كيف تموت الحقيقة.. ولماذا يُصدِّق الناس الأكاذيب؟

يُعرّف أكسفورد مصطلح "ما بعد الحقيقة" بأنها الظروف التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام، من مخاطبة عاطفة الناس وقناعاتهم الشخصية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/08 الساعة 04:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/08 الساعة 04:14 بتوقيت غرينتش

أعلن مُعجم أوكسفورد عن اختياره لمصطلح "ما بعد الحقيقة" post-truth كمصطلح عام 2016، وأوضح المدققون اللغويون أن هذا المصطلح زاد استخدامه بنسبة 2000% خلال هذا العام مقارنة بعام 2015.

وذلك بالتزامن مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وحالة التلاسن الشديدة التي رافقت الانتخابات الأميركية الأخيرة.

ويُعرّف أكسفورد مصطلح "ما بعد الحقيقة" بأنها الظروف التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام، من مخاطبة عاطفة الناس وقناعاتهم الشخصية.

ويشير المدققون إلى أن كلمة post هنا تجاوزت المعنى الزمني الذي يعني (بعد)، بل إن المصطلح يذهب أبعد من ذلك، إذ يرمز إلى حقبةٍ نحياها، لم تعد الحقائق المجردةُ فيها مهمةً ومؤثرةً أو يُعتد بها. وأكدوا أنه يبدو أن هذا المصطلح سيبقى طويلاً معنا، في عالمٍ أصبحت فيه الحقائقُ مجرد وجهات نظر.

الأكاذيب المريحة


حسناً، أنا أعتقد أن الأمر مسألة وجهات نظر، لقد استمعت إلى نصف وسائل الإعلام، التي كانت تقول إنها تغريدات كاذبة، لكن وعلى الجانب الآخر، كان الكثير من الناس يقولون: لا، إنها حقيقية لذا فإن اللافت والمثير في كل هذه الحملة الانتخابية، أن ما يقول الناس عنه إنه حقيقة، هو في الواقع ليس الحقيقة، ولكن لكل واحدٍ طريقته التي يفسر بها الأمور لتكون حقيقية أو غير حقيقية.

كان هذا جزءاً من تعليق الصحفية سكوتي نيل هيوز على سؤالٍ حول وجهات نظر الناس تجاه الادعاءات التي تقول إن ترامب قام بتغريدات غير حقيقية للفوز بالأصوات الشعبية في الانتخابات الأميركية الأخيرة.



لكل شخصٍ إذاً تفسيراته، التي يقرر بها أن ما يتلقاه حقيقي أم كذب، بحسب هيوز، فما الذي يحكم هذه التفسيرات؟

في دراسة أُجريت في جامعة جنوب أستراليا، توصل الباحثون إلى أن المعلومات المغلوطة التي يتلقاها الأشخاص، تلتصق بأذهانهم سريعاً، حين تكون متوافقةً مع قناعاتهم السابقة، ومعتقداتهم الدينية أو السياسية، فالقبول بالأكاذيب المريحة التي تشبه ما نعتنقه أسهل كثيراً وأقل تكلفةً من رفضها والبحث عن المعرفة الحقيقية المجردة من أي انحياز.

ويصل الأمر بالبعض إلى الانحياز حتى أثناء البحث عن المعلومات، فيختار من الكلمات ما يعزز استنتاجاته المسبقة، وأكثر من ذلك نحن نحتفظ في ذاكرتنا بما يوافق تلك الانحيازات فقط، وننسى أي حقائق أخرى رأيناها أو عايشناها بأنفسنا!


هذا ربما ما عبَّر عنه الكوميدي ستيفن كولبيرت، قبل عشر سنوات، في وصفه لمصطلح truthiness ، حين قال إنها الحقائق التي تأتي من الأمعاء لا من الكتب، إشارة إلى أنها تأتي من داخلنا وما نعتنقهُ، بغض النظر عن الحقيقة المجردة.

وتشير الدراسة إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ تقول إن الجهود المبذولة لدحض هذه المعلومات المغلوطة غالباً ما تؤدي إلى نتائج عكسية! وتجعل الأشخاص الذين يصدقون مثل هذه النوعية من المعلومات يتشبثون بها أكثر!

الأمر ربما، يمكن تفسيره في نظر بعض المراقبين، بنجاح خصمك، الذي يروج لمثل هذه المعلومات، في جرك إلى الأرضية التي اختارها هو، لقد أطلق الأكذوبة ورسَّخها في أذهان الناس، وذهبت أنت خلفه لتحاول دحضها وتفنيدها، هذا يحول بيننا وبين مناقشاتٍ جادة وحقيقية حول أمور أكثر أهمية!

كما حدث في نقاشات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حين كان النقاش يدور مثلاً حول التكلفة المادية لوجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وهل الرقم المثار صحيح أم أقل أم أكثر، لقد تم التركيز على الرقم وتضخيمه، بينما ضاع الحديث الجاد والمتوازن عن أثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على اقتصادها.

وبحسب المراقبين، فلا يمكن إعفاء النخب والساسة أيضاً من المسؤولية، والتعامل مع الأمر بنفس الترفع والتعالي الذي يميز أغلب ردات فعلهم على أخطاء الجماهير. فالذين تلقفوا تلك المعلومات المغلوطة، وبنوا عليها قرار تصويتهم وانحيازهم السياسي، كانوا قد فقدوا الثقة في الساسة والخبراء، هؤلاء الذين أخبروهم عن أشياء كثيرة من قبل، لم تحدث!

لقد استمع الجمهور إليهم حين أخبروه أن صدام حسين يمتلك أسلحة نووية، وأن الحرب ضده لأجل أمن بلادهم في المقام الأول، وأن العملة الموحدة (اليورو)، والوحدة الأوروبية هي الجنة التي تنتظرهم، والآن حين ينظرون حولهم لا يجدون أي شيء من هذا كله!

وعادت النخب وارتكبت خطأً آخر، حين لم تُحسن قراءة تغير مزاج الجماهير، واستبعدوا تماماً في كل حواراتهم أن يصوت الناخب الغربي مثلاً لترامب، أو لصالح بريكسيت. وكانوا يرون أن هذا مستحيل، وأن الحقيقة بسيطة وظاهرة للجميع، ولا يمكن أن يسير أحدٌ خلف هذه الادعاءات المغلوطة.

لكن يبدو في نظر كثيرٍ من المحللين، أن الناخب الغربي حتى وإن لم يصدق، فقد اختار أن يسير خلف برنامج يعده بأشياء غير قابلة للتطبيق، مثل القضاء على داعش في شهرٍ واحد، أو طرد المهاجرين، وبناء سور عازلٍ بين أميركا والمكسيك، على أن يعطي صوته لبرنامج لا يعده بأي حلولٍ جذرية ولا يبدو أنه سيغير كثيراً من واقعه، لقد قاموا بالمغامرة وكأنهم رغبوا في معاقبة كل تلك النخب.

محبوسٌ داخل فقاعة



هل تظن نفسك بعيداً عن هذا النوع من الانحياز المعرفي؟

أنت على ما يبدو شخصٌ قوي تعرف الكثير، تبحث خلف المعلومات والأخبار، وتستوثق من المصادر.

حسناً، ربما سيدهشك أن تعلم أن الأمر ليس بهذه البساطة.

يعتقد إيلي باريسر، أن محركات البحث تنشئ خوارزمية تعتمد على موقع المستخدم الجغرافي، ونشاطاته الأخيرة على الإنترنت، والكلمات المفتاحية لما يبحث عنه عادة على الإنترنت، وحتى روابط تفضيلاته الموسيقية والترفيهية، وعلى أساس هذه الخوارزمية، حين تحاول البحث عن خبرٍ ما أو معلومةٍ ما فإن محركات البحث تذهب بك إلى تفضيلاتك، ودائرة اهتمامك، وهؤلاء الذين ترغب في متابعتهم دائماً، إنها تصنع حولك ما أسماه باريسر filter bubble في كتابه الذي حمل نفس الاسم.

يحدث نفس الشيء مع مواقع التواصل الاجتماعي، فأنت محبوس دون أن تشعر وسط هؤلاء الذين يعززون قناعاتك وتفضيلاتك، بناءً على نفس الخوارزمية التي اعتمدت على أصدقائك، والصفحات التي تعجبك والحسابات التي تتابعها عادة، ولا ترى غالباً ماذا يحدث في الجهة الأخرى!

إذاً فالمحصلة النهائية، أن الإنترنت الذي تطالعه، يختلف عن ذلك الذي يطالعه صديقك، حتى لو استخدم كلٌّ منكما نفس كلمات البحث! كل داخل فقاعته إذاً محاطاً بالحقائق المريحة التي تشبه قناعاته!

ولذلك يرى باريسر، أن العالم الذي تحياه إذا كان مبنياً على كل ما هو مألوفٌ لك، ومريحٌ لعقلك، فأنت لا تتعلم أي شيء جديد.

وفي سلسلة مقالاته في صحيفة الجارديان، عبّر سيمون جينكينز عن قلقه من استسلام الناس الكامل لعالم الإنترنت، والتخلي عن التجارب الحية، مثل مخالطة البشر الحقيقيين، ولمس الحقائق، والاستمتاع بعرضٍ مسرحيٍ حقيقي من لحمٍ ودم مثلاً.

ويرى جينكينز أن عالم ما بعد الرقمية (post digital) رغم الثورة المعلوماتية الضخمة التي أحدثها، فإنه دفع بعقولنا إلى الهرولة خلف تغريداتٍ ومنشوراتٍ قصيرة لاهثة، فلم نعد نصبر على قراءة جملةٍ طويلة، ناهيك عن كتابٍ أو بحثٍ أو دراسة، أو أية معلومة مركبة ومعقدة!

يمكنك المراوغة



إذا كنت ترغب في تجاوز الفقاعة الخوارزمية التي تصنعها مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث حولك، فإن المختصين ينصحونك بكسر النمطية في كلمات البحث التي تستخدمها، واللجوء إلى كلمات مختلفة تلتف حول ما تبحث عنه، حتى يصعب توقعك أو فهمك.

كذلك فإن مسح سجل الأشياء التي تبحث عنها كل فترة قد يفيدك.

وبالنسبة لفيسبوك، فإنهم ينصحون بمراجعة قائمة أصدقائك والحسابات التي تتابعها وإلغاء الحجب الذي يقوم به فيسبوك أحياناً لبعض منشورات الأصدقاء التي يرى أنك ربما لم تعد مهتماً بها.

علامات: