السباحة مع الحيتان وتربية الببغاء.. قصص محاربين يعالجون أنفسهم بطرق غريبة من آثار حرب العراق

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/18 الساعة 16:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/18 الساعة 16:10 بتوقيت غرينتش

نزل توماس هاريس إلى المياه المالحة الباردة في الحوض الذي تبلغ سعته 6.3 ملايين جالون هنا في معرض الأحياء المائية في جورجيا، ثم ترك نفسه يطفو مثل عشب البحر.

تطلع هاريس، الطبيب السابق في الجيش، من خلال قناع الغوص إلى سمكة مانتا راي بحجم طائرة شراعية وهي تؤدي شقلبات بطيئة فوق مجموعات من السمك الفضي. مر حوت القرش الذي يبلغ 21 قدماً بصمت على بعد بوصات قليلة من وجهه، بينما يحتل ظهره العريض المنقط المشهد بالكامل. انغمس هاريس في اللحظة، ونسي العالم.

هذه ليست هواية يمارسها في عطلة نهاية الأسبوع. بل هي جزء من علاج اضطراب ما بعد الصدمة الذي صار يعاني منه بعد جولاته في العراق. ومثل هاريس، يلجأ الكثير من المحاربين إلى هذه الأنواع من العلاجات.

شكل القبول الواسع لاضطراب ما بعد الصدمة بعد حروب العراق وأفغانستان، تحدياً غير متوقع. إذ أثار الاعتراف به جدل واسع النطاق حول أفضل السبل لعلاجه.

الأدوية ليست مجدية دائماً

عادة ما تعتمد الأساليب العلاجية التقليدية على الأدوية وعلى إعادة اختبار الصدمة بشكل محكم، والذي يُسمى العلاج بالمواجهة. لكن تلك الأساليب أثبتت عدم شعبيتها، حتى أن الكثير من المرضى تركوها قبل انتهائها أو تجنبوها من الأساس.

وأدى ذلك إلى ظهور مئات المنظمات الصغيرة غير الربحية في جميع أنحاء البلاد تقدم علاجات بديلة، مثل الصيد العلاجي، والتجديف والترحال العلاجي، وركوب الخيل واليوغا القتالية، والكلاب، والتجمعات الفنية، وسباحة الدلافين، وكوخ التعرق، ومراكز تربية الببغاء، وأساليب أخرى كثيرة.

منذ عشر سنوات، كان الطب النفسي السائد يرفض هذه العلاجات. أما الآن، بينما تشير الدراسات الحديثة أن أشياء مثل اليوجا والتفاعل مع الحيوانات يمكن أن يكون مفيداً مثل العقاقير في الحد من
الاكتئاب والقلق دون الآثار الجانبية أو وصمة العار، فإن عدداً متزايداً من الأطباء يُدخلون هذه الأساليب في خططهم العلاجية.

ليس من الصعب أن تجد محاربين سابقين مروا بتجارب سيئة مع العلاجات التقليدية.

حارب مايك هيليارد، الغواص الذي يقود رحلات الغوص في حوض أسماك جورجيا الضخم، الاكتئاب والغضب بعد قتالين خاضهما، بما في ذلك الفترة التي قضاها بالعراق والتي تعرض خلالها لطلقة في الرأس.

قال هيليارد، الرقيب السابق في الجيش "كان العلاج دائماً عبارة عن شخص يُخبرني بأنني مختل ويعطيني حفنة من الأدوية. أصبحت أكثر انعزالاً إلى درجة جعلتني أفكر في إنهاء كل هذا".

ترك هيليارد الرعاية العلاجية أكثر من مرة ولم يجد شيئاً مفيداً فعلاً حتى جرب الغوص. يقول هيليارد "بمجرد أن نزلت تحت الماء، أصبح كل شيء هادئ. رؤية الأسماك، والاستماع إلى المحيط، هناك براءة كاملة في هذا. لا توجد ذكريات سيئة في الماء. كل شيء يريد أن يحيا فقط. جعلني هذا أرغب في العيش مجدداً".

والآن صار يقود المجموعات التي يُرسلها الجيش ووزارة شؤون المحاربين القدامى في رحلات مشابهة لحوض الأسماك عدة مرات في الأسبوع.

تقييم للعلاج

وقال هيليارد لمجموعة جديدة في أحد الصباحات القريبة قبل الغوص "ليس الأمر مجرد شكركم على خدماتكم. هذه طرق فعالة يمكنك الاستفادة منها لإعادة بناء حياتكم".

أدت تلك الصدمة التي يواجهها قدامى المحاربين الذين يبحثون عن علاجات غير الأدوية وطريقة العلاج بالمواجهة، لأن يحاول علماء النفس تقييم برامج كانت مرفوضة ذات مرة علمياً، مثل الرحلات الميدانية. لكن عديداً من الأطباء النفسيين يعانون من قلة الأدلة التي تدعم العلاجات البديلة.

يقول العقيد الملازم غاري وين، الطبيب النفسي الذي يدرس في جامعة الخدمات الموحدة للعلوم الصحية، بكلية الطب العسكرية "الفائدة انتشرت. أنا أعمل مع الجيش ومع وزارة شؤون المحاربين القدامى. لم يعد أحد يظن أن هذه الأشياء مجرد بديل سخيف للعلاجات الطبية".

ولكنه قال محذراً إن الأدلة على الفائدة الحقيقية قليلة أو غير موجودة في كثير من الحالات، ويرجع ذلك جزئياً لعدم وجود تمويل لهذه الدراسات، وجزء آخر لأن تقييم العلاجات البديلة أصعب من
تقييم من العقاقير.

ويضيف "إذا كنت أجري دراسة فوائد الصيد الطائر، هل أرصد عدد الأسماك التي اصطادها الناس؟ أم حالة الطقس. ثمة كثير من العمل الذي يجب القيام به في هذا الشأن".

اليوغا

قال الدكتور بيسل فان دير كولك، الطبيب النفسي بمدينة بوسطن وصاحب الكتب الأكثر مبيعاً الذي ساعد في الاعتراف بهذا الاضطراب، إن اضطراب ما بعد الصدمة لم يكن معترفاً به رسمياً حتى عام 1980. وفي هذا المجال الحديث نسبياً، لا يزال الناس يحاولون الوصول لأفضل السبل في التعامل معه. ويبدو أن إجماع الرأي يبتعد عن إعطاء الأدوية للمرضى ويتجه إلى استكمال العلاج النفسي بأشياء مثل اليوغا.

يضيف فان دير كولك قائلاً: "في البداية كنت متحمساً جداً للعقاقير. أجريت الكثير من الدراسات المبكرة على العقاقير المستخدمة لاضطرابات ما بعد الصدمة ولكننا أدركنا سريعاً أنها لا تعمل كما يجب. فجميع المحاربين منذ هوميروس كانوا يتعاطون العقاقير ليتمكنوا من إبقاء مشاكلهم تحت السيطرة، ولكن هذا لا يُساعد على علاج الصدمة".

في الألفينات نشر الدكتور فان دير كولك واحدة من أولى الدراسات عن آثار اليوجا على اضطرابات ما بعد الصدمة. وعن ذلك يقول "كانت نتائجها جيدة جداً. فبعد ثمانية أسابيع أو ستة أشهر، لا تزال الآثار الإيجابية موجودة"، ومنذ ذلك الحين جعل اليوغا جزءاً أساسياً في علاجه.

قبل فترة طويلة من بدء الباحثين الطبيين محاولة توثيق هذه الفوائد، بحث قدامى المحاربين عن طرق العلاج الموجودة خارج عيادة الطبيب. كان إيرل شافير، أول شخص يمشي على طريق الأبالاش كله، قد رجع لتوه من الحرب العالمية الثانية وأخبر أصدقاءه أنه يحتاج إلى "إخراج الجيش من نظامي، عقلياً وجسدياً". وبعد حرب فيتنام، بحث كثيرون من قدامى المحاربين عن ملجأ في البرية.

يقول دانيال ليبي، طبيب نفسي تدرب في جامعة ييل، ويُدرس اليوجا بمركز قدامى المحاربين في أوكلاند، كاليفورنيا، الذي تديره وزارة شؤون المحاربين القدامى " معظم أعمالي موجهة إلى قدامى المحاربين. إنهم لا يريدون أخذ الأدوية. اليوجا تقدم علاجاً يساعد على التمكين الذاتي. لا يكون عليك الاعتماد على النظام الطبي".

في عام 2010، أجرى ليبي إحصائية على النظام الصحي في الوزارة ووجد أن نسبة 28% من المستشفيات تُقدم اليوغا. وهو الآن يعتقد أن النسبة وصلت إلى أكثر من 60%.

ابتكارات لبرامج أخرى

الدكتورة باربرا روثبوم، الطبيبة النفسية في جامعة إيموري والتي تدير برنامجاً علاجياً مكثفاً مدته أسبوعين لاضطرابات ما بعد الصدمة، تُكمل علاجاتها التقليدية بالعلاجات البديلة الأخرى.

ومؤخراً ساعدت روثبوم في تجميع تقرير للأكاديمية الوطنية للعلوم عن علاجات اضطرابات ما بعد الصدمة، إذ تقول "التقينا بكثير من الأطباء الجيدين في جميع أنحاء البلاد والذين يبتكرون برامجاً مثل العلاج بالخيول أو البرية أو أي برامج أخرى، ولم يكن هناك سبيل لمعرفة ما إذا كانت أياً من هذه الطرق فعالة". وأضافت "لهذا السبب لا يمكن أن نوصي بها".

تعتمد روثبوم في عيادتها على العلاج بالمواجهة. ولكن في الوقت نفسه، أضافت اليوغا والتأمل لمساعدة المرضى على الاسترخاء.

تقول "ليست علاجاً أساسياً، ولكنها مهارات حياتية تساعد في الحفاظ على المكاسب".

كما أنها ترسل المرضى إلى أماكن مثل حوض أسماك جورجيا لتتحداهم في التغلب على مخاوفهم وبناء خبرات جديدة تضع الذكريات الصادمة في نصابها.

بعد ثلاثين دقيقة، خرج هاريس، الطبيب السابق في الجيش، من الماء وعلى وجهه ابتسامة واسعة وقال "رائع".

عندما خرج هاريس من الجيش، ذهب إلى وزارة شؤون المحاربين القدامى عدة مرات للعلاج النفسي والطبي، ولكنه دائماً ما كان يشعر بالإحباط ويتخلص من الأدوية.

يقول "لم أكن أريد أن أكون مجبراً على أخذ أدوية، كنت دائماً حجر الأساس، أساعد الناس. أعتقد أنني كنت غاضباً من نفسي".

لكن الكوابيس ونوبات العنف ازدادت سوءاً. وفي أحد الأيام انفجر في أخته بسبب سلك مكنسة كهربائية تُرك في الردهة وصفعها. تعهد بعد أن صُدم من أفعاله بأنه سيعطي العلاج النفسي فرصة أخرى.

والآن يخضع لمزيج من العلاج بالمواجهة التقليدية والعقاقير، ولكنه أيضاً يمارس التأمل واليوجا التي وصفها بأنها "تجعل الإنسان يشعر بتحسن طوال اليوم".

بالنسبة له كانت السباحة مع الحيتان أكثر من مجرد رحلة ميدانية.

وعن ذلك يقول "إنها تساعد على الاسترخاء بالتأكيد. أعطتني شعوراً رائعاً. لكنها كذلك مخيفة نوعاً ما، مع وجود أسماك القرش الكبيرة. إذ إن جزءاً من العلاج يكمن في أن تفعل ما كنت تتجنبه، وأن تتغلب على مخاوفك".

– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The New York Times. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.