في العام 1969 قبل الكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي عرض مواطنه الناشر جون مارتن، مالك دار بلاك سبارو للنشر، بأن يمنحه 100 دولار شهرياً مقابل أن يترك مكتب البريد الذي يعمل به منذ سنوات، ويتفرّغ للكتابة.
كانت تلك القفزة الحقيقية في حياة بوكوفسكي، وبداية ذيوع صيته، ذلك أنه في موعد تسلمه لمبلغ التفرغ الجديد في أول الشهر التالي، ذهب إلى مارتن ومعه مخطوط رواية "مكتب البريد".
فرانز كافكا كان أسرع من ذلك، كتب رائعته الصغيرة "المسخ" في أسبوعين لا غير.
على الجانب الآخر، هناك أعمال أدبية استغرقت كتابتها شهوراً، بل وسنوات طويلة، وربما ليس هناك مثال أجدر بالذكر من الألماني غوته الذي كتب ملحمة (فاوست) على مدار ستين عاماُ، وكانت الفكرة تختمر في رأسه فيكتب في أحياناً أو يعدّل وينقّح، وحتى أنه انشغل بكتابة وإصدار العديد من الكتب الأخرى خلال تلك الفترة.
وعربياً، كان الروائي السوري خالد خليفة من بين من استغرقوا وقتاً طويلاً في كتابة رواياتهم، إذ أنه استغرق 13عاماً لكتابة روايته "مديح الكراهية".
في المسافة الزمنية الفاصلة بين روّاد الجانبين من الكتّاب، أو من الكتب حتى، تفتح "عربي بوست" باباً للنقاش مع عددٍ من الروائيين حول الفترات التي يستهلكها الكتّاب في إنجاز أعمالهم، ومدى إمكانية إنتاج رواية في أسبوعين أو شهر كما في بعض الحالات المشار لها.
يمكن جداً إنجاز رواية في وقت قليل
عمرو العادلي – مصر
يوضح العادلي أن الأعمال الطويلة نسبياً يتسبب فيها الكاتب وليس كتابته، أي بمعنى أن الكاتب له مزاج خاص وليست الكتابة هي صاحبة المزاج، يمكن أن تستغرق الرواية سنوات طويلة ويمكن أن تستغرق بضعة أسابيع فقط، والفرق بينهما يتحدد حسب الكاتب أيضاً، وما هو أمله في العمل، فهناك رواية قصيرة يمكن أن تستغرق شهرين، وهناك روايات طويلة يمكن أن تستغرق أعواماً.
ويستكمل، دستيوفسكي كان يكتب وهو يأكل ويشرب ويلعب القمار، في السجن أو في الطريق أو على طاولة الكتابة. هذه من حيث الكيفية، ولكن الحجم له نصيب أيضاً ومرتبط بالوقت، فهل رواية مثل "يوم غائم في البر الغربي" لمحمد المنسي قنديل تستغرق وقتاً مثل رواية من مئة صفحة، أظن لا".
هل يمكن إنجاز رواية في وقت قليل؟
الإجابة كما يقول العادلي، يمكن جداً، فهناك فرق بين شخص يكتب عشر ساعات في اليوم وشخص يوزعها على أسبوع أو شهر.الفرنسي من أصول مصرية ألبير قصيري مثلاً، كان يكتب جملة كل أسبوع. وهناك نجيب محفوظ الذي كان يمكن أن ينتهي من مسودة أولى لرواية في شهر، وله بعض الأعمال المهمة كتبها في عام واحد. فمثلاً كتب ميرامار وأولاد حارتنا في سنة واحدة".
استثناء "برادبيري" وأيامه التسعة
إسماعيل غزالي – المغرب
يقول القاس والروائي إسماعيل غزال، "في تقديري زمن الكتابة زمن هلامي وضبابي، داخلي على نحو غامض. لهذا لا يجب أن يُقاس بالتوقيت الغريغوري والفيزيائي".
موضحاً إن المدة التي يراها المهتمون بهذا الأمر، قصيرة أو طويلة، هي مدة تحتكم إلى وحدة قياس الزمن العادي، بالدقيقة والساعة واليوم والشهر والسنة، في حين أن زمن الكتابة هو شيء آخر، زمن يتخطى هذا التقويم، لأنه زمن خاص جداً، لا يخضع لهذا التقطيع الفيزيائي المحض.
ويكمل، لا يجب أن ننسى "الإيقاع"، إذا ما أردنا أن ننظر إلى الكتابة من زاوية السقف الزمني الذي تستغرقه في صناعة الأثر، فالإمساك بايقاع الكتابة يختلف من كاتب لآخر، كما يختلف بحسب نوع النصوص، إذ لكل نص إيقاعه، يخلقه من الداخل، ويفرضه بقوة على كاتبه، فيغدو الكاتب جزءاً من هذا الإيقاع، يتماهى معه في تناغم هارموني يخضع لمجمل تصاريف الحركات والصمت والانفعالات والتقطعات والامتدادات والتمفصلات إلى حين استيفاء تجربة الكتابة لشروط خلقها السردي والفني.
بالتأكيد هناك ظواهر تجارية في الكتابة مبرمجة سلفاً ضمن ما يسمى بـ dime novels والتي تستهدف أدباً روائياً مكتوباً بسرعة خارقة، يروم توزيعاً جماهيرياً، موجهاً إلى نوعية من الذائقة الاستهلاكية، والمفارقة بحسب غزالي أن هناك كتاباً جربوا هذا النوع من الكتابة وفق إكراهات ما، ونجحوا في كتابة نصوص قوية وهذا استثناء طبعاً، رواية "451 فهرنهايت" لراي برادبيري التي أنجزها في تسعة أيام على سبيل المثال.
مجمل القول أن الرواية الجديرة بهذا التوصيف، هي ما تصنع لنفسها زمنها الخاص بها، غير مشروطة بأي سلطة خارجية، تستوفي بحرية ولادتها الطبيعية، ليتحقق أثرها الجمالي، سواء كانت مدة إنجازها قصيرة أو طويلة. فما يشفع لها ليس طول أو قصر مدة كتابتها، بل قيمتها الأدبية والجمالية لا غير.
هنري ميلر لا يعرف مدة كتابة أعماله
محمد عبد النبي – مصر
ويقول الكاتب محمد عبد النبي، "صادفتُ قبل أيام حواراً قديماً نُشر على أحد المواقع المهتمة بالكتابة الأدبية مع هنري ميلر، سئل فيه حول الوقت الذي احتاجه لبعض مؤلفاته المبكرة، فلم يستطع أن يقدّم إجابة محددة، ونفى أن يكون مُلماً بالوقت المحدّد الذي اقتضاه الوصول إلى العمل بصورته النهائية".
أظن أن الصعوبة تكمن في مُراوغة معيار الوقت في مسائل الإنتاج الإبداعي، الوقت الفعلي لكتابة إحدى الصفحات قد يكون ساعة أو أقل، لكن هل هذا هو المقصود حقاً بالسؤال؟ أهو وقت الإمساك بالقلم والورق، أو وقت النقر على الآلة الكاتبة ولوحة مفاتيح الكمبيوتر؟ أم وقت التأمّل والشرود والكتابة الذهنية؟ أم وقت عملية التحرير بكل ما فيها من القص واللصق والتعديل والضبط والتمتين والتخفيف وتدقيق اللغة والمفردات وتنعيم الحواف وضبط الإيقاع والصوت والنبرة؟
يمكن أن نرى أصحاب المهن المختلفة عاكفين على أعمالهم، نستطيع عندئذٍ أن نؤكد مطمئنين أنهم استغرقوا كذا من الوقت وهم مستغرقون في العمل، لكن الأمر يختلف كثيراً مع مهن الخلق والإبداع الفني، فوقت العمل الفعلي هو طوال الليل والنهار، سواء في الزحام أو العزلة، سواء في الضجيج أو الصمت، سواء في ساعات اليقظة أو النوم.
ثمّة رجل صغير آخر داخلنا يعمل ليل نهار على قطعٍ غير مكتملة، على احتمالات، على وضع فرضيات واقتراحات ووضعيات، وما الوقت الذي ننتج فيه القطعة ذاتها إلّا وقت عرض المسرحية التي تتواصل بروفاتها طوال العمر، لذلك ليس من المستغرب أبداً أن يكتب أحدهم في أسابيع قليلة عملاً سردياً فاتناً مثل رواية كافكا "التحوّل" المعروفة أيضا باسم "المسخ" أو أن يعكف آخر عشرات السنين على تشييد كاتدرائية أدبية مثل "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست أو "فاوست" لغوته.
ويكمل بالتأكيد نوع العمل وطموحه ومساحته كلها عوامل تؤثر على المتوسط الزمني اللازم لإنتاج العمل، وكذلك طبيعة ظروف المبدع نفسه في ذلك الحين، من جميع النواحي، مثل صحته البدنية وأحواله المادية واستقرار علاقاته الإنسانية. كلها مسائل تتدخل في إيقاع الإنتاج.
لكن يبقى شيء ما غامض وراء كل تلك التقديرات المنطقية الوجيهة، شيء يخص إيقاع سري للمبدع، موجات مبهمة تصعد به في بعض الأحيان إلى أعلى عليين، فيتدفق كأنه لم يعد مبدعاً بل مجرد ناقل أمين يُملى عليه من مصدر خفي، وفي بعض أحيان أخرى تنزل به إلى الدرك الأسفل من الجدب والجفاف والجمود حتّى يرحّب بالعدم عن طيب خاطر".