. ويقول ويليامز: "الناس هنا لا يحبون أن يدور الحديث حول الأمر، فالأمر يتعلق برواتبهم وحوافزهم. والأموال التي تجنيها من عمليات المعالجة تُعتَبَر سيولةً نقدية لتمويل هذا العمل. هذا مالٌ نعثر عليه".
والتوقيت مهم كذلك؛ للتأكد من أنَّ عملية التكرير سوف تدر أكبر قدر ممكن من الأرباح.
في البدء، ينبغي للصائغ أن يضمن أنه جمع ما يكفي من المخلفات ليكون الأمر مربحاً.
وقال ستيوارت ويبرلي، مدير المبيعات بشركة "كوكسونغولد"، وأحد العاملين في مجال التكرير، إنَّ عملية المعالجة هذه تكلف سعراً موحداً هو 300 يورو "سواء كان ما معك 30 حقيبة من المخلفات أو 300″ (و"ماسترميلت" تقول إنَّ الأسعار متغيرة، لكنها تساوي نحو 4 يوروات لكل كيلو من المخلفات تتم معالجته). ثم هناك أسعار المعادن، ويقول ويليامز إنَّ "ماسترملت" كانت "غارقةً في العمل" بعد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في شهر يونيو/حزيران الماضي؛ إذ ارتفعت أسعار الذهب من 1265 دولاراً للأوقية في اليوم السابق للاستفتاء، إلى 1316 للأوقية في اليوم التالي.
كان يعدّ مكافأة
لطالما كانت استعادة النفايات المعدنية الثمينة حجر الزاوية في الروتين اليومي في ورش عمل الجواهر، لكنَّ هذه الممارسة لم تكن في الماضي معقدة كما هي الآن. وقال مارك بريتن، الذي يعمل في شركة عائلته، شركة "بريتينز ماركينج"، في تصنيع أدوات معقدة لصناعة الجواهر الفخمة: "لقد كان هذا الأمر يعتبر مكافأةً في عالم صناعة الجواهر".
أدار بريتن الشركة، التي أنشئت عام 1850، من فترة السبعينات حتى أوائل الألفية الثالثة، عندما تقاعد من تجارة المجوهرات. والآن، يدير بريتن شركة إعلانات عقارية في برمنغهام.
ويتذكر بريتن كيف كانت أوعية الحلوى القديمة مليئة بلفافاتٍ ضئيلة من المعدن، والتي تتكون في أثناء نقش الحروف على الأزرار المعدنية. وكان أحد أصحاب ورش المجوهرات بلندن، التي كانت الشركة تعمل معها في الثمانينات، يحافظ على كل قصاصات النقش التي لم يطلب الزبائن استعادتها، وقال بريتن إنَّ بعض الزبائن كانوا من الحنكة بما يكفي لكي يطالبوا بهذه القصاصات، ويبيعوها مرة في العام ليتمكن من دفع نفقات رحلة بحرية على متن سفينة "QE2″ الفاخرة.
حدث هذا خلال الفترة التي يدعوها العاملون في تلك الصناعة بـ"أيام البريلكريم" (البريلكريم هو أحد مستحضرات التجميل الخاصة بالرجال). فقد قيل إنَّ العاملين في مجال الجواهر كانوا يدهنون شعورهم بكريم "بريلكريم"؛ من أجل أن يستطيعوا لاحقاً تمرير أياديهم، المغطاة بالغبار المعدني الثمين، في شعورهم؛ ليستعيدوا ما فيها من ذهب أو فضة لاحقاً.
ولدى بريتن حكاياتٌ كثيرة عن هذه الممارسات، ويشير ونشتر جولر جيريمي فرانس، الذي تدر عليه عملية الكنس التي يجريها في ورشته مرتين في العام دخلاً يتراوح بين 6 إلى 8 آلاف يورو في المرة الواحدة، ضاحكاً إلى تعبيرٍ في الصناعة يقول بأنَّنا "لا نوظف أناساً بأيادٍ متعرٍّقة أو سراويل مطوية لأعلى، وهما شيئان مثاليان لمراكمة غبار الذهب القيّم".
للوحات الأرضية ثمن
وعلى ارتفاع 4 طوابق من محل مجوهرات "ديفيد موريس" في شارع بوند، يقول ديف ويدنسون، الذي يعمل في صقل المجوهرات منذ 40 عاماً، إنَّه رأى مرة ألواح الأرضية تلمع عندما كان متدرباً في إحدى الورش.
وقال ويدنسون: "عندما اشترت شركة بنتلي آند سكينر الورشة، أخذت كل اللوحات الأرضية، وكانت كمية الغبار التي وجدوها هناك لا تصدق؛ إذ وجدوا أكواماً من الحبوب الممتازة حول الحواف".
وعندما كان ويليامز يعمل في مصنع "براون آند نيوويرث" لتصنيع خواتم الأفراح، نُقِلَ المصنع إلى مكانٍ آخر عام 1990، وعندما تم تفكيك درج المصنع الخشبي، الذي كان يصل إلى ارتفاع 5 طوابق، وجدوه مشبعاً بالمعادن النفيسة إلى درجة أنه بدا كما لو كان "يلمع كسطحٍ رخامي بأحد المطابخ".
واتضح أنَّ هذه المعادن كانت تساوي عشرات آلاف الجنيهات الإسترلينية، بما يكفي لشراء سلالم جديدة ودفع نفقات نقل الورشة.
ويتذكر ويبرلي من شركة "كوكسونغولد"، التي تزعم أنها أكبر مصافي تكرير المعادن النفيسة في المملكة المتحدة، وأنها تقوم بـ25 ألف عملية معالجة سنوياً، عندما نُزعت أرضية الباركيه في مصنعه، وأدت المعادن النفيسة الموجودة في الخشب إلى أن صارت قيمة هذا الخشب 20 جنيهاً إسترلينياً للمتر المكعب.
بعض العمليات الكبيرة، مثل حرق اللوحات الأرضية، أو السجاد، أو المقاعد، تحدث عندما ينتقل صاحب الورشة أو يطوِّر ورشته. وهناك خياراتٌ أقل تطرفاً لتلك الفترة الانتقالية، مثل خدمات الكنس المتخصصة، أو صنفرة الطبقات العليا من المقاعد ومعالجة غبار الخشب. ويتمثل التحدي في التقاط النفايات يومياً، وهذا فنٌ يصقَل يوماً بعد يوم، خصوصاً من قِبل المصنعين الكبار الذين يتربحون كثيراً من هذه العملية.
التكنولوجيا الجديدة التي تطبقها هذه المصانع تزيد من النفايات، وتتطلب جهداً أكبر في استعادتها. وقال أحد الصاغة البريطانيين، ولم يحب الإعلان عن اسمه، إنَّه استثمر في آلات طحن مغلقة بها شافطات لالتقاط اللفافات والخراطة (الشبيهة بنشارة الخشب من المعادن الثمينة) والتي تخرج بسرعة عالية من عملية الطحن هذه. كل واحدة من هذه الآلات بها مرشح يمكنه فصل هذه المواد ولو كانت في حجم الميكرون (وهو أضيق كثيراً من عرض شعرة الإنسان).
يقع مصنع "هوكلي مينت" في حي ورش الجواهر بمدينة برمنغهام، وهو مصنع جواهر برأس مال قدره 12 مليون جنيه إسترليني، يُنتِج ما يصل إلى 140 ألف قطعة سنوياً. ويتطلب جمع الغبار في هذا المصنع، الذي يقع على مساحة 30 ألف قدم مكعب، جهود تنظيف وجمع يومية، إلى جانب استخدام مكانس كهربية محددة.
وقال مدير المصنع، غاري رو: "أحد الأشياء الجديدة نسبياً التي طبقناها، أنه عندما يغسل العمال أيديهم فإننا نحتفظ بالمناديل الورقية التي يجففون بها أياديهم".
وأضاف رو: "استعدنا 2000 جنيه إسترليني خلال 12 شهر من المناديل وحدها، وهذا المبلغ يذهب مباشرةً إلى الأرباح".
طَوَّر مصنع "هوكلي مينت" أيضاً نوافذ ورشة الصياغة لتكون ستائر النوافذ مغطاة بألواح من الزجاج من الجانبين؛ وذلك لأن نسيج الستائر كان يلتقط غبار المعادن الثمينة، فضلاً عن أن الورشة لديها مغسلة بالداخل لمعالجة ملابس العمال.
وكانت أكبر صفقة قام بها المصنع لاستعادة المعادن الثمينة هي تدشين فرن لحرق المعادن، بدأ العمل منذ 18 شهراً، لصهر المعادن، وليس لمعالجة البرادة. ويقول رو: "إذا قمت بإرسال كيس من المواد لمكان آخر، لا تعرف ما الذي سيعود إليك"، وأضاف أن قيمة المعادن النفيسة التي يجمعونها زادت منذ امتلاكهم فرن الحرق الخاص بهم.
ويشارك رو في تخوُّفه الكثير من العاملين في هذه الصناعة؛ فعند النظر إلى تراكم الرواسب في صهاريج الترسيب المُثبَّتة تحت الأحواض، ورؤوس المكانس، وغيرها من القاذورات والنفايات الأخرى التي يتم تجميعها في أثناء الكنس، فإنَّه من المستحيل تقدير حجم الأموال المتراكمة، رغم وجود طرق للمساعدة على التخمين.
حصائر لاصقة على الأبواب
ويتوقع صاغة المجوهرات خسارة جزء من المعدن في أثناء مرحلة الإنتاج، ولهذا يخططون لمعالجة هذا الأمر. فبالنسبة لورشة متجر "ديفيد موريس"، فإنها تستهدف خسارة المعدن بحد أقصى 5%، رغم أن حرفييها يظنون أن النسبة المستهدفة هي 1% أو 2%، وتوفر الورشة دليلاً بالأشياء التي يمكن تجميع بقايا المعدن منها.
ويستخدم مصنع "هوكلي مينت" الموازين الدقيقة للتنبؤ بحجم المعدن المراد استعادته بدقة؛ إذ يقول رو: "نقيس وزن الذهب قبل الصياغة وبعد الصياغة، ونسجل الأرقام؛ حتى نستطيع القيام بتقديرٍ تقريبي لوزن المعدن الذي ينبغي تجميعه".
وبالنسبة للصاغة الآخرين، تعتمد تخميناتهم على الخبرة، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى احتكاكٍ بين الصائغ والمسؤولين بمصفاة التكرير في حال وجود تباين في التقديرات. ويقول ويليامز: "بعض الناس لديهم توقعاتٌ تستند إلى تاريخ المعاملات، لكنهم ليس لديهم فهمٌ كامل لما يجري"؛ إذ يشير ويليامز إلى بعض العوامل المؤثرة على هذه التقديرات مثل تغيُّر أسعار الذهب، أو أن وزن المواد التي تجري معالجتها يمكن أن تكون متطابقة، ولكن محتوياتها متباينة. ويضيف قائلاً: "في هذه الصناعة، الثقة عامل كبير".
ولكن، لا بد أن تكون هذه الثقة متبادلة؛ إذ تستغرق معالجة البرادة التي يتم جمعها أسابيع، وتدفع مصفاة التكرير أحياناً المال على أساس العائد المتوقع، الأمر الذي يتيح للصاغة الأمناء فرصةً لخداع مصافي التكرير.
وأضاف ويليامز قائلاً: "سمعت عن قصة تكرير لمخلفات إحدى الورش، بدأ المعالج في تكريرها، ودفع للعميل دُفعةً مسبقة على أساس المعاملات المعتادة سابقاً، وعندما نظر العمال في كيس المخلفات، اكتشفوا أن أرضية الكيس كانت عبارة عن بعض الصحف".
وتدفع متاجر "كوكسونغولد" سلفاً لعملائها في لندن وبرمنغهام. ويعد النشاط التجاري لكوكسونغولد جزءاً من أعمال مجموعة "Heimerle + Meule" الألمانية، وتتم الكثير من عمليات المعالجة والتكرير لشركة "كوكسونغولد" في مصانع المجموعة بإسبانيا وألمانيا. وهذا يضيف إلى وقت المعالجة، لذلك تقوم بالمرحلة السابقة لصهر المعدن في لندن؛ للتأكد من نوعية المواد التي ترسلها إلى المصانع.
وسوف تقوم ورش مصنع "هوكلي مينت" بنفسها في المرحلة المقبلة بعملية صهر المواد المجمعة قبل إرسالها للمعالجة، إلا أنَّ رو لم يلتزم بعد بتنفيذ هذه المرحلة. وعلَق رو على ذلك قائلاً: "هذه مهارة مختلفة، وسينبغي لنا الاستعانة بالخبراء الفنيين، لذلك سوف نبدأ في هذه المرحلة بمجرد التأكد من أنها تستحق كل هذا العناء".
ورغم أن طريقة تعامل رو مع عملية استعادة غبار الذهب تعتبر أكثر تقدماً من العديد من الورش الأخرى، فإنه يُسَلِّم بحقيقة عدم قدرته على الإلمام بجميع مراحل استعادة الغبار. وتنهَد رو قائلاً: "لدينا حصائر لاصقة على الأبواب لتأخذ الغبار من أحذية العاملين وهم يغادرون المبنى، وإلا فستكون شوارع هوكلي مغطاة بالذهب، ومن ثم سيتحتم على مجلس المدينة تفقُّد البالوعات".
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Financial Times البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.