يحكي الكاتب الإنكليزي جاسون جودوين عن حكايته مع مدينة إسطنبول التي زارها للمرة الأولى حاملاً مشاعر متدفقة من الرومانسية حتى سيطرت هذه المدينة على حياته بعد ذلك، فكتب عنها في أدلة السفر، وفي أحد الكتب التاريخية الذي وضعه تحت عنوان "سادة الآفاق"، وكتب عنها أيضاً 5 روايات بوليسية تدور أحداثها في القرن التاسع عشر.
وإليك نص المقال الذي كتبه جاسون جودوين بحسب ما نشرته صحيفة الغارديان البريطانية:
نص المقال:
جئتُ إلى إسطنبول أول مرة في موجة من الرومانسية الشابة، عبرتُ شرق أوروبا سيراً على القدم، ووطئت ممرات الغابات من بحر البلطيق وصولاً إلى مضيق البوسفور. كان عمري حينها 26 عاماً. وقفت مشدوهاً أسفل قبة مسجد "آيا صوفيا". كان الخبز بالمقاهي طازجاً بشكلٍ غير معقول، وسمك الماكريل طازجاً. أما في سوق البازار الكبير فتمكنت وجبة الدجاج بالنعناع من طرد تأثير أشهر الوجبات السوفييتية.
تُعَد إسطنبول مثل البوابة الدوارة بين آسيا وأوروبا، وبين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط. قال أحد السفراء إلى بلاط السلطان بالعصور الوسطى ذات مرة إنَّها تبدو وكأن الطبيعة صممتها هكذا لتصبح عاصمة العالم.
ولازلت تنتابني القشعريرة عندما أقف لأتطلَّع إلى البوسفور، مشاهداً ناقلة عملاقة، أو غواصة روسية، أو قارباً أوكرانياً ينساب فوق الماء بقلب المدينة.
إسطنبول تملك قوة شديدة من الناحية الجيوسياسية. ونظراً لأنها كانت سابقاً مدينة القسطنطينية، عاصمة الإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية والعثمانية تباعاً، لن يبدو الأمر مفاجئاً. خفض أتاتورك من قيمتها وقدرها عندما اتخذ أنقرة عاصمةً لتركيا بدلاً منها، لكن لا يزال يمكنك الشعور بقوتها حتى الآن.
مدينة التاريخ
إسطنبول مدينة يظهر التاريخ في كل أركانها، فترى فيها نقوشاً رومانية، وحائطاً بيزنطياً، ونافورة عثمانية. تتجول بين حضاراتٍ مختلفة في خطوتين فقط، تبدو المدينة بأكملها وكأنها مكونة من طبقات؛ بدءاً من الصهاريج والأنقاض الرومانية أسفل قدميك، وصولاً إلى أعلى "برج غلاطة" الذي بُنيَ في القرن الرابع عشر.
للبرج طابع خاص، ورونق، وبهاء، كما أنه يطل على مناظر شديدة الروعة. إسطنبول مدينة مليئة بالتلال، بها 7 تلال مثل روما كما يقولون، حتى أنك دائماً يمكنك أن تتنشَّق النسيم حتى في أشد أيام الصيف.
إحدى أفضل المُتَع بالمدينة هي الهروب إلى الماء؛ لا يتوجب عليك أن تستقل قارباً سياحياً لتفعل ذك، فقط اقفز في إحدى تلك الزوارق القديمة، التي تُسمَّى بالفابور، وتتحرك ذهاباً وإياباً بين الجانبين الآسيوي والأوروبي، أو تُبحر شمالاً إلى أورطاكوي؛ وهناك يمكنك الجلوس وفي يدك فنجان من الشاي لتشاهد قباب هذه المدينة تنساب بطول القرن الذهبيّ؛ المسجد الأزرق، ومسجد آيا صوفيا، والسليمانية، فقط أشِح بنظرك عن ناطحات السحاب التي تعكِّر المزاج، والتي بدأت تظهر في الأفق.
نمو متفجر
كان نمو مدينة إسطنبول خلال الخمسة وعشرين عاماً متفجراً، إذ تغيَّر تعداد سكان المدينة من مليونيْن إلى 14 مليون نسَمة، ويمكنك أن تشعر بالطنين الناتج عن ذلك. لكن الأحياء المركزية التاريخية حميمية ومتشابكة لدرجة مدهشة، كما يمكنك السير من خلالها.
آيا صوفيا، التي كانت سابقاً "كنيسة الحكمة المقدسة"، بُنيت في القرن السادس الميلادي، وتعتبر واحدةً من عجائب العالم. الوقت الحالي هو الأنسب لزيارة المكان بعيداً عن الزحام. يتميز المكان بمساحته الضخمة، وكانت المبنى الأول الذي يحل لغز بناء قبة دائرية فوق قاعدةٍ مربعة، قبل قيام فيليبو برونليسكي ببناء مثيلتها في فلورنسا بإيطاليا بنحو 1000 عام.
أما جامع السلطان أحمد (المسجد الأزرق)، فهو مثال حي للروعة ببلاطه القيشاني – لكنني شخصياً أفضل جامع رستم باشا الذي يقع في شارع جانبي من سوق مصر. الشارع رائع جداً ومزدحم دائماً، حيث يحتوي على متاجر تبيع كل شيء من مقصات الشعر إلى سكاكين التشذيب.
عادةً ما أتوجه إلى السلالم ذات الأحجار السوداء بين المتاجر، وأصعد إلى المنصة أعلاها بعيداً عن الصخب والضوضاء، حيث توجد ردهة صغيرة تطل على المسجد. بُني المسجد على يد المهندس معمار سنان، المعماري الذي صمم مطابخ قصر طوب قابي وجامع السليمانية العظيم، وهي المباني التي تميزت زخرفتها وتزيينها بالبلاط القيشاني الرائع (تم تعيينه كبيراً للمهندسين المعماريين الملكيين في العقد الخامس من عمره، واستمر في التطور والإبداع حتى شارف على بلوغ عامه المئة). كما يوجد محل كباب مدهش في الجهة المقابلة، حيث يتسنى لك الجلوس على مقاعد صغيرة وتناول الطعام الشهي مقابل مبلغٍ زهيد.
سيطرة على الحياة
قد يبدو لك هذا الخيار سياحياً بعض الشيء، ولكن البازار الكبير هو وجهة لابد من زيارتها: المكان عبارة عن مأربة ضخمة من الأروقة، التي تكتظ بمساجدها وحماماتها الخاصة. ولأن الشيء بالشيء يذكر، توفر إجين للأقمشة مناشف ومنسوجات رائعة وعالية الجودة.
ودائماً ما كنت معجباً ببازار الكتب في الجزء الشمالي، وتحديداً متجر "ديلمين" للكتب، وهو متجر صغير ومزدحم لبيع الكتب القديمة والجديدة بكل لغات العالم، حتى اللغة الإنكليزية. كان آخر كتاب اشتريته من هناك عن الحياة الجنسية للعثمانيين. كان المحتوى رائعاً، والأغرب أنه كان مترجماً من موقع جوجل. وتوجد أيضاً بعض متاجر الكتب الجيدة على طول شارع الجادة الكبرى القديم، وشارع الاستقلال قديسي، والذي يعتبر نسخة أسطنبول من شارع أوكسفور بلندن.
كوني من محبي الانغماس في الذكريات، فأنا أعشق الإقامة في فندق جراند دي لوندري القديم، في منطقة بيرا المفعمة بالحياة. لم يتعرض الفندق لأعمال الترميم والتجميل بعد، ولازال يحافظ على لمحةٍ من الشجن السافر.
ومع تاريخٍ تراثي يصل إلى 500 عام من الطهي للقصور الملكية، تعتبر إسطنبول بمثابة جنة لمحبي الطعام، وسواءً كنتَ تبحث عن وجبة كباب مدخن، أو خضراواتٍ لذيذة، أو أرز بالمكسرات وبعض الحلويات: توجه إلى مطعم سيا سوفراسي في منطقة كاديكوي. كما يمكنك زيارة موقع مأكولات إسطنبول الإلكتروني لاستكشاف المطاعم المحلية الرائعة. ويعتبر مطعم كانتين في نيسانتاسي مكاناً أنيقاً لتناول الطعام.
منذ اللحظة الأولى التي تجولت فيها بين جدران المدينة القديمة، سيطرت إسطنبول بالكامل على كتاباتي. كتبت عن المدينة في أدلة السفر، وأحد الكتب التاريخية، و5 روايات بوليسية تدور أحداثها في القرن التاسع عشر، حينما كانت إسطنبول العثمانية تملك نفس حداثة وعالمية لندن المعاصرة.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.