في أحد أيام العام 1944، كان جوزيف منجليه الملقب بـ "ملاك الموت" يقف منتظراً القطار ليصل وهو يصفر بفمه، مع ابتسامة بالغة الاتساع على وجهه، جوزيف كان أول ما يراه الوافدون المستعة عيونهم من الرعب، يجيل عينيه بسرعة مع إشارة بإصبعه، يتبعها الجنود ليطوقوا الأشخاص المطلوبين، الذين لا يعرفون أنهم موضوع تجربة الجينات القادمة، القاتلة والمرعبة!
الدكتور منجليه كان أحد أفراد الفريق الطبي النازي الشهير الذي يجري اختباراته على المساجين، دون أي رادع أخلاقي أو إنساني، تجارب النازيين العلمية ارتكبت ما يشيب له الشعر، لكن العالم تنفس الصعداء مع بدء محاكمات "نورمبيرغ"، التي أرست قانوناً لأخلاقيات التجارب الطبية، لكن مؤخراً في العام الماضي، كانت هناك هذه الكلمة الغامضة التي أيقظت الكابوس مرة أخرى: "كريسبر"!
هل تفتح كريسبر "صندوق باندورا؟"
في أبريل/نيسان 2015، صدمت الصين العالم عندما عبرت الخط الأحمر وقامت بتحرير جينات أجنة بشرية لأول مرة في التاريخ، الفريق الطبي الصيني المكون من 18 باحثاً، قام بإجراء تجاربه على 80 جنيناً بشرياً في المختبر، لكن المجلات العلمية الكبيرة مثل "نيتشر" و"ساينس جورنال" رفضت نشر بحثهم لدواعٍ أخلاقية، فاضطروا لنشرها في مجلة متواضعة تسمى "بروتين آند سيل"، وهو الشيء الذي أثار حالة من الاضطراب والجدل الذي ما زال مستمراً حتى الآن، حيث دفع العلماء آنذاك للمطالبة بعقد قمة تاريخية لتحرير الجينات في ديسمبر/كانون الأول، نظمها علماء من الصين والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، كان النقاش فيها في غاية الإثارة، فمع إن العلماء أجمعوا على الأمل المحتمل الذي تفتحه هذه التكنولوجيا للأمراض الوراثية النادرة والخطيرة، لكن من السهل الانزلاق من تعديل جينات الأجنة في المختبر إلى الأجنة الحية، لا أحد مستعد بعد لعصر يصبح فيه تعديل الحمض النووي مثل مستند في برنامج "مايكروسوفت وورد" كما يقول فيفيك واداوا الباحث في جامعة ستانفورد.
الأمر يشبه صندوق "باندورا" الذي ورد في الأساطير الأغريقية، الذي خرجت منه الشرور، كوابيس عديدة وجدت طريقها عبر كلمة هنا وكلمة من هناك، حالة القلق كانت مسيطرة بقوة على القمة التي يعرف كل عالم فيها أن العالم لن يعود بعد ذلك كما كان، أبداً.
كيف عاد كابوس النازية يؤرق مضجع العالم؟
أكثر من 400 ألف شخص تم إصابته بالعقم ومنعه من الإنجاب للأبد قسراً تحت الحكم النازي، فيما تم قتل أكثر من 300 ألف شخص في معسكرات الاعتقال وأفران الغاز، لينظفوا السلسلة البشرية الوراثية، الأشخاص المعتقلون كانوا من الأجناس التي اعتقد النازيون أنها "أجناس منحطة" مثل أصحاب الإعاقات الجسدية أو العقلية، كالشيزوفرينيا أو الشلل الدماغي، والصم والبكم أو المجانين والمساجين والضعفاء، والغجر والروس والسود، وليس اليهود فقط كما يشيع في الإعلام، كما إنهم حرصوا على منع الزيجات غير النقية بالإجبار، النازيون كانوا يهدفون إلى جعل "الجنس الآري" الفائق برأيهم، سائداً، وقد حاولوا إثبات تفوقه بوسائل مخادعة مثل القول بإن حجم أدمغتهم أكبر، أو اختلاف فصائل دمائهم، أو ارتفاع خصوبة نسائهم بعد سن الـ 49، ثم قرروا لعب دور الإله، وخلق بشرية جديدة بعد تنظيفها وتطهيرها عرقياً.
النازيون الجدد المختبئون خلف أقنعة العلماء، يمكنهم أن يستغلوا "كريسبر" في "تصميم الأطفال"، بحسب مقاييسهم للجنس الفائق، من ناحية الذكاء أو الجمال والقوة البدنية، هذا ما جعل دانيال كيفليس، المؤرخ في جامعة ييل يتحدث في قمة تحرير الجينات عن حركة تحسين النسل التي حدثت في أوائل القرن الـ 20 وعن استغلال النازيين لها، كما إن مارسي دارنوفسكي خبيرة علم الأخلاقيات قالت شيئاً شبيهاً بهذا عندما حذرت من خطر كريسبر على المجتمع الذي سينقسم إلى أبناء الأغنياء المعدلين جينياً كي يصبحوا أكثر ذكاء وصحة وأبناء الفقراء الذين سوف يتركون بكل نواقصهم حتى ينقرضوا.
وربما هناك "جوزيف منجليه" نازي آخر مختبئ في ركن من أركان الأرض، لديه أفكار جنونية عن تفوق جنسه، وينتظر اللحظة المناسبة فحسب، لكن، بدل معسكرات الاعتقال لديه المختبر، وبدلاً من المساجين لديه الأجنة معدومة الحيلة، وبدلاً من أفران الغاز والقنابل والرصاص، لديه "كريسبر".
الجمال القبيح.. جيش دمى الـ "باربي" قادم
السماح بتحرير الجينات في الأجنة لأهداف طبية سيفتح الباب أمام التغييرات التجميلية أيضاً، في عصر العولمة الكثير من "كيم كاراديشيان" يظهرن في كل مكان توجه إليه عينيك، الكثير من الشفاه المنتفخة والمؤخرة التي تشبه زجاجة المياه الغازية، لتحاصرك من كل الاتجاهات، على الشاشات، ولوحات الإعلانات، وفي الشوارع ومكتب العمل.
لكن برغم النسخ الشكلية، فإن الاختلافات الوراثية ما تزال تحافظ إجبارياً على شعرة من التمايز البشري، الذي يفرقنا مظهرياً عن مستعمرات النمل أو النحل مثلاً، وهو الشيء الذي سيتدهور بشكل مرعب، عندما تتمكن الأمهات من الحصول على أطفال "حسب الطلب"، لن يكون من المستبعد أن تشاهد جيشاً من دمى "الباربي" في المدارس والحضانات، ليمرر نفس الجينات للجيل القادم، الشيء الذي يضع نهاية للتنوع الجيني، ويقضي على وجود الجمال في العالم لصالح النسخة الواحدة.
مثل فيلم "الجزيرة": هل نشهد أجنة تنمو كقطع غيار؟
فيلم الخيال العلمي The Island أو "الجزيرة"، قدم قصة تحكي عن وجود بشر اكتشفوا بشكل فجائي أنهم مجرد نسخ من بشر آخرين، وأنهم مجرد قطع غيار لهؤلاء البشر الذين يدفعون مقابل ذلك، البطل أدرك أنه موجود لتعويض كبد صاحبه الأصلي الذي تدمر بفعل التهاب كبدي فيروسي، أما البطلة فقد كانت على وشك سلب أعضائها بعدما تعرضت صاحبتها لحادث سيارة.
السيناريو لن يكون خيالاً بعيداً، فدولة مثل الصين بدأت منذ العام 1970 باستخدام السجناء المحكوم عليهم بالإعدام أو الميتين دماغياً كقطع غيار لزراعة الأعضاء البشرية، ومع إن الجمعية الطبية العالمية نددت في 1985 ببيع وشراء الأعضاء البشرية بسبب مخاوفها من دفع البلاد الأكثر فقراً للجوء إلى بيع الأعضاء للدول الغنية لحل مشكلاتها، وهو نفس الأمر الذي فعلته منظمة الصحة العالمية، لكن لم تتم صياغة أي قوانين تمنع الصين من الاستمرار، وفي 1998 اتفقت الجمعية الطبية الكورية مع نظيرتها الصينية على منع هذه العملية، لكن الصين سحبت اتفاقها عام 2000، لأن التجارة مربحة لها.
مسوخ "فرانكشتاين" تخرج عن السيطرة
صحيفة Washington Post كانت قد ذكرت في تقرير لها عن مخاوف الباحثين من سيناريو "أطفال فرانكشتاين"، على غرار رواية الرعب الشهيرة، عندما أراد فيكتور فرانكشتاين صنع إنسان لاكتشاف سر إكسير الحياة، لكن الأمر يخرج عن السيطرة ويظهر مسخ بالغ القبح يخرج عن السيطرة.
الأمر ذاته قد يحدث إذا أدى عبثنا بعدد قليل من الجينات إلى مجموعة كاملة من التداعيات والأخطاء الجينية التي لا رجعة فيها، الشيء الذي لن يؤثر على الجيل الأول فقط وإنما على الأجيال التالية أيضاً، حيث سيغير كل خلية في أجسادهم دون رجعة وإلى الأبد كما نشر مركز العلوم الجينية والمجتمع في بيان إعلامي له، لهذا يركز أصحاب الأموال حالياً على تمويل الشركات التي تستخدم كريسبر في المناطق الأكثر أماناً مثل معالجة الأمراض الجينية دون العبث بالخلايا الوراثية.
ويبدو أن أبريل/نيسان شهر مميز بالنسبة لتكنولوجيا كريسبر مع الأجنة البشرية، فبالإضافة إلى الاختراق الذي قام به الفريق الصيني عندما كان أول من يقوم بتحرير جينات الأجنة البشرية فيه العام الماضي، أعلن علماء صينيون في أبريل/نيسان هذا العام عن قيامهم بتعديل جينات في الأجنة لمحاولة تحصينهم ضد فيروس نقص المناعة الإيدز، نجحت في أربعة أجنة فقط، لكن أحد الباحثين في الفريق قال إن الصين لم تصل للدرجة التي بلغتها المملكة المتحدة عندما أعلنت الحكومة أنها تعطي الرخصة لفريق من العلماء يقوم بتحرير جينات أجنة غير قابلة للحياة للكشف عن سبب الإجهاض والعقم، لتكون الموافقة الحكومية الأول في العالم، لكن اليابان لحقتها في آخر أبريل أيضاً هذا العام لتعلن موافقتها على تحرير الأجنة في المختبرات، لكن بدون أن تتطور إلى تجارب إكينيكية تحمل بها النساء وتبعث إلى الحياة.
قمة واشنطن الجينية حدث فيها اختلاف على أهمية الأبحاث، لكنها أجمعت على وجوب عدم الوصول بتجارب تحرير الجينات في الأجنة إلى مرحلة بعث الحياة في الوقت الحالي حتى يتم التأكد من أمانها الكامل، المجموعة الصينية الأولى التي قامت بهذه التجربة كانت في غاية الموضوعية عندما أعلنت أن المشكلات واجهتها، وعن كونهم أوقفوا البحث بعد النتائج السيئة، وأن الجنين في بعض الأحيان يتجاهل قالب الجين المضاف ويحدث طفرات وراثية غير متوقعة في نفسه، قائلين أنهم يدركون أن التكنولوجيا التي استخدموها غير ناضجة البتة، وأنه يتعين عليهم أن يكونوا دقيقين مئة بالمئة لإنتاج أجنة طبيعية، لكن، بحد تعبير "الواشنطن بوست"، يصعب ألا نعترف أن تكنولوجيا كريسبر أخرجت الجين (وليس الجني) من القمقم!