على جثة رجل الثلج "أوتزى"، الذي عاش قبل آلاف السنين، في جبال الألب الإيطالية، التي عُثر عليها في 19 سبتمبر/أيلول 1991، لاحظ علماء الآثار اصطباغ الجلد باللون الأزرق.
كان يعتقد في البداية أن ذلك كان جراء كدمة أو شيء من هذا القبيل، ولكن عند الفحص عن قرب، اتَّضح أن اللون الأزرق ليس جزءاً من جلد المومياء بل تكونات بلّورية غريبة تتخذ اللون الأزرق.
ولم تكن تلك أول ملاحظة من نوعها، فعند العثور على رفات الجنود الأميركين الذين لقوا حتفهم في حادث تحطُّم طائرة فيتنام منذ أكثر من 25 عاماً، في "دولة كمبوديا" المجاورة لفيتنام، لاحظ العلماء أيضاً بعد الفحص وجود تلك التكونات الغريبة زرقاء اللون في رفات الجنود.
أيضاً، دفن رجل يُدعى جون وايت بعد أن مات عام 1861، في تابوت من الحديد الصَّب، وبعد عقد من الزمن تم إخراج التابوت لبعض التغيرات في الأرض التي كان مدفوناً فيها، فوجِدت الجثة مغطاة بالكامل باللون الأزرق.
وقد فتحت تلك الحوادث وغيرها شهية العلماء لمزيد من البحث حول سر المعدن الذي يعتقد أنه يؤخر تحلل البقايا البشرية ولا يظهر سوى في الجثث التي تدفن في ظروف خاصة ومتشابهة.
فما تلك التكونات الغريبة؟
أعلن الباحثون أن تلك التكونات البلّورية زرقاء اللون، عبارة عن معدن الفيفيانيت "vivianite" أو حجر الحديد الأسود.
تم ذكر الفيفيانيت في العديد من السياقات الأثرية منذ مطلع عام 1800، فقد عُثر على هذا الفيفيانيت مرتبطاً بالبقايا البشرية، النفايات الحيوانية والصناعيّة، في المناطق الغنيّة بالحديد، غير أنه لم تُبذل أي محاولة لتجميع المعلومات حول أهميته الأثرية.
وبعد البحث، أظهرت العديد من التقارير الحديثة في مجال علم الآثار أنه يلزم لتشكل الفيفيانيت ثلاثة ظروف بيئيّة ضروريّة هي: تربّة غنيّة بالمياه وتفتقر للأكسجين، توافر مصدر لعنصر الفوسفات كبقايا بشريّة من عظام وخلايا آدميّة، وأيضاً توافر عنصر الحديد في التربة.
وأوضح العلماء أن تفسير تكوين المعدن على العديد من الجثث في عدة مناسبات حول العالم يكمن في تكوين جسم الإنسان نفسه، فالفوسفات أحد العناصر الحيويّة والمهمة في جسم الإنسان، وهو يتكون من اتحاد ذرة الفوسفور مع أربع ذرات من الأكسجين.
وهو يلعب دوراً حيوياً في بناء كتلة الجسم والبروتينات، وأيضاً في تكوين مركبات نقل الطاقة بين الخلايا، وربط خيوط الـDNA، ويُشكل أيضاً مركباً مع الكالسيوم كملح أساسي لإعطاء العظام بنية صلبة.
الفوسفات هو أحد أسباب تشكُّل الفيفيانيت، فعندما تبدأ جثة شخص ما بالتحلُّل يبدأ الفوسفات بالتَّسرُب إلى خارج الجسم ليتصل بالبيئة التي حوله.
فإذا كانت البيئة وفيرة المياه الحمضيّة، لا هوائية وغنيّة بالحديد الذي يجتذب من قبل البروتينات الموجودة في العظام أو الجماجم البشرية (والتي تعمل كمستقبلات لعنصر الحديد)، يتكوّن الفيفيانيت.
وفي بيئة كذلك مشبعّة بالمياه وتفتقر للأكسجين تلعب البكتيريا دوراً هاماً في توفير المواد الأولية لتكوين الفيفيانيت، بأن تقوم بحل الحديد من التربة والفوسفات من الجسم، ومن ثمَّ توجيه نمو البلورات الزرقاء، وأيضاً قد يلعب نوع من البكتيريا دوراً في منع تكوّن الفيفيانيت، في حالة نشاط البكتيريا التي تحد من نسبة كبريتات التربة لدرجة تمنع من تشكل الفيفيانيت.
عند تكوّن المعدن في المرحلة الأولى ستكون البلورات بلا لوّن، ثم تبدأ بالتفاعل مع أكسجين الهواء، فتتلوّن باللون الأزرق بتدرجاته المختلفة، فتظهر ككسرات خبز على سطح الجلد والعظام البشرية، أو كإبر بلّورية داخل المراكز اللُّبيّة للأسنان.
الفيفيانيت
والفيفيانيت معدن من معادن الفوسفات النادرة، وهي ذات بنية بلورية، اسمه منسوب لاسم عالم المعادن "جيه جي فيفيان"، الذي اكتشفه لأول مرة في منجم القصدير "ويل جاين" بإنكلترا عام 1817م.
يتشكَّل المعدن في العديد من البيئات، كالبيئة الرسوبية الغنيَّة عضوياً مثل الطين والأحجار الرملية والجرانيت الغني بالفوسفات، ويسهُل التعرف على الفيفيانيت من لونه الأزرق ومن تحوّله للون داكن أكثر عند تعرضه للضوء.
كما تُصبح كُريات الفيفيانيت مغناطيسية عند تسخينها، ويوجد بشكل ملحوظ في مناطق متعددة كشبه جزيرة القرم- أوكرانيا، وآنلووا- الكاميرون، وموليكا هِل- نيوجيرسى، والبرازيل وبوليفيا وغيرها من المناطق.
وأحجار الفيفانيت يعتقد البعض أن لها خصائص علاجية، وتسهم في زيادة التطور الروحي، فحجر الفيفيانيت بلونه الأزرق، يحث على الهدوء، ويخفف من آثار التوتر والانفعالات السلبية.
أهمية الفيفيانيت الأثريّة ودوّره في مجال البحث والطب الشرعي
يجد بعض الباحثين تشكُّل هذا المعدن على الجثث شيئاً سيئاً، فهذا المعدن قد يعوق جهود علماء الآثار في دراسة البقايا البشرية، المعتمدة على DNA، ويعرقل معرفة المزيد عن أصولها وخصائصها الجينية، فالمعادن التي تحتوي على الحديد كالفيفيانيت لها القدرة على التفاعل مع بقايا الحمض النووي الذي لا يزال موجوداً في الرفات البيولوجية، ويقوم بتثبيط تفاعل بلورة DNA، فيعرقل عملية استنساخ DNA، فأثره يعادل أثر الأشعة الفوق البنفسجيّة في تدمير الـDNA، فلا يتم التعرف على هوية الجثة، وبذلك فإنه يعرقل البحوث في مجال الطب الشرعي.
والبعض الآخر يجده، أمراً جيداً، حيث مكّن المحققين من التعرف على ما واجهته الجثة بعد الموت، كما في حالة رفات الجنود الأميركيين، حيث يُرجح أنّ التربة التي دُفن فيها الجنود كانت رطبة، إضافة لوجود بقايا الطائرة "عنصر الحديد"، مما سمح بتشكُّل هذا المعدن الأزرق، وجثة جون وايت التي دُفنت في تابوت من الحديد الصّب. ويُقال أيضاً إن المياه الجوفيّة تسربت للتابوت، كل هذه العوامل التي واجهت الجثة بعد موتها وفَّرت التربة المناسبة لتشكُّل الفيفيانيت.
وقد يتشكَّل أيضاً على الشحم الدهني الناتج من تحلُّل الجثث تحت ظروف مناخية قاسية، كما في حالة مومياء أوتزى، التي تم العثور عليها في جبال الألب.
وأيضاً بإمكان الفيفيانيت حماية البقايا البشرية، وتوفير معلومات حول مواقع الدفن، كما حدث عندما تم العثور على 25 مقبرة جماعية تحتوي على الفيفيانيت في أستراليا، اكتشف الباحثون أن تلك البلورات زرقاء اللون المتكوّنة على العظام والأسنان، ساعدت على إبطاء عملية اضمحلال العظام، حيث يرتبط الحديد ببروتينات العظام في عملية مستمرة لتكوين المعدن، مما يسهم في رفع قيمتها الأثريّة، كما أن وجود الفيفيانيت يعتبر دليلاً على الفيضانات التي تحدث من حين لآخر في أرض المقابر، حيث يحتاج تشكله لمياه وفيرة كما أوضحنا من قبل.
وبذلك تمكنّ العلماء من معرفة طبيعة التربة التي دُفنت فيها الجثّة وما واجهتها، ولعب أيضاً دوراً في حماية البقايا البشرية من التعفن.